مواقيت الصلاة بالتوقيت الصيفي .. في القاهرة والإسكندرية وباقي محافظات مصر    عيار 21 يسجل هذا الرقم.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 26 أبريل بالصاغة بعد آخر انخفاض    عاجل - بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024 فعليًا.. انتبه هذه المواعيد يطرأ عليها التغيير    توقعات برفع سعر الفائدة خلال اجتماع البنك المركزي المقبل    "حزب الله" يعلن ضرب قافلة إسرائيلية في كمين مركب    فلسطين.. المدفعية الإسرائيلية تقصف الشجاعية والزيتون شرقي غزة    الزمالك: هناك مكافآت للاعبين حال الفوز على دريمز.. ومجلس الإدارة يستطيع حل أزمة القيد    هاني حتحوت يكشف تشكيل الأهلي المتوقع أمام مازيمبي    هاني حتحوت يكشف كواليس أزمة خالد بوطيب وإيقاف قيد الزمالك    إعلامي يفجر مفاجأة بشأن رحيل نجم الزمالك    مصر تسيطر على نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية (PSA 2024) للرجال والسيدات    «عودة قوية للشتاء» .. بيان مهم بشأن الطقس اليوم الجمعة وخريطة سقوط الأمطار    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    فيلم «النداء الأخير- Last C all» يختتم حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية القصير الدورة 10    عاجل - محمد موسى يهاجم "الموسيقيين" بسبب بيكا وشاكوش (فيديو)    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    ارتفاع سعر الفراخ البيضاء وتراجع كرتونة البيض (أحمر وأبيض) بالأسواق الجمعة 26 أبريل 2024    هل المقاطعة هي الحل؟ رئيس شعبة الأسماك في بورسعيد يرد    كل سنة وكل مصري بخير.. حمدي رزق يهنئ المصريين بمناسبة عيد تحرير سيناء    أحمد أبو مسلم: كولر تفكيره غريب وهذا تشكيل الأهلي المتوقع أمام مازيمبي    مصدر نهر النيل.. أمطار أعلى من معدلاتها على بحيرة فيكتوريا    بقيمة 6 مليارات .. حزمة أسلحة أمريكية جديدة لأوكرانيا    بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. تعرف على جدول مواعيد عمل محاكم مجلس الدولة    عبقرينو اتحبس | استولى على 23 حساب فيس بوك.. تفاصيل    حركة "غير ملتزم" تنضم إلى المحتجين على حرب غزة في جامعة ميشيجان    حلقات ذكر وإطعام، المئات من أتباع الطرق الصوفية يحتفلون برجبية السيد البدوي بطنطا (فيديو)    القومي للأجور: قرار الحد الأدنى سيطبق على 95% من المنشآت في مصر    أنغام تبدأ حفل عيد تحرير سيناء بأغنية «بلدي التاريخ»    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    خالد جادالله: الأهلي سيتخطى عقبة مازيمبي واستبعاد طاهر منطقي.. وكريستو هو المسؤول عن استبعاده الدائم    السعودية توجه نداء عاجلا للراغبين في أداء فريضة الحج.. ماذا قالت؟    الدفاع المدني في غزة: الاحتلال دفن جرحى أحياء في المقابر الجماعية في مستشفى ناصر بخان يونس    فيديو جراف| 42 عامًا على تحرير سيناء.. ملحمة العبور والتنمية على أرض الفيروز    أنغام باحتفالية مجلس القبائل: كل سنة وأحنا احرار بفضل القيادة العظيمة الرئيس السيسى    سرقة أعضاء Live مقابل 5 ملايين جنيه.. تفاصيل مرعبة في جريمة قتل «طفل شبرا الخيمة»    مسجل خطر يطلق النار على 4 أشخاص في جلسة صلح على قطعة أرض ب أسيوط    استشاري: رش المخدرات بالكتامين يتلف خلايا المخ والأعصاب    حكايات..«جوناثان» أقدم سلحفاة في العالم وسر فقدانها حاستي الشم والنظر    عاجل - "التنمية المحلية" تعلن موعد البت في طلبات التصالح على مخالفات البناء    رئيس الشيوخ العربية: السيسي نجح في تغيير جذري لسيناء بالتنمية الشاملة وانتهاء العزلة    قيادي بفتح: عدد شهداء العدوان على غزة يتراوح بين 50 إلى 60 ألفا    المحكمة العليا الأمريكية قد تمدد تعليق محاكمة ترامب    حظك اليوم.. توقعات برج الميزان 26 ابريل 2024    ليلى أحمد زاهر: مسلسل أعلى نسبة مشاهدة نقطة تحوّل في بداية مشواري.. وتلقيت رسائل تهديد    لوحة مفقودة منذ 100 عام تباع ب 30 مليون يورو في مزاد بفيينا    مخرج «السرب»: «أحمد السقا قعد مع ضباط علشان يتعلم مسكة السلاح»    "الأهلي ضد مازيمبي ودوريات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    «اللهم بشرى تشبه الغيث وسعادة تملأ القلب».. أفضل دعاء يوم الجمعة    سفير تركيا بالقاهرة يهنئ مصر بذكرى تحرير سيناء    خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف مكتوبة 26-4-2024 (نص كامل)    طريقة عمل الكبسة السعودي بالدجاج.. طريقة سهلة واقتصادية    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    يقتل طفلًا كل دقيقتين.. «الصحة» تُحذر من مرض خطير    مجلس جامعة الوادي الجديد يعتمد تعديل بعض اللوائح ويدرس الاستعداد لامتحانات الكليات    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    عالم أزهري: حب الوطن من الإيمان.. والشهداء أحياء    قبل تطبيق التوقيت الصيفي، وزارة الصحة تنصح بتجنب شرب المنبهات    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أثر الإفتاء في استقرار المجتمعات
نشر في شموس يوم 19 - 08 - 2015


أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة حلوان
الفتوى الشرعية استخلاص حكم شرعي من فقيه متخصص عالم بأصول الشرع وبمقاصده العليا في الدين والحياة إجابة على سؤال المستفتي؛ إذ إن وظيفة المفتي أن يُنْزِل النصَّ على الواقع المعيش فيتوصل بها إلى معرفة حكم الدين؛ فهي صناعة فقهية عقلية، تُعَبِّر عن إدراك سليم للحادثة وبيان حكمها من الحِلِّ أو الحرمة بناء على الفهم العميق المستوعِب للنص، وتفاعله مع مصلحة الفرد والمجتمع والأمة، وعلى قدر يقظة وفطنة الفقيه بالنص الشرعي روايةً ودرايةً، وإدراكه لمصالح الأفراد والأوطان والمجتمعات، يتحقق مقصود الشريعة في تفهيم الناس حقيقةَ الدين في احتوائه على الأحكام اللازمة لتنظيم الحياة الآمنة، والوفاء بمصالح الفرد والمجتمع، بما تنتظم به الحياة.
