"كان بولس ثلاثة أيّام لا يبصر، فلم يأكل ولم يشرب" (أع 9:9). دخل بولس في شبه انقطاع عن العالم بفعل مواجهة الحقيقة، تلك الّتي كان يضطهدها، ويرذل أبناءها. حياة بولس كانت قريبة من الحقيقة لكنّه كان يقاومها، وما لبث أن ارتدّ عندما أثبتت نفسها. ما يعني أنّ الحقيقة ليست خافية على أحد، وليست محتجبة بل على العكس هي حاضرة أبداً ومشعّة وواضحة. لكن ثمّة من يحجب نفسه عنها، وثمّة من يغوص فيها حتّى يحيا. والحقيقة إذا ما تجلّت كانت بمثابة سيف قاطع يفصل في التّاريخ الإنسانيّ ويحوّله إلى الخير الّذي يريده الله، لا إلى الخير الّذي يفهمه الإنسان. لقد فهم شاول خير الله في قتل المسيحيين، واندفع لتحقيق هذا الخير انطلاقاً من نفسه لا من الله. وأمّا بولس فانطلق من الخير الّذي يريده الله فاستحقّ أن يكون رسول الأمم: "يا ربّ ماذا تريد أن أفعل؟" (أع6:9). لسنا بصدد الحديث عن شخصين أو فصل شاول عن بولس، بل نحن بصدد إنسان جديد، يحمل تاريخه بين يديه، إلّا أنّه يستسلم للمشيئة الإلهيّة واعياً إلى أنّ تاريخه القاسي ارتفع إلى مستوى مشروع الله. (أنتم قصدتم لي شرّاً، أمّا الله فقصد به خيراً، لكي يفعل كما اليوم، ليحيي شعباً كثيراً./ تك 20:50). ما تؤكّده الآية (15:9) "اذهب! لأنّ هذا لي إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبني إسرائيل.". الرّبّ اختار بولس ليحمل اسمه أمام العالم كلّه وإلى أجيال عديدة. وتقابل هذه الآية قول بولس نفسه: "اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قدّيسين وبلا لوم قدّامه في المحبّة" (أفسس 4:1). فمهما سار الإنسان بعيداً عن الرّبّ وسلك بحسب رغباته ومنطقه، لا يستطيع أن يتفلّت من الحقيقة لأنّه منها وفيها ولها. بيد أنّ الحقيقة استحقاق، ويستوجب التألّم من أجل بلوغ كمالها والعيش فيها. هو ألم الحبّ والشّوق إليها، وألم إظهارها للعالم. لكنّه الألم المؤدّي إلى الفرح الّذي لا ينتهي ولا يزول. " سأريه كم ينبغي أن يتألّم من أجل اسمي" (أع 16:9).