لقناعتي الراسخة أننا شعوب عاطفية، تحركنا الأهواء والنزعات والميولات، وليس لدينا أية آليات ولا مقومات ولا حيادية ولا قدرة على ضبط النفس؛ فقد عهدت على نفسي أن أتحاشى النقاشات في السياسة والدين، لاسيما بعد الحراك العربي الأخير منذ 2011 وتبعاته بالأخص في مصر، وذلك تفاديا لأي اصطدام أو خلاف مع صديق أو قريب، وأنا أعرف شخصيا أزواجا تطلقا بسبب هذه الأنواع من الخلافات، وكثير من الأصدقاء المقربين من تبادلوا الشتائم والثلب ولعن كل منهم الآخر وتخاصموا إلى الأبد. . لكني لم أكن أعلم ولا أجد أي داع للحساسيات أو الخصومات بسبب اختلاف الآراء حول شأن ثقافي أو فني أو علمي، إلا أن يكون المتحسس منها جاهلا أو مدّع للثقافة وهو أبعد ما يكون عنها، أو متطفلا مندفعا دون رصيد أو زاد يؤهله لمجاراة حوار أو تبادل رأي مع من يخالفه، وعلى أية حال فجميعها متساوية عندي، وصاحبها في نظري لا يرقى إلى أن أحاوره أو أعيره انتباها أو اهتماما. . عود على بدء: تصريحات رويدا عطية، التي أثارت جدلا واسعا على صفحات التواصل الاجتماعي بين الجزائريين، والتونسيين والمغاربة، وبين الإخوة الأشقاء السوريين، كون صاحبة التصريح المشين تحمل جنسية ذاك البلد العريق، وقد أثرت القضية-وإن كانت المقابلة قديمة ولكنها حديث الساعة لكثرة تداولها حاليا- أثرتها في صفحتي الشخصية على الفايسبوك وأنا في قمة الامتعاض، لأنتي وجدت من يفترض أنها فنانة وتمثل الثقافة، ومن زارت الجزائر عشرات المرات، تتكلم بتلك الطريقة الساخرة، وقد رجعت إلى الحلقة وشاهدت مقاطع أطول، ورأيت مستوى الحوار وطريقة التفكير والمنطق الذي تنظر به هذه الشخصية للعالم وللفن وللشعوب العربية ولجمهورها ومن يتعاملون معها ويخدمونها، فلم تسلم منها حتى مصففة الشعر، وعاملة التجميل، ورغم امتعاضي وسخطي لم أرد من فتح الموضوع سوى النقاش والمراجعة التاريخية والثقافية لا الخصام أو العنصرية أو إحداث الوقيعة بين الشعب السوري والجزائري، كوني لا أنظر للقضية من منطلق سورية حمصاوية -كما ادعت- تسخر أو تتهكم من الجزائريين، بقناة فضائية لبنانية، ولبنان نفسه البلد الراقي، المنفتح على الثقافات والجنسيات والأديان والطوائف واللغات، ومن بينها اللغة الفرنسية، التي تتهكم عليها الضيفة بإحدى قنوات البلد المستضيف، وهي التي يفترض أنها فنانة تعد واجهة للمجتمع، ولم تكن كذلك. . رأيي أن المذكورة سلفا (رويدا عطية التي أسفت على كونها تحمل صفة فنانة)، يمكن وضعها في أتعس تصنيف لفناني القرن الواحد والعشرين، الذين لا ثقافة لهم ولا اطلاع ولا انفتاح، ولنا أن نأسف فعلا فقد مضى زمن الكبار…! فحين تصمت فيروز، ونجاة الصغيرة وشادية، وترحل وردة الجزائرية، تنطق رويدا لتتهكم وتسخر من الجزائر…! كونها تتهكم من فرد يشغل منصب مدير لمسرح يمثل جهة رسمية بوزارة الثقافة الجزائرية التي استضافتها، وتسهب في سخريتها من إحدى عاملات أو مرافقات الطاقم الفني القائم على خدمتها وتصفها ب" بنت شوارع فرنسا-، فهذا كاف على حدود أفق تفكيرها ومراهقتها الفكرية، وأنها لا تعد حسابا للزمن القادم، ولا تعرف نفسية الجزائري ولا رد فعله حين يسكت ففي صمته كلام آخر لا يمكن قوله جهرا، ضف إلى ذلك أنها لم تراع مشاعر ولا خصوصية الجزائري الذي بقي شعبها لا يقرأ ولا يسمع ولا يتكلم غير الفرنسية 132 عاما، وشبابه اليوم ينطق لغة الضاد المعجمة حبا متراكبا، ويتنافسون على أشهر الروايات والأعمال الأدبية العربية في المعارض الدولية، ولا يقتصر الأمر على الذي لا زالت ذاكرته مكتوية بنار المستدمر الاستيطاني الذي عمل على تشويه معالم الشخصية الأمازيغية الشمال إفريقية المغاربية الجزائرية المسلمة، ولم يمض على الذاكرة المتألمة والنفس المنكسرة والروح الحزين سوى نصف قرن من الزمن، وما نصف القرن في عمر الشعوب؟!… وأنا أعدّ الفرنسية ميزة في الشخصية الجزائرية إلى جانب الأمازيغية والعربية التي ليست لغتنا الأم، والإسبانية، وغيرها من اللغات التي يتقنها الجزائري، بنطق صحيح ومخارج حروف سليمة. ثم إن المذكورة سلفا؛ مدعاة للضحك والسخرية والاحتقار لأنها تجهل ثم تسخر من أرقى لغة في العالم وهي لغة الجمال، وعصر الأنوار، والأعمال الأدبية الكبرى، لغة تنبع من أجمل عاصمة في العالم، باريس… وهذا شق آخر من فرنسا المعاصرة وليست التاريخية التي ينظر إليها الجزائري. . الأمر الأخير وليس الآخر: أن اجترار عبارة: هي لا تحسب على سورية والشعب السوري التي نرددها في كل مرة يسخر مغفل أو جاهل من شعب أو يشن عليه هجوم، لا أعيرها انتباها أيضا لأن منطلقاتي منذ البداية ليست شخصية ولا دينية ولا سياسية ولا جغرافية بقدر ما هي ثقافية فكرية إنسانية، فأنا أنقم على الإعلامي المصري الذي يشتم السوري والفلسطيني، وأرفض سلوك الصحفي الجزائري الذي يسخر أو يسيء للمغربي والليبي، ولا أقبل الكاتب السعودي الذي يكفر ويحكم على فنانة تونسية، كما لا أقبل عذر أي عربي يخطئ في حق مصري … وهلم جرا. . إن ما أهلك شعوب بلادي العربية، هو اختلافنا في كل شيء رغم تشابهنا في أشياء كثيرة، لذا لم نتمكن من تحقيق الوحدة الوطنية فما بالك بالوحدة العربية … شعوب أخرى تفرقها اللغة واللهجة والهوية والقومية والثقافة والعرق والجغرافية والتاريخ، وتوحدت فتكتلت ثم صارت ظهيرا علينا تقرر مصيرنا، ونحن نزداد بعدا إلى بعدنا.