وهذا واجب على من يتوفر لديه الاستعداد لطلب العلم الفقهي، فيتعين النفرة إليه، والحث عليه بنص قوله تعالى: {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي 0لدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} [التوبة: 122] وقول الرسول –صلوات الله عليه–: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين))([1]). ولن يتم الوصول إلى هذا المطلب الديني والمجتمعي إلا إذا أسند بيان الحكم الفقهي إلى أرباب الاختصاص في الفقه الشرعي، الدارس لعلوم أصول الفقه بالوقوف على كيفية استنباط الأحكام التكليفية من مصادرها المتفق عليها في القرآن والسنة والاجماع والقياس، والمختلف فيها من مذهب الصحابي وشرع من قبلنا والمصالح المرسلة والاستحسان والاستصحاب والعرف وسد الذريعة.
فالإفتاء كالقضاء يحتاج إليه المسلم؛ فهو فرض كفاية على من يتقنه، فمتى توفرت لدى المفتي هذه المعرفة الأصولية الفقهية والمقاصدية والواقعية، وهي معرفة بالشرع وواقع الناس فإنه يبين الحكم الشرعي، بمشتملاته: الفرض والواجب والمندوب والمباح، والحرام والمكروه كراهة تحريم أو تنزيه.
أزمة الإفتاء في المرحلة الراهنة:
إن الناظر إلى واقع الإفتاء في العصر الحاضر، يهوله فوضى الفتاوى، وتوظيفها لتحقيق أغراض سياسية ونفعية لا يقصد بها وجه الله، ولا الصالح العام، حيث تتناحر الآراء الصادرة من هنا وهناك، فليس الأمر مقصورًا على العلماء المتخصصين أو مؤسسات الإفتاء الرسمية، وإنما يزاحم هؤلاء دخلاء على الإفتاء من كل حدب وصوب، ممن لم تتوفر فيهم شروط الفتوى، وليسوا من أرباب العلم الفقهي، اقتحموا الفتوى لأهداف ومطامع يضيق المجال عن ذكرها، دفعتهم هذه الأهداف إلى الاندفاع وراء فتاوى منسوبة إلى الدين، بلوغا لأغراضهم الدنيوية، أو مطالبهم الشخصية أو تنفيذا لمزاعم الجماعة أو الفرقة أو الطائفة التي ينتمون إليها، يفتون لحسابها ترويجا لأيديولوجيتها أو لمذهبها السياسي أو الديني أو الاجتماعي.
وموطن الداء في تلك الآراء التي لا تعبر إلا عن صاحبها أو مذهبها أو جماعتها، أنها أفسدت على المسلمين دينهم، وقوضت أمن مجتمعهم، فجمعت بين آفة الدين والدنيا؛ لما تنطوي عليه من مخاطر نذكر منها:
1- أنها اختطفت مهمة الفتوى من أربابها واستأثرت بها وحدها كإبلاغ عن رب العالمين، والقائم مقام النبي –صلى الله عليه وسلم– مع أنهم ليسوا من العالمين بحقائقها، الواقفين على مراد الإسلام فيها المؤهلين بعلومها، الذين تتوفر فيهم الشروط والمعايير, فهم الأدعياء، لعجزهم عن الإحاطة بمصادر الفتيا فيما يتعلق بالدليل ونوعه، ودلالته على الواقعة المستفتى فيها، وهو ما لا يصلح القيام به إلا من العلماء المتخصصين: ممن عناهم الحديث: ((يرث هذا العلم من كل خلف عدولُه ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين))([2]). فلم تتوفر فيهم هذه المقومات الضامنة لصدور الفتوى عن بينة ودراية ومِرَانٍ.
