تنسيق الثانوية العامة 2025 ..شروط التنسيق الداخلي لكلية الآداب جامعة عين شمس    فلكيًا.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر و10 أيام عطلة للموظفين في أغسطس    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 1 أغسطس 2025    5 أجهزة كهربائية تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء خلال الصيف.. تعرف عليها    أمازون تسجل نتائج قوية في الربع الثاني وتتوقع مبيعات متواصلة رغم الرسوم    إس إن أوتوموتيف تستحوذ على 3 وكالات للسيارات الصينية في مصر    حظر الأسلحة وتدابير إضافية.. الحكومة السلوفينية تصفع إسرائيل بقرارات نارية (تفاصيل)    ترامب: لا أرى نتائج في غزة.. وما يحدث مفجع وعار    الاتحاد الأوروبى يتوقع "التزامات جمركية" من الولايات المتحدة اليوم الجمعة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. مستندات المؤامرة.. الإخوان حصلوا على تصريح من دولة الاحتلال للتظاهر ضد مصر.. ومشرعون ديمقراطيون: شركات أمنية أمريكية متورطة فى قتل أهل غزة    مجلس أمناء الحوار الوطنى: "إخوان تل أبيب" متحالفون مع الاحتلال    حماس تدعو لتصعيد الحراك العالمي ضد إبادة وتجويع غزة    كتائب القسام: تدمير دبابة ميركافا لجيش الاحتلال شمال جباليا    عرضان يهددان نجم الأهلي بالرحيل.. إعلامي يكشف التفاصيل    لوهافر عن التعاقد مع نجم الأهلي: «نعاني من أزمة مالية»    محمد إسماعيل يتألق والجزيرى يسجل.. كواليس ودية الزمالك وغزل المحلة    النصر يطير إلى البرتغال بقيادة رونالدو وفيليكس    الدوري الإسباني يرفض تأجيل مباراة ريال مدريد أوساسونا    المصري يفوز على هلال الرياضي التونسي وديًا    انخفاض درجات الحرارة ورياح.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة    عملت في منزل عصام الحضري.. 14 معلومة عن البلوجر «أم مكة» بعد القبض عليها    بعد التصالح وسداد المبالغ المالية.. إخلاء سبيل المتهمين في قضية فساد وزارة التموين    حبس المتهم بطعن زوجته داخل المحكمة بسبب قضية خلع في الإسكندرية    ضياء رشوان: إسرائيل ترتكب جرائم حرب والمتظاهرون ضد مصر جزء من مخطط خبيث    عمرو مهدي: أحببت تجسيد شخصية ألب أرسلان رغم كونها ضيف شرف فى "الحشاشين"    عضو اللجنة العليا بالمهرجان القومي للمسرح يهاجم محيي إسماعيل: احترمناك فأسأت    محيي إسماعيل: تكريم المهرجان القومي للمسرح معجبنيش.. لازم أخذ فلوس وجائزة تشبه الأوسكار    مي فاروق تطرح "أنا اللي مشيت" على "يوتيوب" (فيديو)    تكريم أوائل الشهادات العامة والأزهرية والفنية في بني سويف تقديرا لتفوقهم    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    الزمالك يهزم غزل المحلة 2-1 استعدادًا لانطلاقة بطولة الدوري    اصطدام قطار برصيف محطة السنطة وتوقف حركة القطارات    موندو ديبورتيفو: نيكولاس جاكسون مرشح للانتقال إلى برشلونة    مجلس الشيوخ 2025.. "الوطنية للانتخابات": الاقتراع في دول النزاعات كالسودان سيبدأ من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء    «إيجاس» توقع مع «إيني» و«بي بي» اتفاقية حفر بئر استكشافي بالبحر المتوسط    مجلس الوزراء : السندات المصرية فى الأسواق الدولية تحقق أداء جيدا    فتح باب التقدم للوظائف الإشرافية بتعليم المنيا    رئيس جامعة بنها يصدر عددًا من القرارات والتكليفات الجديدة    أحمد كريمة يحسم الجدل: "القايمة" ليست حرامًا.. والخطأ في تحويلها إلى سجن للزوج    فوائد شرب القرفة قبل النوم.. عادات بسيطة لصحة أفضل    متى يتناول الرضيع شوربة الخضار؟    