عباس شراقي: فيضانات السودان غير المعتادة بسبب تعطل توربينات سد النهضة    البداية الرقمية للنقل الذكي في مصر.. تراخيص إنترنت الأشياء للمركبات تدخل حيز التنفيذ    وزير الإسكان: بدء تصنيف حالات الإيجار القديم وفق شرائح الدخل    لماذا كل هذه العداء السيساوي لغزة.. الأمن يحاصر مقر أسطول الصمود المصري واعتقال 3 نشطاء    مقتل شخص وإصابة 15 في هجوم روسي على مدينة دنيبرو الأوكرانية    تشكيل منتخب مصر أمام نيوزيلندا في كأس العالم للشباب    سلوت عن جلوس صلاح على مقاعد البدلاء أمام جالاتا سراي: رفاهية الخيارات المتعددة    خطة إطاحة تتبلور.. مانشستر يونايتد يدرس رحيل أموريم وعودة كاريك مؤقتا    مصرع 7 عناصر إجرامية وضبط كميات ضخمة من المخدرات والأسلحة في مداهمة بؤرة خطرة بالبحيرة    الأرصاد: الخريف بدأ بطقس متقلب.. واستعدادات لموسم السيول والأمطار    مفتي الجمهورية يبحث مع وفد منظمة شنغهاي آليات التعاون ضد التطرف والإسلاموفوبيا    مواقيت الصلاة فى أسيوط غدا الأربعاء 1102025    ماجد الكدوانى ومحمد على رزق أول حضور العرض الخاص لفيلم "وفيها ايه يعنى".. صور    أمين الفتوى: احترام كبار السن أصل من أصول العقيدة وواجب شرعي    ولي العهد يتسلم أوراق اعتماد سفراء عدد من الدول الشقيقة والصديقة المعينين لدى المملكة    محافظ القاهرة يناقش ملف تطوير القاهرة التراثية مع مستشار رئيس الجمهورية    من القلب للقلب.. برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    بعد رصد 4 حالات فى مدرسة دولية.. تعرف علي أسباب نقل عدوى HFMD وطرق الوقاية منها    جارناتشو يقود هجوم تشيلسى ضد بنفيكا فى ليلة مئوية البلوز    البورصة المصرية.. أسهم التعليم والخدمات تحقق أعلى المكاسب بينما العقارات تواجه تراجعات ملحوظة    هل يجوز للمرأة اتباع الجنازة حتى المقابر؟ أمين الفتوى يجيب.. فيديو    "أنا حاربت إسرائيل".. الموسم الثالث على شاشة "الوثائقية"    أحمد موسى: حماس أمام قرار وطنى حاسم بشأن خطة ترامب    محافظ قنا يسلم عقود تعيين 733 معلمًا مساعدًا ضمن مسابقة 30 ألف معلم    داعية: تربية البنات طريق إلى الجنة ووقاية من النار(فيديو)    نقيب المحامين يتلقى دعوة للمشاركة بالجلسة العامة لمجلس النواب لمناقشة مشروع قانون "الإجراءات الجنائية"    بلاغ ضد فنانة شهيرة لجمعها تبرعات للراحل إبراهيم شيكا خارج الإطار القانوني    "الرعاية الصحية" تطلق 6 جلسات علمية لمناقشة مستقبل الرعاية القلبية والتحول الرقمي    البنك الزراعي المصري يحتفل بالحصول على شهادة الأيزو ISO-9001    محمود فؤاد صدقي يترك إدارة مسرح نهاد صليحة ويتجه للفن بسبب ظرف صحي    مصر تستضيف معسكر الاتحاد الدولي لكرة السلة للشباب بالتعاون مع الNBA    بدر محمد: تجربة فيلم "ضي" علمتنى أن النجاح يحتاج إلى وقت وجهد    «العمل» تجري اختبارات جديدة للمرشحين لوظائف بالأردن بمصنع طوب    بعد 5 أيام من الواقعة.. انتشال جثمان جديد من أسفل أنقاض مصنع المحلة    المبعوث الصينى بالأمم