2- زعزعة استقرار المجتمعات، بإثارة البلبلة والحيرة بين الشباب وبعض المتعلمين، ناهيك عن البسطاء، ممن لا محصول لهم من صحيح العلم الشرعي ويتعلقون بخطاب الدين، ويعتقدون فيما يقال لهم من الحلال والحرام من الأحكام، فإذا سمعوا أن شيخا يطلق لحيته، ويلبس الأبيض من الثياب، وبيده المسبحة ولا يكف عن الاستشهاد بالآيات أو الأحاديث –وهي في غير موضعها– رافعا وخافضا صوته لإحداث التأثير المطلوب في قلوب العامة، فإنهم يقعون في حرج شديد من عدم تصديقه، مما يتعين استحابتهم لهذا القائل، فينصاعون لكلامه، دون أن يعرضوا ما يسمعونه من فتوى على صحيح الحكم الشرعي، ويتبنون صحة هذه الأقوال على أصحاب الاختصاص وأهل الذكر والثقات من العلماء ممن درسوا وتعبوا وبحثوا حتى توفرت لديهم ملكة الفتوى، وصدق عليهم أنهم من حملة الفقة العَالِمِين بأصول الأحكام، الذين أرشد القرآن إلى التوجه إليهم: {فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ 0لذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، فهم بمسلكهم المعيب يتجرؤون على اقتحام حمى الله، وأمان المجتمع، بالغش والخداع، وهو مما يكدر أمن وأمان المجتمع.
3- تزييف الشريعة، وتشويه الإسلام، والانحراف به عن وسطيته واعتداله واستنارته، والدخول به إلى حلبة المعارك الجدلية، واتخاذه مطية للأغراض الدنيوية لطلب الزعامة والنفوذ، وخلط الدين بالسياسة، وتوظيف الفتوى طلبا للسلطة واعتلاء سدة الحكم، ويوجهون سهامهم لخداع الشباب ممن ينشدون المثالية ويُمَنُّونَهم بالإصلاح، وبناء الأمجاد التي غرروا عقولهم بها، وأن مآلهم جنة عرضها السماوات والأرض، إذا اتبعوهم، وأيدوا مدعاهم، وانتصروا لمطلبهم، امتثالا لما يرددونه على مسامعهم: {إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ 0لۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى 0للَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ 0لۡمُفۡلِحُونَ} [النور: 51]. فتنطلي هذه الدعوات الضالة على العديد من الشباب الذين يندفعون وراء هذه المقولات الزائفة، ويصبحون كالدمى في يد هؤلاء المفسدين، الذين ملأوا الساحة العربية صخبا وضجيجا، من خلال الشعارات والمواقف التي أفرزت نمطا جديدًا من الفتاوى، هي الفتاوى المذهبية والطائفية كتعبير يحمل فكر وممارسات الجماعة، ويسوقه بين الجماهير، بعد أن لوى عنق النصوص ووجهها إلى ما يهدف إليه.
والحال المُشَاهَد وجود فتاوى لرموز إخوانية، وسلفية، وأخرى للقاعدة، وداعش وبوكو حرام، وجبهة النصرة، وأنصار بيت المقدس وغيرها مما جعل الأوطان والمجتمعات تعيش في محنة حقيقية بسبب فتاوى التكفير، واستحلال دم المسلم، والنعت بحكومة فرعون، وجنده الكافرين، ووصم من رضي بحكمهم وسكت عنهم بأنهم ضد الشيطان، يأتون ببعض الآيات، يسوقونها في غير موضعها مثل توعد جماعة الإخوان أهل مصر وجيشها وحاكمها، وتنزيل صنيع فرعون وجنده عليهم بقوله تعالى: {وَ0سۡتَكۡبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُۥ فِي 0لۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ 0لۡحَقِّ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ إِلَيۡنَا لَا يُرۡجَعُونَ 39 فَأَخَذۡنَٰهُ وَجُنُودَهُۥ فَنَبَذۡنَٰهُمۡ فِي 0لۡيَمِّۖ فَ0نظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ 0لظَّٰلِمِينَ} [القصص: 39 – 40].
وإطلاق الأوصاف الذميمة على تأييد المصريين لرئيسهم في قوله تعالى: {فَ0سۡتَخَفَّ قَوۡمَهُۥ فَأَطَاعُوهُۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} [الزخرف: 54].
ومثل الفتوى بأن جماعتهم: أهل الإيمان، والآخرون من مجموع الأمة: أهل الكفر. وهي فرية مردود عليها بأن تكفير المسلم منهي عنه بنصوص صريحة سنشير إليها.
وفتوى بالشهادة لأنصارهم ضحايا الصدام والاقتتال: "قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار". مردود عليه بأن الشهيد هو من قاتل دفاعا عن الدين أو الوطن أو النفس، ولا يكون شهيدا من يعتدي على إخوته ووطنه.
وفتوى: الدعوة إلى قتل أفراد الجيش والشرطة، وتدمير ثكناهم وممتلكاتهم واستباحتها" وهو مردود بأن قتل الجند من حماة الدين والوطن من كبائر الذنوب. وفي السنة: ((عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)).
وفتوى: قصر زواج أفراد الجماعة على نسائهم الحرائر دون سائر نساء المسلمين.
وهذا يخالف القاعدة الشرعية في حِلِّ زواج المسلم من المسلمة، وكلهن حرائر طالما لم يوجد مانع شرعي، وليس اختلاف الفرقة أو الحزب أو الجماعة من بين الموانع الشرعية بدلالة النص والإجماع، بل بلغ من حرص الإسلام على إشاعة المودة والرحمة أنْ أجاز للمسلم الزواج من غير المسلمة تأليفا وتطييبا للقلوب.
