كتب الجاحظ في تعريف الكتاب فقال : (الكتابُ نعمَ الذخرُ والعقدة.. ونعمَ الجليسُ والعُدة. ونعم المشتغلُ والحرفةْ.. ونعمَ الأنيسُ لساعةِ الوحدة. ونعمَ القرينُ والدخيلُ والوزيرُ والنزيل). لا شيء كالكتاب.. هادئًا تحادثه ويحادثك.. تفهمه ويفهمك.. يتقبل انتقاداتك بصدر رحب. ويفسح لك صفحة بيضاء في بدايته لتعبّر عن انطباعك الأول، ولا يعترض على تسرعك. ويعطيك كل الهوامش لتقيم فيها ثوراتك وحروبك، ومعاهدات الصلح والهدنة. ويهبك صفحته الأخيرة بيضاء أيضًا، وكأنه يقول: قلبي يتسع لكلماتك، مهما كنت قاسيًا، سأحترم رأيك ما دمت محقًا، وإن أخطأت، فلي شرف المحاولة معك. لا أحد كالكتاب، يربّت على كتفك عند المحن، يهبك أغلى ما لديه بوضوح، يُبين لك عن مشروع حياته دون مواربة، ولا يخجل من قناعاته، وهو يعرف ضمنًا أن علاقتك به تؤسس قناعاتك. يُتيح لك حرية الدخول والخروج والإقامة أو الهجرة إلى عالم آخر. يودعك بحنان ويقول لك باسمًا: فتّش لك عن وطن. وإن عجزت، سأكون لك وطنًا إن أحببت! على مكتبي اكتظت المساحات الفارغة تماما ب وريقات متناثرة، كتب ضخمة متنوعة، وبين يدي أحدهم، مكثت منكفئا على السطور ساعات كثيرة، ساعات طويلة حتى أن الكلمات راحت تتماوج والأحرف تتداخل، وأفقد شيئا فشيئا الاتصال بالمعنى. وكأنه كتب لا معنى، بلا أي معنى. رحل إلى أذنيّ صوت مداعبة زخات المطر لزجاج النافذة الشفاف بعدة طرقات لطيفة، جذبتني من علّتي الكلمات والحروف، ونزعت نفسي من بين الكتب، جعلتني على طريق النهوض، خلدت إليها أرنو من النافذة. بدا الزجاج وكأن عينيه قد انفتحت وتقاطر منها الدمع، جففت دمعه قليلاً بيدي، حدّقت في الأفق البعيد عبر شفافية الزجاج الدامع، لم أجد ما يلفت النظر على غير العادة؛ نفس التلاتل الخضراء البعيدة وذرى الأشجار المتلامسة مع الأفق ولا شيء جديد اللهم إلا سحابة بيضاء تتوسط الزرقة، وعصفور يهز ذيله الملون تحت زخات المطر. تركت لعينيّ الأفق البعيد تتدبر معانيه، وقد هدأت الزخات الآن، بزغت الشمس وأخذ العصفور يغرد، يخفق بجناحيه ضاربا الهواء، سعى لي ينقر بمنقاره الصغير على الزجاج الشفاف، اقتربت منه ومن الشفاف عندئذ طار وترك المشهد يملأ نفسي، عدت متحمساً إلى أن ألتقي الكتب مرة أخرى، وكأني ألتقيها لأول مرة، وبعد.. أصبحت الكلمات واضحة اوضح ما تكون، والحروف ثابتة جلية، وعاد المعنى يتصل بي وأتصل به. طه دخل الله عبد الرحمن البعنه == الجليل