المتحدة يدعو لتسريع الجهود الرامية لحل القضية الفلسطينية    اليوم.. البابا تواضروس يبدأ زيارته الرعوية لمحافظة أسيوط    حسام هيبة: مصر تفتح ذراعيها للمستثمرين من جميع أنحاء العالم    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 رسميًا.. قرار من مجلس الوزراء    الأمم المتحدة: لم نشارك في وضع خطة ترامب بشأن غزة    انتشال جثمان ضحية جديدة من أسفل أنقاض مصنع البشبيشي بالمحلة    وفاة غامضة لسفير جنوب أفريقيا في فرنسا.. هل انتحر أم اغتاله الموساد؟    برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    لطلاب الإعدادية والثانوية.. «التعليم» تعلن شروط وطريقة التقديم في مبادرة «أشبال مصر الرقمية» المجانية في البرمجة والذكاء الاصطناعي    تعليم مطروح تتفقد عدة مدارس لمتابعة انتظام الدراسة    التقديم مستمر حتى 27 أكتوبر.. وظائف قيادية شاغرة بمكتبة مصر العامة    كونتي: لن أقبل بشكوى ثانية من دي بروين    «مش عايش ومعندهوش تدخلات».. مدرب الزمالك السابق يفتح النار على فيريرا    «الداخلية»: تحرير 979 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة ورفع 34 سيارة متروكة بالشوارع    احذر من توقيع العقود.. توقعات برج الثور في شهر أكتوبر 2025    عرض «حصاد» و «صائد الدبابات» بمركز الثقافة السينمائية في ذكرى نصر أكتوبر    بيدري يعلق على مدح سكولز له.. ومركزه بالكرة الذهبية    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر يحدد ضوابط التعامل مع وسائل التواصل ويحذر من انتحال الشخصية ومخاطر "الترند"    قافلة طبية وتنموية شاملة من جامعة قناة السويس إلى حي الجناين تحت مظلة "حياة كريمة"    انكماش نشاط قناة السويس بنحو 52% خلال العام المالي 2024-2025 متأثرا بالتوترات الجيوسياسيّة في المنطقة    ضبط 5 ملايين جنيه في قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    التحقيق مع شخصين حاولا غسل 200 مليون جنيه حصيلة قرصنة القنوات الفضائية    السيسي يجدد التأكيد على ثوابت الموقف المصري تجاه الحرب في غزة    الأهلي يصرف مكافآت الفوز على الزمالك في القمة للاعبين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن الشِعرِ والأنوثةِ وأوَّلِ المطر
نشر في شموس يوم 11 - 12 - 2017


مرايا نثريَّة (8)
حكي عالماشي
لمن نكتبُ الشِعر وننشرهُ ونطبعهُ بعدَ ذلكَ في دواوين أنيقةٍ في زمنٍ لا تجدُ أحداً يسأل عنه.. أو يسعى لقرائته وشراءِ الدواوين الشعريَّة سوى نخبة النخبة أو الشعراء أنفسهم؟ أمسِ صباحا كنت في مدينة شفاعمرو أقرب المدن في الداخل الفلسطيني إلى قلبي وقريتي، التقيت هناك بأصدقاء مثقفين أعتز بهم.. قمت بإهدائهم نسخاً من دواوين شعريَّة لي كانت معي في حقيبة تلازمني أحياناً عندما أزور بين الفينة والأخرى مدناً فلسطينيةً كحيفا أو الناصرة أو يافا أو جنين أو نابلس وغيرها.. أزور المكتبة البلدية وأتركُ عدةَ نسخٍ من هذا الديوان او ذاك، لتكون هناك وللتخفُّفِ من وجعٍ وجوديٍّ في داخلي لصراخ هذه الكتب المركونة في بيتي منذ سنوات، البارحة صدمني أحدُ الأصدقاء بوابل من أسألة وجودية.. لماذا توزِّع ولا أحد يقرأ؟ ولماذا لا تبحث عمَّن يدعمك.. معنويا.. ماديا؟ مركز ثقافي؟ مؤسسة ثقافية ربحيَّة تشتري منك الكتابَ ولو بربعِ أو حتى خمسِ سعرهِ؟ وما الذي تنتظرهُ من هذا الأمر؟ أليسَ الأجدى أن توفِّر تعبكَ ومالك وتستثمرهما في أشياء أكثر أهميَّةً وجدوى مشيراً إلى إرسالي لكتبي عبر البريد الأرضي والجوِّي لأصدقاء ومكتبات في البلاد وخارجها؟ كانَ يتكلَّم بحرقة ولأنه مقرَّب مني ويعرف أنني لستُ مليونيراً؟ وأمارس أحيانا أعمالا شاقةً لأعتاش.. أوضحتُ له أن الكتابةَ لديَّ إيمانٌ طفوليٌّ ممزوجٌ بتسليةٍ عبثيَّة لا أستغني عنها.. فيها أجدُ معنىً لحياتي ولا أنظرُ إليها على أنها خسارةٌ مطلقةٌ، أعطاني في النهاية رقم أحد الأشخاص وقال لي أنه بائع كتبٍ لمكتباتِ المدارس والمدن والقرى، عندما هاتفتهُ في المساء وطرحت عليه الفكرةَ أصبحَ يصرخُ ويولولُ كالمجانين ويقول لي: (كل شي ولا كتب الشعر والأدب.. مش مستعد أشتريها ولو بقرش أصفر.. وما تسألني ليش؟!)
***
نيكوتين إلكتروني
أن يصيب خلل ما حاسوبك الشخصي وتستيقظ صباحا مكتفيا بالهاتف الخلوي الذي لا تستسيغ أستعماله فيسبوكيا وبك كل عطش الدنيا للنيكوتين الالكتروني.. دليل قاطع على تحولنا لكائنات افتراضية طائرة.. واختبار نفسي لذيذ يؤكد التواشج الحميم الجميل في العلاقة والتعلق بالآخر.
***
لغةُ الفيسبوك
يستعمل بعض الأصدقاء والصديقات لغةً جارحة.. قاسية.. عارية تصلُ أحيانا حد الشتيمة الشخصية وهم يعبرون عن امتعاضهم من تجاهل أصدقائهم لمنشوراتهم وصورهم على مواقع السوشيال ميديا وعدم تفاعلهم بتاتا مع وجودهم فيها.. مع أن هذا غباء أو شيء قريب منه.. تماما كالاحتفاء بأصدقاء افتراضيِّين لم تحظ منهم ولو بلفتة واحدة عبر خمس سنين.
***
أوَّلُ المطر
منذ الصباحِ والمطرُ الأوَّلُ يهطلُ، حيناً بغزارةٍ وحيناً آخر برذاذٍ خفيفٍ، كم أُحبُّ المطرَ الأوَّلَ أو أوَّلَ المطر والذي نسمِّيهِ (الوسميَّ).. لم أهدأ اليوم.. لأكثر من ساعتين وأنا أتأملُّهُ بعينيْ عاشق، أمُدُّ يدي من نافذة غرفتي وأشمُّ رائحتهُ النهارية.. تلكَ الرائحة المعجونة بخميرة أزهار بريَّة، والتي تحملُ شيئاً من رائحةِ السماء، وشيئاً من رائحةِ غبارِ الأرضِ، وأشياءَ لا تحصى من الأحاسيس الجميلةِ والذكريات، أُبلِّلُ قلبي بمطر تشرين.. أتقافزُ تحتهُ كالقطِّ الصغير، لا أعرفُ ما هو تشرين، أقربُ الشهورِ إلى روحي التي وُلدت مساءَ أربعاءٍ فيهِ،وحملتْ بعض غموضهِ وبرودة شمسهِ وشغفَ نهاراتهِ بالجمال، تشرينُ قصيدةٌ غامضةٌ نقرأها مئات المرَّات وفي كلِّ مرَّةٍ نكتشفُ فيها شيئاً مغايراً أو مختلفاً عمَّا وجدناهُ في قراءاتنا السابقة، تشرين هو مهدُ الشعراءِ المصنوعُ من قطنِ الغيمِ ومن براءةِ الينابيعِ الصغيرةِ، تشرينُ يدُ امرأةٍ من الجليلِ موشومةٍ بالحنَّاء.. خصرُ فتاةٍ أهيف.. روحُ شاعرٍ منسيٍّ.. قصائدُ ضاعتْ في مهبِّ رياحِ الخريف، لا أعرفُ ما هو تشرين.