فتوى جواز الكذب لصالح الفرقة أو الجماعة، وصولا لأغراضهم الملتوية, وهذا أشبه بقول اليهود: {لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي 0لۡأُمِّيِّ‍ۧنَ سَبِيلٞ} فيما أجازوه من جواز أكل الربا في مال غير اليهود، ويطلقون عليهم الأميين. وهو مسلك عنصري لا يعرفه الإسلام، بل يرفضه من الأساس؛ لأن المسلم لا يكذب، لحديث مالك عن صفوان بن سليم أنه قال: ((قال الرسول –صلوات الله عليه– عندما سئل: أيكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم، قال: أيكون المؤمن بخيلا، قال: نعم. قال: أيكون المؤمن كذابا، قال: لا))([3]), فالكذب محرم شرعا.
فتوى طلب دفع الجزية من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي التزاما بالنص القرآني: {حَتَّىٰ يُعۡطُواْ 0لۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} [التوبة: 29].
هذا القول إعمال لظاهر النص دون تحقيق علته، فإن الجزية والقتال كما جاء بالنص إنما تكون على من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولم يتدين التدين الحق، ولم يحرم ما حرم الله من أهل الكتاب، ولم يوافق على هوية المجتمع ونظامه العام، ولم يلتزم بالحقوق والواجبات فيه، خاصة الانخراط في سلك الجندية والمشاركة في واجب الحرب والدفاع عن الهوية والمواطنة، أداءً والتزاما، فهم يحادُّون الله ورسوله, وهو المعنى الذي تشير إليه كلمة {صَٰغِرُونَ}، وهو الحال التي كان عليها غير المسلمين في العصور الأولى.
وحيث تغير الموقف، وبرزت فكرة المواطنة: التزام الجميع -المسلم وغير المسلم- بالحقوق والوجبات المجتمعية، وقبول هوية المجتمع، ومشاركة غير المسلمين في أعمال الحرب والدفاع، وعليه فقد انتفت علة دفع الجزية، وهو ما آلت إليه الأمور في الوقت الراهن.
الفتوى بأن دار الإسلام التي تقام فيها أحكام الشريعة ويكون سكانها من المسلمين، وفي مقابل دار الإسلام توجد دار الحرب، وإن لم يحاربوا المسلمين فيجب قتالهم إلى أن يدخلوا الإسلام أو يدفعوا الجزية.
ويجاب عن ذلك، بأن هذا التقسيم قال به بعض الفقهاء تأسيسا على أوضاع واقعية، في عصر كان ديدنه الحروب, وكانت الحرب قائمة بين المسلمين وغير المسلمين، الذين يرفضون الإسلام ويقاومون دعوة
إلاسلام، ويتربصون به. ولا مجال لهذا الواقع في العلاقات الدولية المعاصرة، حيث التنظيم الدولي الذي صرح الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقبوله لحلف عبد الله بن جدعان لنصرة المظلوم ونجدة الضعيف: ((لو دعيت به في الإسلام لأجبت))، وحيث انضم إليه العالم الإسلامي، وأصبحت دوله أعضاءً في الأمم المتحدة، والتزمت بميثاقها الذي بصوغ العلاقات بين الدول على أساس السلم، ويجرم الحرب مع من لم يحارب.
ومن الناحية الشرعية، فقد أغفل هؤلاء القائلون بذلك، دار العهد، وهي البلاد التي بينها وبين المسلمين العهود والمواثيق، وهو المقصود بالنص في قوله تعالى: {وَأَوۡفُواْ بِ0لۡعَهۡدِۖ إِنَّ 0لۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡ‍ُٔولٗا} [الإسراء: 34].
كما أن هناك تقسيما آخر، وهو تقسيم العالم إلى أمة دعوة، وهي الأمم غير الإسلامية، وأمة أجابة وهي الأمة الإسلامية، كما أن الفرصة متاحة للدعوة إلى الإسلام بالطرق السلمية المتنوعة مثل إقامة غير المسلمين في الدول غير الإسلامية وممارسة الشعائر الإسلامية، والدعوة إلى الإسلام في الخطب والدروس الدينية، بالإضافة إلى الدعوة إلى الإسلام والتعريف بأحكامة عبر وسائل الإعلام المختلفة من تلفاز وإذاعة وصحافة وإنترنت –شبكة المعلومات الدولية– وهي الأقوى تأثيرا في عالم اليوم.
فتوى فرضية الجهاد وهي شن الحرب من كل مسلم على غير المسلمين لمجرد أنهم يخالفون في الدين، بدليل قوله تعالى: {وَقَٰتِلُواْ 0لۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗ} [التوبة: 36]. وحديث الرسول –صلى الله عليه وسلم–: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله، فمن قالها، فقد عصم مني دمه وماله إلا بحقه وحسابه على الله))([4]).
ويرد على ما احتجوا به، أن الجهاد أعم من القتال، فقد يكون جهاد النفس وجهاد الشيطان، وجهاد العمل الصالح، وجهاد الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار الخلاق، بينما القتال يكون بمقاتلة المسلم لغير المسلم أو المشرك الذي قاتله، واشتبك معه في حرب، كما هي عبارة النص في قوله تعالى: {كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗ} [التوبة: 36] من باب المفاعلة والمعاملة بالمثل.
وجاء في تفسير المنار للآية([5]): "قاتلوهم جميعا كما يقاتلونكم جميعًا بأن تكونوا في قتالهم إلبا أي جميعًا واحدا لا يختلف فيه ولا يتخلف عنه أحد، كما هو شأنهم في قتالكم وذلك أنهم يقاتلونكم لدينكم انتقاما ولا عصبية، ولا للكسب كدأبهم في قتال قويهم لضعيفهم، فأنتم أولى بأن تقاتلوهم لشركهم {وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وهذا لا يقتضي فرضية القتال على كل فرد من الأفراد إلا في حال طلب الإمام النفير العام".
