الكاتب أحمد المباركي.. الجانب الآخر: لن أصرف هذه النبذة في التعريف بالشّاعر والقاص أحمد المباركي ذلك التعريف الذي يختصر سيرته الإبداعيّة في بضعة سطور.. فذلك أيسر ما يمكن أن يعرفه القارئ من طرق أخرى.. إنّما سأتّجه بالحديث إلى فضيلة نبيلة تنبت في فؤاد هذا الرّجل.. وأراها من الأهميّة بمكان، لا تنقص قيمة عن تجربته الإبداعيّة في مجالي القصّة والشّعر.. في هذا الزّمن الذي شهد انتكاسة الكتاب، وانغلاق الأبواب في وجهه نتيجة أسباب كثيرة ليس هذا مجال التعرّض لها، فإنّ ما ترتّب عن هذا الانسداد من شعور مرٍّ متفجّع لم يفتّ في عضد أحمد المباركي.. ولا تناهى إلينا يوما أنّه عازم على ترك ما بدأ.. خلاف ذلك، لقد أوتي الرّجل قدرة فائقة على المقاومة والصّبر.. لا يسجن نفسه في اللّحظة الرّاهنة مهما كانت قسوتها.. متسلّحا بالأمل في كل خطواته.. مادًّا بصره إلى الأجيال التي ستأتي في ثقة وهدوء.. بعيدا عن زوابع الهواء ومعارك أدبيّة لا طائل منها.. فكأنّه يقول: إنّ المستقبل للإبداع الحقيقي.. وما هذه الرّداءة التي حمي وطيسها إلاّ حالة عرضيّة لا تلبث أن تزول.. لأجل ذلك لم يكسر أحمد المباركي قلمه، ولا أسقط الرّاية من يده.. كان ومازال مصرّا على أن يأخذ الشّمعة بيمينه وإن بدا ضوؤها ضئيلا ضعيفا.. فحتما ستتحوّل يوما إلى شمس مشرقة بفضل الإصرار والصّبر.. "وأمّا الزّبد فيذهب جفاء.. وأمّا ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض.." نبذة عن قصّة الشّيخ والصّحراء: لضيق المقام أكتفي بأن أقطف لكم زهرة من إحدى حدائق الشاعر القاص أحمد المباركي.. وعسى أن أنجح في بعث أريجها إليكم.. وهذه الزّهرة عنوانها "الشّيخ والصّحراء".. قصّة من قصص مجموعته القصصيّة "حديث عجاب".. الصّادرة سنة 2011.. نصّ مغلق.. مدلهمّ المعنى.. مراوغ إلى حدّ الإدهاش.. لا ينقاد إليك بسهولة إلاّ إذا كررت عليه بالقراءة وتفحّصت ثناياه دون أن تغادر منه كبيرة أو صغيرة.. ثمّة ينفتح لك الباب.. ومنه تدلف إلى عالم واسع الرّقعة، يفيض عن البرزخ اللّغوي الذي يحيط به.. ليغوص بعيدا في معضلة المعضلات.. وليزرع حولها أسئلة حارقة على طريقته.. تدور جميعها حول علاقة العربي بالسّلطة.. تلك اللّعنة الماثلة في سلوك ووعي إنسان هذه الأرض، من أيّام القبيلة والشّتات إلى أيّامنا هذه.. وربّما هذا هو السّر الذي جعل كاتبه أحمد المباركي يتّجه بحفره صوب حقبة زمنيّة غابرة، خلع عليها من مسوح التاريخ ما خلع.. على اعتبار أنّ المعضلة لم تتزحزح عن مكانها من العقل الجمعي لهذه الأمّة.. لتظلّ في منأى عن حركة الزّمن.. فكأنّما هي خارجة عنه، أو كأنّها جبلّة ثابتة في أعماق العربي، لا تنفع معها سنّة التحوّل والتبدّل.. بيد أنّ هذه الحقيقة المرّة لم تكشفها القصّة من أوّل شروقها.. ولا حتّى نطقت بها عندما آذنت شمسها بالمغيب.. بل اتّخذت من بين