تكريم ذوي الهمم بالصلعا في سوهاج.. مصحف ناطق و3 رحلات عمرة (صور)    حركة فتح ل"إكسترا نيوز": ندرك دور مصر المركزى فى المنطقة وليس فقط تجاه القضية الفلسطينية    أمين الفتوى يوضح أسباب إهمال الطفل للصلاة وسبل العلاج    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    الإفتاء توضح كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير الخارجية الفرنسي: منظومة مساعدات مؤسسة غزة الإنسانية مخزية    ممر شرفى لوداع لوكيل وزارة الصحة بالشرقية السابق    رئيس جامعة بنها يشهد المؤتمر الطلابي الثالث لكلية الطب البشرى    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن الشِعرِ والأنوثةِ وأوَّلِ المطر
نشر في شموس يوم 11 - 12 - 2017


مرايا نثريَّة (8)
حكي عالماشي
لمن نكتبُ الشِعر وننشرهُ ونطبعهُ بعدَ ذلكَ في دواوين أنيقةٍ في زمنٍ لا تجدُ أحداً يسأل عنه.. أو يسعى لقرائته وشراءِ الدواوين الشعريَّة سوى نخبة النخبة أو الشعراء أنفسهم؟ أمسِ صباحا كنت في مدينة شفاعمرو أقرب المدن في الداخل الفلسطيني إلى قلبي وقريتي، التقيت هناك بأصدقاء مثقفين أعتز بهم.. قمت بإهدائهم نسخاً من دواوين شعريَّة لي كانت معي في حقيبة تلازمني أحياناً عندما أزور بين الفينة والأخرى مدناً فلسطينيةً كحيفا أو الناصرة أو يافا أو جنين أو نابلس وغيرها.. أزور المكتبة البلدية وأتركُ عدةَ نسخٍ من هذا الديوان او ذاك، لتكون هناك وللتخفُّفِ من وجعٍ وجوديٍّ في داخلي لصراخ هذه الكتب المركونة في بيتي منذ سنوات، البارحة صدمني أحدُ الأصدقاء بوابل من أسألة وجودية.. لماذا توزِّع ولا أحد يقرأ؟ ولماذا لا تبحث عمَّن يدعمك.. معنويا.. ماديا؟ مركز ثقافي؟ مؤسسة ثقافية ربحيَّة تشتري منك الكتابَ ولو بربعِ أو حتى خمسِ سعرهِ؟ وما الذي تنتظرهُ من هذا الأمر؟ أليسَ الأجدى أن توفِّر تعبكَ ومالك وتستثمرهما في أشياء أكثر أهميَّةً وجدوى مشيراً إلى إرسالي لكتبي عبر البريد الأرضي والجوِّي لأصدقاء ومكتبات في البلاد وخارجها؟ كانَ يتكلَّم بحرقة ولأنه مقرَّب مني ويعرف أنني لستُ مليونيراً؟ وأمارس أحيانا أعمالا شاقةً لأعتاش.. أوضحتُ له أن الكتابةَ لديَّ إيمانٌ طفوليٌّ ممزوجٌ بتسليةٍ عبثيَّة لا أستغني عنها.. فيها أجدُ معنىً لحياتي ولا أنظرُ إليها على أنها خسارةٌ مطلقةٌ، أعطاني في النهاية رقم أحد الأشخاص وقال لي أنه بائع كتبٍ لمكتباتِ المدارس والمدن والقرى، عندما هاتفتهُ في المساء وطرحت عليه الفكرةَ أصبحَ يصرخُ ويولولُ كالمجانين ويقول لي: (كل شي ولا كتب الشعر والأدب.. مش مستعد أشتريها ولو بقرش أصفر.. وما تسألني ليش؟!)
***
نيكوتين إلكتروني
أن يصيب خلل ما حاسوبك الشخصي وتستيقظ صباحا مكتفيا بالهاتف الخلوي الذي لا تستسيغ أستعماله فيسبوكيا وبك كل عطش الدنيا للنيكوتين الالكتروني.. دليل قاطع على تحولنا لكائنات افتراضية طائرة.. واختبار نفسي لذيذ يؤكد التواشج الحميم الجميل في العلاقة والتعلق بالآخر.