هذا حكم الجهاد كفرض عين على المسلم، فالعلة في فرضيته ليست المخالفة في الدين أو الشرك، وإنما علته العدوان، وأن يبدأ العدو القتال بالفعل، وهو المراد من الآية في ضوء غيرها من الآيات عند المحققين من العلماء.
أما الرد على ما ورد في الحديث: ((أمرت أن أقاتل الناس)) فليس المقصود قتال عموم الناس أو كل الناس، وإنما المراد به الناس الذين قاوموا الدعوة وأرادوا وأْدَها بكل السبل، وهم أهل مكة الذين أخرجوا الرسول والمسلمين وقاتلوهم في الغزوات المتتابعة التي سجلتها كتب التاريخ والسيرة. فالمراد بالناس أناس معينون معروفون بعدوانهم وعدائهم السافر للإسلام والمسلمين.
وليس إطلاق الناس ويراد طائفة مخصوصة تفسيرا تحكميا أو تبريريا، وإنما استعملته النصوص الشرعية، فها هو القرآن في قوله تعالى: {0لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ 0لنَّاسُ إِنَّ 0لنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَ0خۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا 0للَّهُ وَنِعۡمَ 0لۡوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، فإن المراد بالناس ليس كل الناس، لكن طائفة من الناس في المرتين، فهم مجموعة خاصة من الناس، وهو تفسير مستقيم مع اللغة والمنطق، فوجب اعتباره في موضعه وفي السياق الذي يدل عليه، كما هو الشأن في الحديث المذكور.
القول بالحاكمية عندهم تعني التزام الحاكم بتطبيق شرع الله، وإقامة الحدود الشرعية وهي القتل والصلب في جريمة الحرابة، وقطع اليد في السرقة، والرجم في الزنا للمحصن والجلد لغير المحصن، والجلد ثمانين جلدة للقاذف والجلد لمن شرب الخمر، والقتل للمرتد عن الإسلام، امتثالا لقوله تعالى: {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ 0للَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ 0لۡكَٰفِرُونَ} [المائدة: 44]، وبقوله: {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ 0للَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ 0لظَّٰلِمُونَ} [المائدة: 45]، مما يستوجب عندهم التبرؤ وخلع الولاء من هؤلاء الحكام ومن سكت عنهم، وهذا مردود عليه بأن سياق الآيات والخطاب فيها لأهل الكتاب: اليهود كما ورد ذكره بإيراد التوارة في صدارة آية تكفير ومن لم يحكم مما جاء في التوراة: {إِنَّآ أَنزَلۡنَا 0لتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا 0لنَّبِيُّونَ 0لَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَ0لرَّبَّٰنِيُّونَ وَ0لۡأَحۡبَارُ بِمَا 0سۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ 0للَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ 0لنَّاسَ وَ0خۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِ‍َٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ 0للَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ 0لۡكَٰفِرُونَ} [المائدة: 44]، فقد ختمت بقوله تعالى: {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ 0للَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ 0لۡكَٰفِرُونَ} [المائدة: 44].
وكذلك فيما صدرت به الآية الثانية: {وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ 0لنَّفۡسَ بِ0لنَّفۡسِ وَ0لۡعَيۡنَ بِ0لۡعَيۡنِ وَ0لۡأَنفَ بِ0لۡأَنفِ وَ0لۡأُذُنَ بِ0لۡأُذُنِ وَ0لسِّنَّ بِ0لسِّنِّ وَ0لۡجُرُوحَ قِصَاصٞۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ 0للَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ 0لظَّٰلِمُونَ} [المائدة: 45]، وقوله تعالى: {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ 0للَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ 0لظَّٰلِمُونَ} [المائدة: 45].
وفي الآية الثالثة الخطاب فيها لأهل الإنجيل: {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ 0للَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ 0لۡفَٰسِقُونَ} فالمقصود بهم النصارى وقد يقول قائل إن حكم الآية ينطبق على المسلمين، ففي نص الآيات القرآنية إقرار بشرعيتها وبوجوب تطبيقها بناء على القاعدة: "شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ" ولم ينسخ هذا الحكم. وهذا صحيح إذا أنكر الحاكم أو المحكومون تطبيق شرع الله وحدوده عند توفر شرائطه كفرا وجحودًا لها، لكن من أقر به ولم يطبقه تكاسلا أو لعدم استيفاء شروطه أو لسب آخر غير الإنكار أو الجحود، فلا يعد كافرًا.
وبناء على ما تقدم من تكريس تلك الأقاويل التي أقاموا على غرسها في نفوس بعض الشباب ومن تابعهم عدوانا على الإسلام وأوطان المسلمين ومجتمعات المسلمين، وأشاعوها وروجوها في كل الأوساط والمحافل ووسائل الإعلام، واعتبروها من صميم دعوتهم، وسند المشروعية على ممارساتهم العدوانية والإرهابية، يستحلون بها المحرمات على الأنفس والأموال والأوطان، ويجندون الشباب من كل البقاع والأصقاع لا ليجاهدوا العدو الحقيقي، وإنما ليجاهدوا المسلمين ويدمروا أوطان الإسلام، وأثر ذلك محقق في ترويع وإرهاب الأفراد والمجتمعات الإسلامية، وتنفيذ مخططات أعداء الإسلام وأهل الإسلام.