ذلك مسارب يجوز إليها التّأويل.. فإذا النّص الواحد المنتشر على رقعة محدودة من الورق، يتحوّل إلى نصوص أخرى بِعدَدِ قرّائه والباحثين في دروبه.. وهذا لعمري سرّ حياة النصّ المبتدع.. لا يقف عند ظاهر ألفاظه، بل يمدّ معانيه إلى مملكة أوسع، لا نهاية تحدّها ولا بداية تخبر عنها.. إنّها مملكةٌ اسمها الخيال.. وكفى بها بوّابة كبرى للخلود.. " أي بني.. الملك عقيم.. ولو نازعتني عنه وأنت بضعة منّي لحززت عنقك بهذا السيّف.." أو كما قال معاوية ابن آبي سفيان لأحد بنيه.. هذه الكلمة هي ملخّص القصّة.. بل هي ملخّص العلّة.. من ذلك الزمان وما قبله حتىّ يوم الناّس هذا.. الشيخ عكرمة الذي ينقلب على فطرة الإنسان، يجبر النّاس على أن يتّبعوا طريقته، وذلك بأن يخلعوا عنهم الطّين اللاّزب، ويقتلوا في أنفسهم الشّهوة إلى اللّحم.. تلك من سنّة اللاّهوت في زعمه.. فعلى قدر التخلّي عن النّاسوت يكون العروج إلى عليين.. هناك وبعيون الوهم يرى الشيخ العرش والملائكة والجنّة والنّار رأي العين.. في رحلة غريبة عجيبة يطوّح بها الشطح بعيدا.. بعد صراع قاس مع النّفس والجسد ومغالبة مشاعر المرارة والشّقاء.. وهكذا تنعكس حالة التمزّق التي يعيشها الحاكم على شعبه.. فمن أطاعه أمن على نفسه.. ومن عصاه قطّعه تقطيعا وصلبه على جذوع النّخل.. لم يسلم من مرض الحاكم هذا القريب والبعيد.. فها هو الخِلُّ الخليل يلقى مصيرا أسود على يد مولاه.. وها هو الولد فلذة الكبد يطهّره الوالد تطهيرا.. ذلك أن الطّهارة في عرف المُلك هو الذّبح وسفك الدّم.. وكان لابدّ لهذا الوضع من انفجار… لكن قبل ذلك بليلة واحدة رأى الشّيخ عكرمة نفسه في قعر جهنّم مع الحيّات والعقارب.. يذوق من وبال العذاب ما لا تقوى على الإحاطة به قلوب البشر.. وماهي حتى ثارت قيامته.. أحاطت به الثورة من كل مكان بقيادة رجل ضرير ( إشارة بليغة إلى المعارضة العربيّة التي تفتقد الرّؤية والهدف).. ومن أجمل ما في النص هو النّهاية المعبّرة.. يقضي القاتل والمقتول وكلاهما يقبض على جانب من كرسيّ الحكم… اللّغة.. ذلك الجسر .. تكاد تكون اللغة عند احمد المباركي في عالمه المتخيل، بشقيه السرديّ والشّعري بطلة من أبطاله.. حيّة متفجّرة.. قويّة الشّكيمة.. مرفوعة الهامة.. متينة البنيان.. تضرب بجذورها بعيدا في عمق التّربة العربيّة الأصيلة.. مناوئة لتصاريف النّسيان.. متحدّية لأنماط مستحدثة من اللّغة العربية، تسرّبت للأسف إلى الأدب نفسه وأصبحت شائعة به، رغم ما تحمله من بهاتة الرّوح وخمول الشّعلة.. وثمّة من يقول إنّ النفخ في رماد اللّغة القديمة ضرب من العبث.. وتعسّف على طبيعة العصر.. وطريق مسدود لا تضفي إلى شيء.. ذلك أنّ اللّغة تحمل روح عصرها، وتعكس المستوى الحضاري للنّاطقين بها.. من ثمّ فإنّ إحياء الماضي واستحضاره في الحاضر وتغليبه عليه عن طريق اللّغة أو غيرها هي عمليّة