***
لغةُ الفيسبوك
يستعمل بعض الأصدقاء والصديقات لغةً جارحة.. قاسية.. عارية تصلُ أحيانا حد الشتيمة الشخصية وهم يعبرون عن امتعاضهم من تجاهل أصدقائهم لمنشوراتهم وصورهم على مواقع السوشيال ميديا وعدم تفاعلهم بتاتا مع وجودهم فيها.. مع أن هذا غباء أو شيء قريب منه.. تماما كالاحتفاء بأصدقاء افتراضيِّين لم تحظ منهم ولو بلفتة واحدة عبر خمس سنين.
***
أوَّلُ المطر
منذ الصباحِ والمطرُ الأوَّلُ يهطلُ، حيناً بغزارةٍ وحيناً آخر برذاذٍ خفيفٍ، كم أُحبُّ المطرَ الأوَّلَ أو أوَّلَ المطر والذي نسمِّيهِ (الوسميَّ).. لم أهدأ اليوم.. لأكثر من ساعتين وأنا أتأملُّهُ بعينيْ عاشق، أمُدُّ يدي من نافذة غرفتي وأشمُّ رائحتهُ النهارية.. تلكَ الرائحة المعجونة بخميرة أزهار بريَّة، والتي تحملُ شيئاً من رائحةِ السماء، وشيئاً من رائحةِ غبارِ الأرضِ، وأشياءَ لا تحصى من الأحاسيس الجميلةِ والذكريات، أُبلِّلُ قلبي بمطر تشرين.. أتقافزُ تحتهُ كالقطِّ الصغير، لا أعرفُ ما هو تشرين، أقربُ الشهورِ إلى روحي التي وُلدت مساءَ أربعاءٍ فيهِ،وحملتْ بعض غموضهِ وبرودة شمسهِ وشغفَ نهاراتهِ بالجمال، تشرينُ قصيدةٌ غامضةٌ نقرأها مئات المرَّات وفي كلِّ مرَّةٍ نكتشفُ فيها شيئاً مغايراً أو مختلفاً عمَّا وجدناهُ في قراءاتنا السابقة، تشرين هو مهدُ الشعراءِ المصنوعُ من قطنِ الغيمِ ومن براءةِ الينابيعِ الصغيرةِ، تشرينُ يدُ امرأةٍ من الجليلِ موشومةٍ بالحنَّاء.. خصرُ فتاةٍ أهيف.. روحُ شاعرٍ منسيٍّ.. قصائدُ ضاعتْ في مهبِّ رياحِ الخريف، لا أعرفُ ما هو تشرين.
***
فرادةُ حسين القهواجي
أكتبُ وأبحثُ عن الحقيقيِّين في الواقع وفي العوالم الإفتراضيَّة.. أكتبُ وأشطبُ، أكتبُ وأنسى.. أكتبُ وأرمي في سلَّةِ المهملاتِ.. أبحثُ عن كلِّ شيءٍ يعيدُ توازنَ روحي إليَّ، عن كلِّ شيءٍ يضيءُ روحي ولو كانَ بحجمِ ذرَّة رملٍ أو نقطةِ ماء، أبحثُ وأفشل ولكن كيف لم أعثر على إنسان كحسين القهواجي الشاعر والكاتب التونسي الذي غادر عالمنا قبل أيَّام؟ كانَ حسين القهواجي ذاكرةَ القيروان المشعَّة وحارس قلبها وأحلامها، وأحد أصفى منابعِ البراءةِ والدهشةِ في الشعر العربي الحديث، مثقَّف جوَّال بروح فراشة أو نجمةٍ أو شجرة، تركَ شيئاً من شغفهِ في آجُّرِ أعمدةِ القيروان ومبانيها العتيقةِ، في وهجِ صلصالها وفضاءاتها الانهائيَّةِ، كم تركَ حسين في داخلي من يقين بالشِعرِ وبالفنِ وبحبِّ الجمالِ حتى ولو كانَ بعيداً وعصيَّ المنال، تنفَّسَ حسين عبر النثرِ الشعريِّ العفويِّ الممسوسِ بالصدق واللهفة وتركَ واءهُ عدَّة دواوين هي بنظري من أصدق تجارب قصيدة النثر التونسيَّة، نذكرُ من أعماله «غراب النبوءات»، «باب الجلادين»، «كمان البيت وشمعدانه»، «أحفاد سقراط وصلوا قرطاجة»، «فجر من وراء الزيتون ينهض».