حكم الفقه في إفتاء الجهال غير المتخصصين:
لا حاجة لمن يتابع الأحداث الراهنة على أرض العروبة والإسلام أن يتعرف على حجم الفوضى والدمار الذي لحق بهذه الأقطار، فهي من الوضوح بمكان في إحداث التنكيل بعامة المسلمين وغير المسلمين من مواطني الإسلام، ومقدار الخراب الذي نزل بتلك البلدان، وممارسة كل الجرائم الوحشية من قتل وحرق وذبح باسم الإسلام مما يشيب من هوله الولدان، مما يستوجب مواجهتهم بالقوة المسلحة وقفا لعدوانهم ودرءًا لشرورهم، هذا بالنسبة للمقاتلين، لقوله تعالى: {فَمَنِ 0عۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَ0عۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا 0عۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ} [البقرة: 194].
أما الحكم بالنسبة لمن يفتي بالكفر فقد قال صاحب الدار المختار([6]): "وعزر الشاتم ب: ياكافر، وهل يكفر إن اعتقد المسلم كافرًا، نعم وإلا لا".
وقال ابن عابدين([7])" :قال في النهر وفي الذخيرة: المختار للفتوى أنه إذا أراد الشتم ولا يعتقده كفرًا لا يكفر، وإن اعتقد كفره فخاطبه بناء على اعتقاده أنه كافر يكفر، لأنه لما اعتقد المسلم كافرًا، اعتقد دين الإسلام كفرًا.
وإذا كان هذا بالنسبة للعقوبة، والمعتقد، مما يعطى سلطة للحاكم تشريع العقوبة المناسبة عليه فإن ثمة إجراءً احترازيا وقائيا يوقع على ذلك المفتي المفسد لعقائد الناس، وذلك بوجوب الحجر عليه، فإنه يحجر في الفقه على ثلاثة: المفتي الماجن، والمكاري المفلس، والطبيب الجاهل"؛ إذ إن المفتي الماجن يفسد الأديان، والمكاري المفلس يفسد الأموال، والطبيب الجاهل يفسد الأبدان، فوجب رفع أذاهم عن الناس.
من مساوئ فتاوى الجهال:
فقد تسببت في إحياء الفتن والصراعات الداخلية الممزِّقة للأوطان المسبِّبة للشقاق المجتمعي، ومعلوم أضرار الفتنة، فمشعل الفتنة ملعون، لأنه يقوض أمن المجتمعات دينيا واجتماعيا، وقد تطورت إلى خلق الصراعات بين الأسرة الواحدة، وبين رفاق العلم، وزملاء العمل، مما أوجد حالة غير مسبوقة من التشرذم والانقسام داخل المجتمعات العربية، وقاد إلى الاقتتال بين إخْوة الدين والوطن، وهو ما أوصل هذه المجتمعات إلى حالة غير مسبوقة من النزاعات والصراعات الدموية، يمكن وصمها بأنها فتاوى الفتنة والفرقة وطلب السلطة والمكاسب الدنيوية.
ولقد ضربت هذه الفتاوى عُرْضَ الحائط بفرائض دينية وأصول نصية، منها الناهية عن النزاع والفرقة لقوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ 0للَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡ} [الأنفال: 46]. والنص يشدد على عدم الخروج عن وحدة الصف، ولزوم الجماعة، ووجوب مواجهته ومعاقبته، سمعت الرسول –صلى الله عليه سلم- يقول: ((من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه))([8]).
لقد بلغ هذا الجرم من تفريق الصف، وتمزيق الشمل مدى غير مسبوق، بإصدار فتاوى أمام الحشود من الأتباع للجماعة أو الفرقة أو عبر الوسائل التقنية الحديثة أو بواسطة وسائل الإعلام الحديثة التي تشكل العقول، وتصنع الرأي العام وكلها تصب في اتجاه أحقية الجماعة التي أصدرتها في مدعاهم، بالوصاية على المسلمين ومنازعتهم مع جمهور الأمة، وشعب الدولة الموجه إليه هذه الفتوى، كذلك الدعوة إلى الثورة على النظام الحاكم فيها، وحرمة اتباع هذا النظام أو إظهار الولاء له، ووجوب مقاومته بكل سبيل، حتى محاربته.
والمحير حقا أنهم ماضون على هذا الطريق، التكفير واستحلال قتل المسلم, ويحسبون أنهم قد حسموا قضيتهم عندما حكموا بتكفير جمهور الأمة، وأخرجوهم من الملة، بسبب موالاتهم لحكام الباطل وسياساتهم، فيكون أمرًا طبيعيا قتلهم، وإزهاق أرواحهم، وتخريب أوطانهم، فيجب قتالهم باعتبارهم الكفرة القريبين منهم بنص الآية: {يَٰٓأَيُّهَا 0لَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ 0لَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ 0لۡكُفَّارِ وَلۡيَجِدُواْ فِيكُمۡ غِلۡظَةٗ} [التوبة: 123]. فإنه ليس بعد الكفر ذنب، فهو رأس الخطايا التي لا يغفرها الله ولا هم يسكتون عن ذلك، فإنهم أهل نصرته، والقائمين على منهجه والمطبقين لشريعته، الذين يريدون استعادة الإيمان للجمهور الأعظم الذي ضل، فَهُمْ على نهج الحق وغيرهم على الباطل.
وهم في غمرة انشغالهم بنصرة جماعتهم أو فرقتهم، ظنوا أن النصوص الصريحة بتحريم رمي المسلم بالكفر أو الردة من أكبر الحرمات، فقد دلت الرويات المتعددة على حرمة نعت المسلم بالكفر، وبالأولى الحكم عليه بالكفر وإخراجه عن الملة الإسلامية، وهي جناية لا تغتفر كما هو صنيعهم مع الكثرة الغالبة من الأمة أو الشعب، فعن ابن عمر قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم–: ((إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما فإن كان كما قال، وإلا رجعت عليه)). وفي رواية ثابت بن الضحاك: ((ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله)) وفي رواية: ((ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله))([9]).