***
فرادةُ حسين القهواجي
أكتبُ وأبحثُ عن الحقيقيِّين في الواقع وفي العوالم الإفتراضيَّة.. أكتبُ وأشطبُ، أكتبُ وأنسى.. أكتبُ وأرمي في سلَّةِ المهملاتِ.. أبحثُ عن كلِّ شيءٍ يعيدُ توازنَ روحي إليَّ، عن كلِّ شيءٍ يضيءُ روحي ولو كانَ بحجمِ ذرَّة رملٍ أو نقطةِ ماء، أبحثُ وأفشل ولكن كيف لم أعثر على إنسان كحسين القهواجي الشاعر والكاتب التونسي الذي غادر عالمنا قبل أيَّام؟ كانَ حسين القهواجي ذاكرةَ القيروان المشعَّة وحارس قلبها وأحلامها، وأحد أصفى منابعِ البراءةِ والدهشةِ في الشعر العربي الحديث، مثقَّف جوَّال بروح فراشة أو نجمةٍ أو شجرة، تركَ شيئاً من شغفهِ في آجُّرِ أعمدةِ القيروان ومبانيها العتيقةِ، في وهجِ صلصالها وفضاءاتها الانهائيَّةِ، كم تركَ حسين في داخلي من يقين بالشِعرِ وبالفنِ وبحبِّ الجمالِ حتى ولو كانَ بعيداً وعصيَّ المنال، تنفَّسَ حسين عبر النثرِ الشعريِّ العفويِّ الممسوسِ بالصدق واللهفة وتركَ واءهُ عدَّة دواوين هي بنظري من أصدق تجارب قصيدة النثر التونسيَّة، نذكرُ من أعماله «غراب النبوءات»، «باب الجلادين»، «كمان البيت وشمعدانه»، «أحفاد سقراط وصلوا قرطاجة»، «فجر من وراء الزيتون ينهض».
رثاهُ الكاتب أنيس الشعبوني رثاءً رقيقاً صادقاً حيث قالَ عنهُ ( حسين القهواجي كان يعتبر نفسه حارساً للمدينة (القيروان) ولروحها كأنّه أحد أوليائها الصالحين، وقد أحبه كل الذين زاروا القيروان لشاعريته المفرطة وعمق إلمامه بتاريخ المدينة).
