أ.د. إلهام سيف الدولة حمدان – مصر استوقفتني عبارة أعتقد اعتقاداً راسخًا أنها صحيحة بنسبة كبيرة مفادها: أن الإشاعة يطلقها الحاقد، وينشرها الأحمق، ويصدقها الغبي ! وبقدر مااستوقفتني هذه العبارة فإنها قامت بتحريك مجموعة من التداعيات المختزنة فى العقل الباطن عن ذكريات الطفولة، حيث كانت «الجدَّة» تقص علينا ماأسميناه ب «نوادر جحا» الشهيرة في تراث أدبنا العربي. … ومنها أن «جحا» أطلق شائعة عن وجود «عُرس» فى الجهة الأخرى من القرية يحفُل بما لذ وطاب من أطايب الطعام من اللحم والثريد والفالوذج، فهرول الصبية والبسطاء والدهماء إلى حيث أشار للحاق بأطايب الطعام تلك، وعندما رأى «جحا» هرولة كل هذه الجموع الغفيرة إلى الجهة الأخرى من القرية، خيِّل إليه أن هناك بالفعل عُرسًا حقيقيًا.. فاندفع خلفهم إلى حيث العرس الوهمي الذي صنعه خياله المريض. وبقدر ماتفجِّر تلك الأقصوصة عواصف من الضحك ؛ بقدر ما تثير الحسرة والشفقة على من يطلق الشائعة ويعيش أجواءها حتى ليصدق نفسه، وهنا يتضح مدى الخطورة التى تكمُن في كل ماتثيره الشائعات؛ خاصة في زمن الكوارث والحروب وبعض زوابع الحراك المجتمعي الطبيعية ، خاصة في مراحل التحولات التى يشهدها بين الفينة والفينة أي مجتمع من المجتمعات البشرية. وللأسف فإن الشائعات في مجتمعاتنا الشرقية والعربية التي تتمتع بنسبة عالية من الأمية الثقافية والعلمية، تسري مسرى النار في الهشيم، لسرعة تناقلها دون ترو ٍ أو استبيان مدى صحتها، والبعض ينقلها استعراضًا بأنه العليم ببواطن الأمور، وقد أظهرت الدراسات مدى تفوق الإشاعة على الحروب العسكرية؛ لأنها تعمل بدورها على تفكك المجتمعات وبث الفتنة بين أفراد المجتمع، وهو الهدف الأساسي لمن يطلق شائعة أيًا كانت . ولعلنا سمعنا أخيرًا في مفاجأة من العيار الثقيل اعترافات رجال السياسة في انجلترا عن الشائعات التي بثتها المخابرات الأمريكية في تسعينيات القرن الماضي؛ عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق تهدّد مصالح أمريكا، وتبيّن فيما بعد أنها شائعة وهميّة بُنيت عليها حرب واحتلال كامل للدولة العراقية، من أجل تحقيق أطماع ومصالح ماديّة واستراتيجيّة ونفطيّة. وكما يحدث هذه الأيام من الترويج لشائعة وجود خطر محتمل ممّا يسمّى "داعش" على الداخل الأمريكي والأوروبي، وذلك لتبرير قيام تحالف دُولي للتدخّل في المنطقة، وليس الهدف منه القضاء على داعش أبداً. وهذه شائعة مخابراتية تعتمد تضخيم الخطر من أجل تبرير القرارات العسكريّة والاستراتيجيّة الأمريكيّة لتتمكن من دس أنفها في المنطقة العربية . إذن ف «الشائعة» عبارة عن خبر أومجموعة من الأخبار الملفقة والزائفة في أغلبها؛ ويتم تطعيمها بخبث مقصود ببعض من الحقائق التي تغلفها لتظهر كأنها حقائق مسلم بها؛ لتنتشر في المجتمع بشكل سريع ويتم تداولها لتصبح تمامًا ككرة الثلج التى تكبر كلما زاد عدد مرات التداول، فيضيف كل فرد من عندياته مايسمى في عرفنا «البهارات» التي تعطي مذاقًا خاصًا للطبخة الوهمية على موائد الساذجين؛ ليلتهموا الشائعة دون تيقن وتحقق من مصداقيتها؛ وتستوي فى ذلك الشائعات التي تأخذ منعطفًا عسكريًا أو سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا، وغالبًا ما تكون الشائعة كالرصاصة التي تخرج من فوهة البندقية نحو الهدف؛ فتكون سلاحًا لاراد له يرتد على صاحبه إذا ما اكتشف المتلقي كذب تلك الشائعة وإدعاءها ؛ فيسقط مروجها لافتضاح أمره، ويضيع ماقد يكون له من رصيد ينضاف في الوقت نفسه إلى رصيد المستهدف بهذه الشائعة، وكثيرًا ماقامت بعض الفصائل السياسية في مجتمعنا المصري، خاصة تلك الفصائل التي لاتتمتع برضاء الإحساس الجمعي، بل يُعد لافظًا لها بالترويج والتسريب لمعلومات خاطئة عن بعض الشخصيات السياسية أو الدينية، سرعان ما يثبت كذبها عند محاولة نسبها زورًا وبهتانًا إلى الحقيقة، والأمثلة كثيرة خاصة في الآونة الأخيرة بعد تلك الهجمات الشرسة لتقويض بنيان المجتمع المصري وهدمه لصالح شراذم لاتمثل إلا نفسها، ولكنها لشعورها بالضآلة تحاول أن تنفث سمومها القاتلة في شرايين المجتمع، بأمل أن يتحقق لها الوجود الوهمي والخيالي . ولعلاج خطر تلك الشائعات سواء النفسية أو الحسية؛ فإنه يجب التأكد من مصادرها خاصة مع الأخبار الحساسة والمهمة، وضرورة محاربة الصفحات التي تنتشرعلى مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة الصفحات مجهولة المصدر والهوية، وضرورة ازدياد الثقة في البلاغات الحكومية الرسمية، إذ أنه لو فقدت الجماهير الثقة في هذه البلاغات؛ فإن الشائعات الهدَّامة تأخذ في الانتشار، الأمر الذي يستوجب عرض الحقائق على أوسع نطاق، وهذا يعزز باستمرار الثقة في الزعماء والقادة، وهو أمر مهم وجوهري في مقاومة أية إشاعات مغرضة وتحيد عن الصواب. لذا نذكر أنفسنا ونذكرهؤلاء المروجين الحاقدين الملتاعين من انتصاراتنا الوطنية المشرفة وتماسكنا الوطني ووحدتنا بمضامين وأهداف الآية الكريمة التى ساقها الله سبحانه وتعالى فى هذا الصدد: بسم الله الرحمن الرحيم « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ » صدق الله العظيم .. « سورة الحجرات 49 » وليس ثمة مايقال بعد كلام المولى عز وجل !. ■ أستاذ العلوم اللغوية أكاديمية الفنون