عضو هيئة كبار العلماء – والمفتي الأسبق للديار المصرية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق رحمةً للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد: فمن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين كما أخبر بذلك الصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم- الذي بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة على وجهها الأكمل وتركنا على المحجَّة البيضاء حتى أتاه اليقين. وذلك لأن من فقه دينه فقد فقه دنياه، ومن فقه دنياه فقد استحق خلافتها على الوجه الأكمل خلافةً شرعيةً تجمع بين الدين والدنيا معًا بما يحقق العبادة الخالصة لله والتي هي الغاية العظمى من خلق العباد المكلفين بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقۡتُ 0لۡجِنَّ وَ0لۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ} [سورة الذاريات: الآية 56]. وبذلك يجمع العبد بهذه العبادة الخالصة لله وحده بين خيري الدين والدنيا والآخرة معًا؛ وذلك لقوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ 0لۡأَرۡضِ وَ0سۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا} [سورة هود: الآية 61]. وقوله تعالى: {فَ0مۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ 0لنُّشُورُ} [سورة الملك: الآية 15]، وقوله تعالى: {وَعَدَ 0للَّهُ 0لَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ 0لصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي 0لۡأَرۡضِ كَمَا 0سۡتَخۡلَفَ 0لَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ 0لَّذِي 0رۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔٗا} [سورة النور: الآية 55]، وقوله تعالى: {0لَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ 0لۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ} [سورة الأنعام: الآية 82]. فهؤلاء قد علموا أن أمن الإنسان وأمانه في دينه ودنياه وحياته ومعاده لا يكون إلا بصدقه في إيمانه مع الله بتطبيق شرع ربه وخالقه ومولاه، وتنفيذ كل أوامره ونواهيه في جميع ما يتعلق بهذا الإنسان في عباداته ومعاملاته وعاداته فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين بني جنسه في كل زمان وفي كل مكان باعتبار أن الإنسان مع أخيه الإنسان نفس واحدة وجزءٌ من كلٍّ يكمل بعضه بعضًا، ولا غنى لأحدهم عن الآخر في حياته ودوام معيشته لتحقيق مهامهم الدينية في العبادة الخالصة لله وحده والخلافة الشرعية لعمارة الأرض؛ وذلك لقوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا 0لنَّاسُ 0تَّقُواْ رَبَّكُمُ 0لَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ …} [سورة النساء: الآية رقم 1]، ولقوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا 0لنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ 0للَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ} [سورة الحجرات: الآية 13]، وقوله تعالى في شأن المكلفين من خلقه: {وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ 0للَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ 0لدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ 0لصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ 0لزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ 0لۡقَيِّمَةِ} [سورة البينة: الآية 5]، وقوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ 0لۡأَرۡضِ وَ0سۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا} [سورة هود: الآية 61]. ولما كان شرع الله لا يتحقق في الحياة العملية بين خلقه إلا بمعرفتهم له والعلم به علمًا يقينيًّا والإيمان بكل ما جاء به من تشريعات دينية أو دنيوية، فقد جاء الإسلام عقيدة وشريعة رسالة عالمية لكل البشر في كل زمان وفي كل مكان أمنًا وأمانًا وسلمًا وسلامًا ورحمة للعالمين؛ وذلك لقوله تعالى في شأن خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم رسول الإسلام والسلام: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} [سورة الأنبياء: الآية 107]. وقوله تعالى: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا} [سورة سبأ: الآية 28]. وقوله تعالى: { يَٰٓأَيُّهَا 0لنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا 45 وَدَاعِيًا إِلَى 0للَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا} [سورة الأحزاب: الآيتان 44، 45]. وقوله تعالى: {قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا 0لنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ 0للَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا} [سورة الأعراف: الآية 158]. فقد وجب على العباد معرفةُ شرعِ لله الذي يحكمهم ويحتكمون إليه في أمور دينهم ودنياهم، ونظرًا إلى أن شريعة الإسلام تحكمها وتضبطها نصوصٌ شرعيةٌ نزلت وحيًا من السماء لا تبديلَ فيها ولا تغيير قطعية الثبوت كالقرآن الكريم والسنة المتواترة، وهما دستور الإسلام وتشريعه وذلك لقوله تعالى: {وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ 0لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَ0نتَهُواْ} [سورة الحشر: الآية 7]. فقد كانت نصوص الوحي ودستور الإسلام من حيث الاستدلال بها على أحكام العباد والبلاد منها ما هو قطعي الثبوت والدلالة، ومنها ما هو قطعي الثبوت ولكنه ظني الدلالة، ولما كانت هذه النصوص الشرعية كلها محصورةً ومحدودةً، وأفعال العباد التي تحتكم إلى هذه النصوص غير محدودة وغير محصورة وهي لا تتناهى حيث يتجدَّد في الزمان والمكان من الأفعال والحوادث البشرية ما قد لا يجد نصًّا مباشرًا من نصوص الشريعة الأصلية ينطبق عليها، فشرع الاجتهاد في شريعة الإسلام لبيان أحكامها؛ لأنه لا يتصور أن تكون شريعةُ الإسلام قاصرةً عن بيان أحكام العباد في أي زمان أو في كل مكان بطريق مباشرة أو غير مباشرة، وذلك بواسطة الاجتهاد في بيان الأحكام الشرعية من القادرين على الوصول لهذه الدرجة، وهم أهل الاختصاص الشرعي القادرون على التفقُّه في الدين وإصدار الحكم الشرعي الصحيح موافقًا لدليله من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو الاجتهاد الذي يرجع إلى مصدر من هذه المصادر الأصلية المتفق عليها عند الفقهاء؛ وذلك لأن الاجتهاد في بيان الأحكام الشرعية من أهله مصدرٌ من مصادر الأحكام الشرعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن أجتهد فأخطأ فله أجر)). ولما كانت هذه المكانة لا يقدر عليها إلا بعض المكلفين في شريعة الإسلام، فقد جاء الأمر بها بطريق الحثِّ عليها والترغيب فيها من الله تعالى في القرآن الكريم بقوله تعالى: {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي 0لدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} [سورة التوبة: الآية 122]، وقوله تعالى: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ 0لذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [سورة النحل: الآية 43]. ولذلك فقد وجب شرعًا على المسلمين القادرين على بلوغ درجة الاجتهاد والذكر والفتوى في الدين أن يحصلوا عليها في كل زمان وفي كل مكان حسب مقتضى الحال والمقام حيث يكون بلوغها فرضًا على الكفاية بينهم في الجملة، أو فرضًا على التعيين في أحدهم إن تعينت فيه دون غيره لقدرته عليها دونهم في بلد ما أو زمان ما. وقد علمنا الله سبحانه وتعالى بنفسه طريقة الاستفتاء في الدين بقوله تعالى: {يَسۡتَفۡتُونَكَ قُلِ 0للَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي 0لۡكَلَٰلَةِۚ إِنِ 0مۡرُؤٌاْ هَلَكَ لَيۡسَ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَهُۥٓ أُخۡتٞ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهَا وَلَدٞۚ فَإِن كَانَتَا 0ثۡنَتَيۡنِ فَلَهُمَا 0لثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوٓاْ إِخۡوَةٗ رِّجَالٗا وَنِسَآءٗ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ 0لۡأُنثَيَيۡنِۗ يُبَيِّنُ 0للَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَ0للَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} [سورة النساء: الآية 176]. ولأهمية الفتوى الشرعية في الدين بين العامة والخاصة من العباد في جميع البلاد، فقد اقتضى المقام التنبيه والتذكير بالتعريف بها وبيان آدابها وقواعدها وضوابطها الشرعية ومراعاة تغير الفتوى بتغير الجهات الأربع في النوازل بين العباد حسب تغير الزمان والمكان والشخص والحال، وذلك في أربعة مطالب: الأول: في تعريف الفتوى في اللغة والشرع. والثاني: في حكم الاستفتاء. والثالث: في آداب الفتوى. والرابع: في ضوابط الفتوى لمراعاة فقه الواقع في الجهات الأربع في النوازل حسب الزمان والمكان.