***
الشِعرُ في عُهدةِ الأنوثة
قرأنا في كتب التراث والأدب الجاهليِّ كيفَ أن كلَّ شاعرٍ كبير كانَ يتخذُّ راويةً لهُ، والراويةُ هو شاعر مفترض أو مشروع شاعرٍ مستقبلي مهمتهُ إلقاء قصائد ذلك الشاعر والتي يحفظها عن ظهرِ قلبٍ في المحافلِ والأندية، كانَ بمثابة جهة إعلامية تساعد على انتشار وسيرورة شِعر من يروي لهُ، والشعراء جميعاً، هم في أول امرهم بالشعررواة شعر، ولا يكون الشاعر منهم شاعراً حتى يحفظ الشعر ويرويه، لانَّ الحفظ يساعده على قول الشعر ونظمه فيما بعد، ويكون تمرينناً أوليَّاً له، فأكثر شعراء العرب في الجاهليَّة وصدرِ الإسلامِ هم رواة في الاصل، حفظوا من الشعر ما ساعدهم على النظم، يضاف اليه موهبة الشاعر وسليقته فيه. وقد يقال إن الشاعر الراوية أمكن في الشعر وأقدر عليه من الشاعر، الذي لا يروي من الشعر الا نزراً يسيراً، أو لا يحفظ منه شيئاً، لأن الشاعر الراوية يتعلم من فنون الأقدمين ومن خبرتهم وتجاربهم في النظم ما يخفى على من ليس له علم سابق بهِ.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من شعراء الجاهلية في قول الشعر بروايته وحفظه، ثم صاروا من أكابر الشعراء فيما بعد، نذكر منهم زهير بن ابي سلمى، فقد بدأ حياته في الشعر راويةً لشعر "أوس بن حجر"، وكان أوس راوية الطفيل الغنوي وتلميذه. ومنهم "كعب بن زهير بن ابي سلمى"، فقد كان راويةً لوالدهِ، ثم "الحطيئة"، فقد بدأ الشعر براوية شعر "زهير" وآل زهير. وكان "زهير" راويةَ "طفيل" الغنوي أيضاً، وكان "أمرؤ القيس" راوية "أبي دواد" الإيادي، وكان الأعشى راوية لشعر "المسيَّب بن علس"، والمسيَّب خال الأعشى.
ولا نكاد نجد شاعراً لم يحفظ شعرَ غيره من الشعراء المتقدمين عليه، أو من المعاصرين له، ولا يكون شاعراً فحلاً في الشعر، إلا إذا حفظ من شعر غيره من الشعراء الفحول، فحفظ الشعر يدربُّهُ ويقوِّيهِ على نظمهِ، وكذلك كان أمرُ الشعراء الجاهليِّين، ويؤيد هذا الرأي ما نجدهُ في الأخبار من حفظ الشعراء شعر غيرهم، ومن مناقشتهم للشعراء في شعرهم، مما يدلُّ بالطبع على حفظهم له.
ما جرَّني لكتابة هذا التعريفِ برواةِ الشعر القدماء ظاهرة فيسبوكيَّة إستوقفتني موخرَّاً بشيءٍ من الحيرةِ والإستغراب، بعدما اكتشفتُ أن إحدى الصديقات احتفتْ بأحد نصوصي الشعريَّة قبل ما يقارب العام، حيث حصل ذلك النصُّ المنشور في صفحتها على 249 لايك و94 تعليق.. بينما لم يحظَ بصفحةِ كاتبهِ على عُشرِ هذا العدد من اللايكاتِ.. وبلا أيِّ تعليقٍ، مع الإشارةِ إلى أن عدد أصدقاء صفحتهِ يشكِّلُ أضعافاً مضاعفةً لعدد أصدقاءِ صفحةِ الصديقةِ التي نشرت القصيدة، هنا ينبثقُ السؤال الملِّح والأبديُّ.. هل على الشاعر أن يتخِّذَ من المرأة راويةً على طرازٍ حديثٍ لشعرهِ كي توصلهُ إلى حدودٍ تُرضي نرجسيَّته الشعريَّة؟ هل عليهِ أن يعلِّقَ قصائدهُ على حبالِ الأنوثةِ والجمالِ لكي يقرأها الآخرون في زمنِ متاهاتِ الرياءِ والمجاملات والنفاقِ الاجتماعيِّ؟