رثاهُ الكاتب أنيس الشعبوني رثاءً رقيقاً صادقاً حيث قالَ عنهُ ( حسين القهواجي كان يعتبر نفسه حارساً للمدينة (القيروان) ولروحها كأنّه أحد أوليائها الصالحين، وقد أحبه كل الذين زاروا القيروان لشاعريته المفرطة وعمق إلمامه بتاريخ المدينة).
***
الشِعرُ في عُهدةِ الأنوثة
قرأنا في كتب التراث والأدب الجاهليِّ كيفَ أن كلَّ شاعرٍ كبير كانَ يتخذُّ راويةً لهُ، والراويةُ هو شاعر مفترض أو مشروع شاعرٍ مستقبلي مهمتهُ إلقاء قصائد ذلك الشاعر والتي يحفظها عن ظهرِ قلبٍ في المحافلِ والأندية، كانَ بمثابة جهة إعلامية تساعد على انتشار وسيرورة شِعر من يروي لهُ، والشعراء جميعاً، هم في أول امرهم بالشعررواة شعر، ولا يكون الشاعر منهم شاعراً حتى يحفظ الشعر ويرويه، لانَّ الحفظ يساعده على قول الشعر ونظمه فيما بعد، ويكون تمرينناً أوليَّاً له، فأكثر شعراء العرب في الجاهليَّة وصدرِ الإسلامِ هم رواة في الاصل، حفظوا من الشعر ما ساعدهم على النظم، يضاف اليه موهبة الشاعر وسليقته فيه. وقد يقال إن الشاعر الراوية أمكن في الشعر وأقدر عليه من الشاعر، الذي لا يروي من الشعر الا نزراً يسيراً، أو لا يحفظ منه شيئاً، لأن الشاعر الراوية يتعلم من فنون الأقدمين ومن خبرتهم وتجاربهم في النظم ما يخفى على من ليس له علم سابق بهِ.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من شعراء الجاهلية في قول الشعر بروايته وحفظه، ثم صاروا من أكابر الشعراء فيما بعد، نذكر منهم زهير بن ابي سلمى، فقد بدأ حياته في الشعر راويةً لشعر "أوس بن حجر"، وكان أوس راوية الطفيل الغنوي وتلميذه. ومنهم "كعب بن زهير بن ابي سلمى"، فقد كان راويةً لوالدهِ، ثم "الحطيئة"، فقد بدأ الشعر براوية شعر "زهير" وآل زهير. وكان "زهير" راويةَ "طفيل" الغنوي أيضاً، وكان "أمرؤ القيس" راوية "أبي دواد" الإيادي، وكان الأعشى راوية لشعر "المسيَّب بن علس"، والمسيَّب خال الأعشى.
ولا نكاد نجد شاعراً لم يحفظ شعرَ غيره من الشعراء المتقدمين عليه، أو من المعاصرين له، ولا يكون شاعراً فحلاً في الشعر، إلا إذا حفظ من شعر غيره من الشعراء الفحول، فحفظ الشعر يدربُّهُ ويقوِّيهِ على نظمهِ، وكذلك كان أمرُ الشعراء الجاهليِّين، ويؤيد هذا الرأي ما نجدهُ في الأخبار من حفظ الشعراء شعر غيرهم، ومن مناقشتهم للشعراء في شعرهم، مما يدلُّ بالطبع على حفظهم له.