عقيمة.. تزيد من الهوّة في وجدان العربيّ وتؤكّد تمزّقه بين ماض مندثر، وبين حاضر عاجز هو بالموت أشبه.. قطعا أسلّم بهذا نظريّا.. لكن عندما تتعلّق اللّغة بالفنّ فإنّ الأمر يختلف.. وما من حصيف يمنع القصّة -كلون من ألوان الفن- من أن تعود إلى حقبة زمنيّة غابرة.. تلقي عليها الضّوء وتعمل فيها بمشارطها، تحقيقا لأهداف تراها.. من هنا فإنّ أحمد المباركي ولغاية في نفسه عاد إلى بيئة قديمة يبذر فيها فنّه القصصي.. فكان لزاما أن تكون لغته منسجمة مع عالمه المتخيّل، متماهية في صميم روحه عبر استحضار تفاصيل وملامح تاريخيّة من أجل توظيفها توظيفا قصصيّا.. ولو اختار نمطا لغويّا غير الذي كتب به مجموعته القصصيّة عموما وقصّته الشّيخ والصّحراء خصوصا لكان أوقع نصوصه في مطبّ فنيّ يخلّ بالميزان القصصيّ ويخرجه عن المأمول.. أمّا لماذا يعود الفنّ القصصي عند أحمد المباركي إلى زمن يفترض فيه الموت وعدم التأثير في الواقع الرّاهن.. فلأنّ الإشكال الذي استهدفه يتعلّق أساسا ببنية العقل العربي.. فحاول بطريقته وبأدوات القصّة أن يخضعه إلى مشارط البحث والتّحليل، من أجل النّفاذ إلى جوهره والوقوف على أسرار تركيبه.. وما هذا ببدعة.. فلقد سبق المفكّر الكبير محمد عابد الجابري أن حلّل العقل العربي وأخضعه إلى بحث فلسفيّ شهير.. هذا فضلا عن أنّه في بعض المناهج العلمية الحديثة وعند بحثها في حقيقة ما فإنّها تفرض العودة إلى نشأة الظّاهرة من أجل تفكيكها وتحليلها، وتقصّي حبائلها السرّية التي تغذّيها وتحافظ على وجودها.. احسب أنّ هذه المنهجيّة تُحسب لقصّة الشّيخ والصّحراء للسّبب الذي كنت أذكره آنفا.. ولما تدفع به إلى المغامرة في عالم بعيد يتطلّب كثيرا من الجهد والنّبش.. ليس فقط على مستوى لغة عتيقة متفرّدة قل أن نجد لها نظيرا بين أقرانها.. وإنمّا أيضا على مستوى تصميم الشخوص وهندسة بيئتها وتصويرها تصويرا يكاد يكون متطابقا للحقيقة.. أو هي الحقيقة ذاتها. وختاما.. الحقيقة هذه النّبذة لا تتيح الفرصة كي نحيط بقصة الشّيخ والصّحراء الإحاطة التي تستحق.. هناك كثير من المعاني والدّلالات يمكن تفجيرها من هذا النّص.. فضلا عن تركيبته الفنيّة المعقّدة التي حرص صاحبها على أن ينسجها بمنوالين مختلفين.. احدهما ظاهر للعيان يوحي بالعتاقة وعبق التاريخ.. والآخر يبطن حداثة قرينة بهذا العصر، تتّصل أساسا بتعدّد الرّواة والضّمائر وتداخل الأجناس.. من ذلك القصّة.. الحكاية.. الخبر.. الخطبة.. الشعر.. القرآن.. السنة النوبيّة.. الحلم.. الملحمة.. ونحو ذلك.. إنّه نصّ سامق بمعانيه وبأدوات خطابه.. اختار أن يحلّق في سماء السّرد بجناحين.. الماضي والحاضر معا.. فكأنّه يبرق إلى قارئه العربي أنّ نهوضه لا يتم إلاّ إذا ارتبط بتاريخه، ولم يقطع صلته بجذوره.. وفي نفس الوقت أحيا حاضره واستفاد من أخطاء أسلافه دون أن ينخلع عن عصره وقضاياه..