***
طعمُ الشغف
وأنا في الطريقِ للقاء الشاعر الفلسطينيِّ الصديق المقيم في الجليل الفلسطيني عبد المحسن نعامنة كنت أفكِّرُ بصدر بيت المتنبي (على قلقٍ كأنَّ الريحَ تحتي) وأحاولُ تحويرهُ ليصبحَ (على شوقٍ كأنَ الريحَ تحتي) ذلكَ أن صداقتنا الافتراضيَّة طالتْ وصارً يجبُ على أن نضفي عليها جمال اللمسة الواقعيَّة ونستبدلَ المجازَ بالحقيقة، فكثيرا ما محضني هذا المبدع الأصيل محبته الصافية عبر منشورات تدلُّ على إعجابه ببعض ما أنثرهُ في الفضاءات الزرقاء وكنتُ كلَّما رأيتُ ما خطَّت أناملهُ من وفاءٍ يتلبَّسُ لبوس الكلمات أقولُ في سرِّي: شكرا لقلبك صديقي على هداياك الجميلة والمدهشةِ.. نادراً ما أصادف رجالاً بمثل شفافيَّتك وبساطة روحك وأناقتها حتى وأنت في خضمِّ العمل الشاقِّ الذي تمارسهُ لتعتاشَ.. أتذكَّرُ حينَ قلت لي ذات يومٍ أيها العزيز بأنَّ القصيدةَ هي كلمة نقولها ونمضي.. شجرةٌ نزرعها لآخرين.. وأنا أوافقك وأثق بك.. بصداقتك الحقيقيَّة القريبة من الحبِّ ونبلِ الصدق.. كلِّي فرحٌ غامرٌ بما أقرأ لك من أدبٍ يدلُّ على روح مثقفة متوثبة ثائرة وحالمة بالحرية.. أحسُّ بروحك الوثابة في كل جملةٍ، أحسُّ بثورة روحك كجمرٍ تحت الرماد يعانقُ الريحَ الخضراء، صداقتنا باقية وستكتملُ وقد كان يجب أن نحوِّلَ الافتراضَ الى واقع منذ زمن.. بعد انتظار خمس سنوات ونصف.. سأقولُ بأنني أنتمي إليك.. إلى هذه الطبقة المقدَّسةِ التي تأكل خبزها المغمَّس بعرق الجبين.. وهي تضحكُ في وجهِ عذاباتِ الحياة بعذوبةِ الأنهار.. قابلتُ في حياتي مئات الأدباء والشعراء ولكن لقائي المرتجل بك على عجل كان استثنائيا ومميَّزاً.. كان الشغفُ الصافي يحملني.. يفكِّرُ عني.. يحرِّكني كأوراقِ شجرِ الخريفِ في تلكَ الظهيرةِ الغامضةِ، ليس لأنك من نفس الجيل الذي أنتمي اليهِ شعريَّاً وعمريَّاً فحسب، ولا لأن أفكارنا السياسية تتوافق.. ولا لأن الأرواح جنود مجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تنافر اختلف.. بل لأسباب عديدة.. لا أجد المجاز المناسب الذي يشرحها الآن، ولكن سأفسِّرها بالقصائد ذات يومٍ، وأنا الذي كثيراً ما طلبتُ منك أن تكرِّس نفسك للكتابة وتحرص على كل حرف وتحميه من الضياع.. أن تكملَ نقصانَ هؤلاء الشعراء المنسيِّين، وأن تلتفت الى نبض قلبك والى هذه الرسالة التي نمهر حياتنا لها.. من غير انتظار مقابل.. فالشعر هو مجاز حياتنا المجرد.. هو هامش يتأرجح بين المتن والحقيقة.. هو أحدُ أجمل وأعلى وأكملِ تجلياتنا.