ما جرَّني لكتابة هذا التعريفِ برواةِ الشعر القدماء ظاهرة فيسبوكيَّة إستوقفتني موخرَّاً بشيءٍ من الحيرةِ والإستغراب، بعدما اكتشفتُ أن إحدى الصديقات احتفتْ بأحد نصوصي الشعريَّة قبل ما يقارب العام، حيث حصل ذلك النصُّ المنشور في صفحتها على 249 لايك و94 تعليق.. بينما لم يحظَ بصفحةِ كاتبهِ على عُشرِ هذا العدد من اللايكاتِ.. وبلا أيِّ تعليقٍ، مع الإشارةِ إلى أن عدد أصدقاء صفحتهِ يشكِّلُ أضعافاً مضاعفةً لعدد أصدقاءِ صفحةِ الصديقةِ التي نشرت القصيدة، هنا ينبثقُ السؤال الملِّح والأبديُّ.. هل على الشاعر أن يتخِّذَ من المرأة راويةً على طرازٍ حديثٍ لشعرهِ كي توصلهُ إلى حدودٍ تُرضي نرجسيَّته الشعريَّة؟ هل عليهِ أن يعلِّقَ قصائدهُ على حبالِ الأنوثةِ والجمالِ لكي يقرأها الآخرون في زمنِ متاهاتِ الرياءِ والمجاملات والنفاقِ الاجتماعيِّ؟
***
طعمُ الشغف
وأنا في الطريقِ للقاء الشاعر الفلسطينيِّ الصديق المقيم في الجليل الفلسطيني عبد المحسن نعامنة كنت أفكِّرُ بصدر بيت المتنبي (على قلقٍ كأنَّ الريحَ تحتي) وأحاولُ تحويرهُ ليصبحَ (على شوقٍ كأنَ الريحَ تحتي) ذلكَ أن صداقتنا الافتراضيَّة طالتْ وصارً يجبُ على أن نضفي عليها جمال اللمسة الواقعيَّة ونستبدلَ المجازَ بالحقيقة، فكثيرا ما محضني هذا المبدع الأصيل محبته الصافية عبر منشورات تدلُّ على إعجابه ببعض ما أنثرهُ في الفضاءات الزرقاء وكنتُ كلَّما رأيتُ ما خطَّت أناملهُ من وفاءٍ يتلبَّسُ لبوس الكلمات أقولُ في سرِّي: شكرا لقلبك صديقي على هداياك الجميلة والمدهشةِ.. نادراً ما أصادف رجالاً بمثل شفافيَّتك وبساطة روحك وأناقتها حتى وأنت في خضمِّ العمل الشاقِّ الذي تمارسهُ لتعتاشَ.. أتذكَّرُ حينَ قلت لي ذات يومٍ أيها العزيز بأنَّ القصيدةَ هي كلمة نقولها ونمضي.. شجرةٌ نزرعها لآخرين.. وأنا أوافقك وأثق بك.. بصداقتك الحقيقيَّة القريبة من الحبِّ ونبلِ الصدق.. كلِّي فرحٌ غامرٌ بما أقرأ لك من أدبٍ يدلُّ على روح مثقفة متوثبة ثائرة وحالمة بالحرية.. أحسُّ بروحك الوثابة في كل جملةٍ، أحسُّ بثورة روحك كجمرٍ تحت الرماد يعانقُ الريحَ الخضراء، صداقتنا باقية وستكتملُ وقد كان يجب أن نحوِّلَ الافتراضَ الى واقع منذ زمن.. بعد انتظار خمس سنوات ونصف.. سأقولُ بأنني أنتمي إليك.. إلى هذه الطبقة المقدَّسةِ التي تأكل خبزها المغمَّس بعرق الجبين.. وهي تضحكُ في وجهِ عذاباتِ الحياة بعذوبةِ الأنهار.. قابلتُ في حياتي مئات الأدباء والشعراء ولكن لقائي المرتجل بك على عجل كان استثنائيا ومميَّزاً.. كان الشغفُ الصافي يحملني.. يفكِّرُ عني.. يحرِّكني كأوراقِ شجرِ الخريفِ في تلكَ الظهيرةِ الغامضةِ، ليس لأنك من نفس الجيل الذي أنتمي اليهِ شعريَّاً وعمريَّاً فحسب، ولا لأن أفكارنا السياسية تتوافق.. ولا لأن الأرواح جنود مجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تنافر اختلف.. بل لأسباب عديدة.. لا أجد المجاز المناسب الذي يشرحها الآن، ولكن سأفسِّرها بالقصائد ذات يومٍ، وأنا الذي كثيراً ما طلبتُ منك أن تكرِّس نفسك للكتابة وتحرص على كل حرف وتحميه من الضياع.. أن تكملَ نقصانَ هؤلاء الشعراء المنسيِّين، وأن تلتفت الى نبض قلبك والى هذه الرسالة التي نمهر حياتنا لها.. من غير انتظار مقابل.. فالشعر هو مجاز حياتنا المجرد.. هو هامش يتأرجح بين المتن والحقيقة.. هو أحدُ أجمل وأعلى وأكملِ تجلياتنا.