وعن أبي سفيان قال: "قلت لجابر: أكنتم تقولون لأحد من أهل القبلة كافر؟ قال: لا، قلت: فمشرك؟ قال: معاذ الله! وفزع"([10]). ولما سئل علي بن أبي طالب عن الخوارج: "أمشركون هم، قال: لا من الشرك فروا، فقيل أمنافقون، قال: لا لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، قيل له: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا" فهم بغاة يقاتلون قتال أهل البغي لردهم عن بغيهم"([11]).
فما أفدح الخطيئة التي يرمي بها أنصار هذه الجماعات الضالة المضلة لجمهرة المسلمين بالكفر، وهم يعلمون، وقاصدون للمفاسد التي تترتب على الحكم بكفر المسلم، من: سقوط عصمته، وانتهاء شخصيته شرعا، فهو مستوجب لاستباحة دمه وماله، والتفريق بينه وبين زوجته، وقطع أوطار الصلة بينه وبين سائر المسلمين، ومن أقرب المقربين إليه فلا يرث ولا يورث ولا يُوَلَّى أو يصاحب فهو منبوذ، وإذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
لا شك أن تداعيات هذه البلايا على كيان المجتمع والوطن والأمة هي من الظهور بمكان، لما ينشأ عنها من تدمير شخصية المسلم، وتقويض أسرته وأهل نصرته، وتفتيت وحدة النظام الاجتماعي، وتحويل الأولياء إلى أعداء، وتقطيع الأرحام، وهو ما يحدث في معترك الفوضى والانقسامات والحرب الأهلية الضروس –الاقتتال- بين أبناء الوطن الواحد، كما صار إليه المشهد الراهن في مجتمعات العروبة والإسلام.
ولم يقف أصحاب هذه الفتيا عند اغتصاب سلطة الإفتاء من أربابها المختصين بها، وإنما يقدمون أنفسهم على أنهم أهل الصدق وعنوان الحق، ودعاة الإصلاح، برغم كل هذا الاضطراب والخلل الذي أحدثوه، وصيروا به أوطان المسلمين على وشك الانهيار إن لم يكفوا عن صنيعهم السيئ، وما هم بفاعلين إلا بمواجهتهم بالفكر ونقض مقولاتهم، وتصحيح أباطيلهم، ومقاومة عدائهم على المجتمع والوطن بالقتال اعتصاما بقوله تعالى: {فَقَٰتِلُواْ 0لَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ 0للَّهِۚ فَقَٰتِلُواْ 0لَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ 0للَّهِ} [الحجرات: 9].
وأحرى بشباب وشيوخ الأمة رجالا ونساءً، أن يتيقظوا لمذاهبهم وتدليسهم وتغريرهم بهم، وأن يبينوا للشباب بخاصة أن الإسلام لم يأت إلا للإصلاح والهداية والوحدة والسلام الاجتماعي، ولم يكن قط دعوة للإفساد والضلال، وتفكيك أواصر العلاقات، وتحريض أبناء الأمة ضد بعضهم بعضًا، فهذا هو الفساد بعينه، وإنْ زَعَمَ من يقول به ويروجه إنه إصلاح، وحسبنا أن نفْقَهَ قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي 0لۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ 11 أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ 0لۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ} [البقرة: 11– 12].
– الفرقة والخلاف في أمر الدين، ونقض عروته الوثقى وغيرها من المآسي التي صنعها أدعياء الفتوى، والمتجرئون عليها فقد نسبوا إلى الإسلام ما ليس فيه، وأساؤوا إليه أبلغ إساءة، من حيث إنه دين يكفر أتباعه، ويخرجهم من إيمانهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر بتأويلات جاهلية، وبغلو منهي عنه، وتفسيرات مغلوطة، فأفسدوا على جمهور المسلمين دينهم وأحدثوا فرقة في الدين، وقسموه إلى فرق وجماعات، وقدموه إلى الناس على أنه دين يفرق ولا يجمع أتباعه، وهو بيقين عكس مقصود الإسلام، دين التوحيد، الذي وحّد المسلمين على الإيمان بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، وبالكعبة قبلة.
فهم بفتاواهم الضالة يرمون الدين بالعنصرية ويحتكرون فهم الدين لأنفسهم، مقصورًا عليهم، ويجعلون جماعتهم الفرقة الناجية، وأنهم السلف الصالح، وأهل السنة والجماعة، وما سواهم من الجمهور الأعظم مرتدون عن الدين وكفار بعد الإيمان، مع ما في ذلك من عدوان أثيم على بني دينهم وإخوانهم في الإسلام، وينقضون العروة الوثقى لهذا الدين الذي جمع بين الأديان كلها، وحمل رسالة السماء إلى الناس كافة، مصداقا لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ 0لدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَ0لَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ 0لدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13].
فمن يدعو إلى الله بمنهاج الإسلام القويم، ومن يبلغ الناس حكم الله في أمورهم، يجب أن يلتزم الاستقامة على طريق وحدة الدين، وأن أديان الأنبياء جميعا جاءت من عند الله، وأن الإسلام بأصوله العقدية يدعو الناس إلى التوحيد، وإن اختلفت الشرائع: {لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗا} [المائدة: 48]. وأن الإسلام دين التوحيد في العقيدة والوحدة بين الناس، فمن خرج به عن هذه العروة الوثقى والرباط الجامع، فهو قد خرج به عن هذه العروة الوثقى والرباط الجامع، فهو هادم لأساسه ناقض لبنيان المجتمع والأمة.
