لم تكن رواية "الوشم الأبيض" هى بمثابة لقائي الأول به كروائي، فقد سبق وقرأت له باهتمام "الإختفاء العجيب لرجل مدهش" أسامة علام روائي فذ قادم للساحة الأدبية بإصرار وخطوات ثابتة.. قوية، نجحت الرواية في الاستحواذ على القارئ من خلال ربكة البداية، الانتقال بسلاسة عبر الزمن وروحه التي استشفها القارئ عبر مفرداته العتيقة ورائحتها "كصوت بوق جوقة الفرسان الملكية" "تصمت موسيقى الفالسات المبهجة، ويقف الجميع، عبيدًا وسادة خالعين قبعاتهم احترامًا لراية الملك،" ….. "ومن خلف النعوش ظهر وجه الرجل صاحب السيرة المرعبة في باريس"جون سبستيان أندريه" المشؤم بوشمه المشهور"… "الآن وانا خلف مكتبي بمستشفى رويال فيكتوريا بمونتريال،.. أمامي ملف جون سبيستيان أندريه الذي أكاد أحفظه عن ظهر قلب". ربكة زمنية منذ البداية وقع رهينة اختطافها القارئ بحِرفية رائعة، تلاها دمج ناعم بين بيئات مختلفة لم ننجح نحن ولم ينجح "أشرف المدني" الطبيب النفسي الفكاك من أسرها، تنقلات متباينة ما بين مونتريال، وواحة سيوة وغابة على حدود قرية صغيرة يهرب اليها محبي التزلج، عوالم اسطورية غريبة ومجنونة كعالم سلفادور دالي، وأماكن أغرب، من فرنسا القديمة الى عالم الهنود الحمرمرورًا بغابات إفريقية، فتأتي الرواية ملية بالتفاصيل لترسم لنا حياة غريبة لطبيب مصري مهاجر إلى كندا هاربًا من مصير سيظل القارئ يتساءل عنه حتى النهاية، ويتشابك قَدَره مع قَدَر "مود بيير" السمراء الشهية الفاتنة، تلك الكندية المليئة بالغرابة، والتي يحركها نذق دائم نحو الغموض والمتعة، فلا تملك سوى الإستسلام لمصاحبتهما في رحلة خلاصهما والبحث عن هوية تجمعهم. "مود" فتاة كندية ذات بشرة سمراء، وِرثة أمها الأوغندية التي تحكم شعبًا لا يمرض بأدغال إفريقيا، لهم طقوس وثقافة خاصة، ولها أب كندي غريب الأطوار والشطحات الفكرية الت تجعله يخضع لعملية تحول جنسي، تجعله يتقبل هجر زوجته الأغندية ورحليها لتتولى حكم شعبها، يبدوا في البداية أن "مود"أيضًا متصالحة نفسيًا مع ذلك، الا أنه فيما بعد تضح ربكتها، من خلال الأحداث. موهبة علام وقدرته السردية الفائقة الجمال، ستجعلك تتلقى بنعومة تناقض حضارات قديمة ستبحث عنها لا ريب، كحضارة "المايا والإنكا" والأساطير الميثولوجية المرتبطة بهما، مع حقائق علمية ونظريات نفسية خاصة بإعادة تدوير الارواح، وحقيقة الوشوم البيضاء، وأساطيرها هى الأخرى، نجح في توظيف متقن لرموز فنية ضمن الأحداث كلوحة "إصرار الذاكرة" لسلفادور دالي ، ولوحة "الصراخ "الشهيرة لإدفارد مونك بمقاراتها النفسية مع حالة "مود" كما انه نجح في أن يضرب لنا مثالاً في أن الغربة هى غربة النفس، فروح "أشرف المدني" التي ظلت تبحث عن خلاصها بأرضه لم تجده إلا بمكان غريب، وبصحبة أشخاص وعوالم أغرب، وجد معهم ملاذاته الروحية والانسانية الحقيقية التي اختفت لزمن بسراديب أرواح ٍ أعيد تدويرها بين ماضٍ مجهول، وحاضرلم يتم إكتشافه بعد. ستقرأ بشغف ولن تستطيع أن تتركها حتى تصل لنهايتها، فأنا لن أنسى مطلقًا أنني قرأتها للمرة الأولى بجلسة واحدة على مقهى إفريست من شدة رغبتي في معرفة المزيد وادراك النهاية. على نحوٍ آخر توقفت عند عدة نقاط بالرواية، تجمع ما بين ميزات قد تحسب لها وعليها بذات الوقت، يصعب تجاهلها والمرورعليها مر الكرام، وهى انه للوهلة الأولى سيجد القارئ التماهي بين شخصية مريض نفسي غريب الأطوار بأحد المستشفيات وطبيبه ليست بجديدة، خاصة حين يرتبط ذلك بالوشم والأساطير، ومشهد الارتداد لعصر المماليك، الا ان مبرره حسب تقدم الأحداث مقبول. والأمر الآخر هو تناوله لنموذج المرأة المصرية في المهجرعلى نحوٍ مذرٍ والذي بدا تقليديًا مملاً بشكل غير منطقي، فهناء محمود الطبيبة المصرية التي تخطت الأربعين وتعيش بمفردها بكندا، والمزعجة على حد وصفه لها، مازال همها الرئيسي الزواج بشكل فج، كذلك أفكارها لم تتخطى عتبة منزلها بمصر، عَكَس ذلك استخدامها لمصطلحات أعادته هو نفسه لايام الجامعة بمصر" الحقيقة مش متعودة أدخل شقق عذاب" في حين انها تلاحقه. سيدة تقليدية مملة لا تتوقف عن فرض الأسئلة التي لا تخصها بالاساس، شبيهة " ما بترودش على تليفونك ليه؟ حتى المستشفى جيتها متأخر، ولأول مرة في حياتك تمشي من غير ما تشوف حالة واحدة". اذًا فمن غير المنطقي بأن يستسلم لها بعد رحيل حبيبته بشكل مأساوي ويتزوجها، خاصة مع ايمانه وقبوله بطول الرواية لفكرة اعادة تدوير الارواح، ان الأمر لا يبدوا مقبول دراميًا تماشيًا مع فكرة البحث عن الذات، فقد كان من الأولى أن يعيد اكتشاف روحها مثلاً، فلا تبدوا في لحظات ظهورها بالرواية منفرة، ثم يستسلم للزواج منها بالنهاية وكأنه يستسلم للموت، في حين انه ومع رسالة أبيه تنتظر بداية جديدة. ختم علام الرواية برسالة أبيه الرائعة ولم يبخل علينا فيها بمفاجآته التي روت شغفي لمعرفة حقيقة أبيه وعالمه الخاص، كما ختمها بجملة شديدة الواقعية، أحببتها كثيرًا "قلب المحب خوان لا يصون كرامة ولا يرفع رأسًا".