***
قصيدةٌ بلا أيديولوجيا
يتهمُّ البعضُ قصيدتي بأنها قصيدة بلا أيديولوجيا أو أنها خالية من موقف فكري سياسي محدَّد، لا أعرف أيَّة أيديولوجيا يريدون مني أن ألبسها لقصيدة ترقص حرَّة وشبه عارية تحت المطر وفي الهواء الطلق؟ الأيديولوجيا بنظري تختلف اختلافاً جذريَّاً وقاطعاً عن مفاهيم سائدة وبالية لا أعتبرها تدخل في صلب ما تعنيه لي هذه الأيديولوجيا ولا تبلور رأياً نقديَّاً بحتاً وموضوعيَّاً بالنسبة لكتابتي الشعريَّة، فقصيدتي ليست دفاعاً عن فكرة سياسيَّة أو دينيَّة أو قوميَّة.. بقدر ما هي لمسةٌ شغفيَّة وبعدٌ إنسانيٌّ وخربشةٌ بريئةٌ على الماء، مجازُ القصيدة هو فضاءُ حريِّتها.. لذلك فهي دائماً مع الخاسر والضحيَّة على حدِّ قول الرائي الإسباني العظيم فيدريكو غارسيا لوركا، سبقَ وعبرَّتُ بنصوص كثيرة عن الخراب الهائل الناتج عن الخريف العربي وخسرتُ أصدقاءً رائعين ولكنني كنتُ مرتاحاً لأنَّني نطقت بكلماتٍ كانت روحي تغصُّ بها، سألني مرةً صديق: مع من قصيدتك؟ فأجبتهُ: مع تشي جيفارا، مع الحريَّة الخاسرة، مع لثغة طفلةٍ في الخامسة، مع نقشِ حنَّاءٍ على يدِ امرأةٍ فلَّاحةٍ، قصيدتي هي فرحي وحزني وغضبي وحُبِّي واكتمالي ونقصاني، أيدولوجيا قصيدتي الحقيقيَّة هي إعتناقُ الجمالِ كما هو بدون رتوش إضافيَّة، ورفضُ مرايا التاريخ الأسود.. هي محاولة للقفز عن كوابيس حصلت في أمكنةٍ ما في هذه الأرض.. كوابيس أحاولُ نسيانها ورفضها منذُ حروبِ البشريَّةِ الأولى إلى ما يجري الآن في سوريا واليمن والعراق وغيرها.
***
ظهيرة ورديَّة
في مدينةِ جنين في شمالِ قلبِ فلسطين تحسُّ بطيبةِ وكرمِ وأناقةِ روحِ الشعبِ الفلسطينيِّ وأصالتها.. في جنين والقدس وغزَّة ورام الله ونابلس وغيرها من مدنِ الضفَّة الغربيَّة.. تشعرُ بانتمائكِ الروحي لهذا الشعبِّ العظيم بالرغم من الحواجز الوهميَّة.. أقولُ في جنين تحسُّ بذلك الأمان النفسي الجميل الذي لا تمنحك إياهُ لا حيفا ولا الناصرة ولا يافا، وتشعرُ بعفويَّةِ الناسِ وبساطتهم ونبلِ أخلاقهم، في ظهيرةِ جنين الخريفيَّةِ الورديَّةِ كانت طفلةٌ بشعرٍ ذهبيٍّ وعينينِ بحريَّتين، طفلةٌ آيةً في الجمالِ والعذوبةِ، أظنُّها في السادسةِ أو السابعةِ من عمرِها، تتسوَّلُ المارَّةَ في منطقةِ المدينةِ الصناعيَّة.. تقتربُ من كلِّ رجلٍ بخطىً خجولةٍ وصوتٍ مرتعشٍ (ساعدني عمَّو.. الله يخليك).. يكرمها الجميع بسخاء.. للوهلةِ الأولى تكسرُ هذه الطفلةُ قلبي.. تطفرُ من قلبي دمعةٌ وأنا أقتربُ منها وأُعطيها ما فيهِ النصيب.. أنحني عليها وأسألها (عمَّو ليش تشحدي.. ما عندك أهل؟) فتنزلقُ من عينيها دمعةٌ غير مرئيَّة وهي تجيبني بصوتها المائيِّ (عمَّو.. أبي متوفي وأُمي مريضة).. تنكسرُ روحي من هولِ حرمان الأب.. ومن ضعفِ الأُم.. لأوَّلِ مرَّةٍ أنكسرُ بهذا الوجعِ أمامَ طفلةٍ في ظهيرةٍ ورديَّة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.