***
قصيدةٌ بلا أيديولوجيا
يتهمُّ البعضُ قصيدتي بأنها قصيدة بلا أيديولوجيا أو أنها خالية من موقف فكري سياسي محدَّد، لا أعرف أيَّة أيديولوجيا يريدون مني أن ألبسها لقصيدة ترقص حرَّة وشبه عارية تحت المطر وفي الهواء الطلق؟ الأيديولوجيا بنظري تختلف اختلافاً جذريَّاً وقاطعاً عن مفاهيم سائدة وبالية لا أعتبرها تدخل في صلب ما تعنيه لي هذه الأيديولوجيا ولا تبلور رأياً نقديَّاً بحتاً وموضوعيَّاً بالنسبة لكتابتي الشعريَّة، فقصيدتي ليست دفاعاً عن فكرة سياسيَّة أو دينيَّة أو قوميَّة.. بقدر ما هي لمسةٌ شغفيَّة وبعدٌ إنسانيٌّ وخربشةٌ بريئةٌ على الماء، مجازُ القصيدة هو فضاءُ حريِّتها.. لذلك فهي دائماً مع الخاسر والضحيَّة على حدِّ قول الرائي الإسباني العظيم فيدريكو غارسيا لوركا، سبقَ وعبرَّتُ بنصوص كثيرة عن الخراب الهائل الناتج عن الخريف العربي وخسرتُ أصدقاءً رائعين ولكنني كنتُ مرتاحاً لأنَّني نطقت بكلماتٍ كانت روحي تغصُّ بها، سألني مرةً صديق: مع من قصيدتك؟ فأجبتهُ: مع تشي جيفارا، مع الحريَّة الخاسرة، مع لثغة طفلةٍ في الخامسة، مع نقشِ حنَّاءٍ على يدِ امرأةٍ فلَّاحةٍ، قصيدتي هي فرحي وحزني وغضبي وحُبِّي واكتمالي ونقصاني، أيدولوجيا قصيدتي الحقيقيَّة هي إعتناقُ الجمالِ كما هو بدون رتوش إضافيَّة، ورفضُ مرايا التاريخ الأسود.. هي محاولة للقفز عن كوابيس حصلت في أمكنةٍ ما في هذه الأرض.. كوابيس أحاولُ نسيانها ورفضها منذُ حروبِ البشريَّةِ الأولى إلى ما يجري الآن في سوريا واليمن والعراق وغيرها.
***
ظهيرة ورديَّة
في مدينةِ جنين في شمالِ قلبِ فلسطين تحسُّ بطيبةِ وكرمِ وأناقةِ روحِ الشعبِ الفلسطينيِّ وأصالتها.. في جنين والقدس وغزَّة ورام الله ونابلس وغيرها من مدنِ الضفَّة الغربيَّة.. تشعرُ بانتمائكِ الروحي لهذا الشعبِّ العظيم بالرغم من الحواجز الوهميَّة.. أقولُ في جنين تحسُّ بذلك الأمان النفسي الجميل الذي لا تمنحك إياهُ لا حيفا ولا الناصرة ولا يافا، وتشعرُ بعفويَّةِ الناسِ وبساطتهم ونبلِ أخلاقهم، في ظهيرةِ جنين الخريفيَّةِ الورديَّةِ كانت طفلةٌ بشعرٍ ذهبيٍّ وعينينِ بحريَّتين، طفلةٌ آيةً في الجمالِ والعذوبةِ، أظنُّها في السادسةِ أو السابعةِ من عمرِها، تتسوَّلُ المارَّةَ في منطقةِ المدينةِ الصناعيَّة.. تقتربُ من كلِّ رجلٍ بخطىً خجولةٍ وصوتٍ مرتعشٍ (ساعدني عمَّو.. الله يخليك).. يكرمها الجميع بسخاء.. للوهلةِ الأولى تكسرُ هذه الطفلةُ قلبي.. تطفرُ من قلبي دمعةٌ وأنا أقتربُ منها وأُعطيها ما فيهِ النصيب.. أنحني عليها وأسألها (عمَّو ليش تشحدي.. ما عندك أهل؟) فتنزلقُ من عينيها دمعةٌ غير مرئيَّة وهي تجيبني بصوتها المائيِّ (عمَّو.. أبي متوفي وأُمي مريضة).. تنكسرُ روحي من هولِ حرمان الأب.. ومن ضعفِ الأُم.. لأوَّلِ مرَّةٍ أنكسرُ بهذا الوجعِ أمامَ طفلةٍ في ظهيرةٍ ورديَّة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.