ومرتكب هذه الخطيئة الكبرى، الساعي إليها، المُكَفِّر لأهلها، هم من بين الفرق التي عناهم حديث: افتراق الأمة في قوله –صلى الله عليه وسلم–: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار. قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة))([12]).
وبنظرة فاحصة مدققه، أليس من التزييف حقا أن تَدَّعِي هذه الجماعات والفرق، التي يكفر بعضها بعضا، ويكفر كل منها الكثرةَ الغالبةَ من المسلمين في كل الأقطار والأنحاء، ويستحلون سفك دماء المخالفين، يصدق عليهم أنهم الأغلبية المسلمة يحتكرون فهم الدين، ويقتلون جند الأمة المدافعين عن البلاد والعباد، وهم الفرقة الناجية وما عداهم -وهم الجمهور الأعظم- هم الكفرة الفجرة!!!!.
إن تَعَرُّض قادة هذه الجماعات للسجن أو جريان الظلم على بعضهم من بعض الحكام هو ظلم، لكنَّ ذلك لا يجعلهم يختصمون الشعب والجيش والمجتمع والأمة، فأجدر بهم أن يحتسبوا ذلك عند الله، وألا يفرقوا الدين شيعا، وأن يقعوا في ظلم الشعوب المسلمة، فلا يشفع لهم ما هم عليه من مظاهر التدين والتقشف، فهو تدين ظاهري شكلي، لا يجعلهم بمنجاة من الحساب والمساءلة، إنهم يقرأون القرآن، وتعلو حناجرهم بذكر آياته، وبإيراد سنة رسوله، ما دام فقههم وفكرهم يقوض دعائم الدين.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فها هو ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، اعترض على قسمة رسول الله، و((قال: اعدل، فقال الرسول –صلى الله عليه وسلم–: ويلك من يعدل إن لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم–: دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم. يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية))… قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وأشهد أن علي بن أبي طالب قَاتَلَهُم وأنا معه. فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتى به علي حتى نظرت إليه على نعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم– الذي نعت"([13]). أي على الصفة التي وصفه بها الرسول.
هذا التصوير النبوي لحال هذه الجماعات، وقادتها يصدق على ما تعانيه الأمة، وتكتوي به المجتمعات والأوطان الإسلامية؛ فهم يسومونها سوء العذاب، ويفعلون بها أشد مما يفعله أعداؤها بها، وهو عين ما يتمناه الأعداء من أن يوصف المسلمون بأنهم كفرة من بني دينهم، وأن يخربوا بيوتهم بأيديهم، وأن يشوهوا الإسلام بمقولات إسلامية خاطئة ومغلوطة، وهم الخوارج الذين قاتلهم علي، وقال([14]): "إذا حدثتكم عن الرسول الله –صلى الله عليه وسلم– حديثا، فوالله لأن أَخِرَّ من السماء أحبّ إليَّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم– يقول: ((سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة))".
لقد ذاقت الأمة الأَمَرَّيْن من جرأة هذه الجماعات على تكفير المسلمين، وأنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت لا لشيء إلا لكونهم لم يوافقوهم على دعوتهم في قتال إخوتهم في الدين والوطن، طلبا للجنة، واستعادة للخلافة الإسلامية لأهل الإسلام، فهل أحيوا السنة وأقاموا البدعة؟ وهل الفوز بالجنة يكون بقتل المسلم، وإحياء الحرب الدينية، فإن الخلافة –وهي معنى ومضمون– قد تتحقق بالوحدة الدينية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية في ضوء المعطيات الحديثة، التي تحقق مطلوب الشريعة في اتحاد إسلامي حديث.
إن إقحام الإفتاء واستخدامه كسلاح ضد الدين ومقدساته، وإحداث الهزيمة والدمار لأوطان الأمة بدعاوى دينية، وفرض وصاية على الفقه والفكر الديني هو من الحصاد المرّ لهذه الجماعات المتفقهة ظلما وعدوانا على شريعة الإسلام، يشيعون في كل مكان من أرض المعمورة أنهم أصحاب الإسلام المقهورون من حكام المسلمين، الذين يجب نصرتهم وتمكينهم من السلطة. الأمر الذي يجب التحذير منه هو عدم تصديق فتاواهم فإنها ضالة؛ لخروجها عن فقه الأمة، ومضلة لمن يتبعها ويعمل بحلالها أو بحرامها، فهم بفكرهم التكفيري الدموي التدميري وفقههم الخارجي الذي يمارس التكفير والقتل والتخريب، يصدق عليهم ما جاء في حديث أبي إدريس الخولاني أنه سمع حديفة بن اليمان يقول: قال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: ((يكون دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها, قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم قوم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: فالزم جماعة المسلمين وإمامهم فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت كذلك))([15]). فأحرى بكل من سمع فتاواهم ألا يلتفت إليها ولا يأبه بها، وأن يعتصم بطوق النجاة في الانضواء تحت لواء المجتمع والأمة.
اعتناق فقه الغلو والتشدد في الفتوى:
فإن منهج المفتي التيسير والتبشير، لا التشديد والإفراط وتيئيس المستفتي، فهذا ما حذر منه الإسلامُ المسلمين وأهلَ الكتاب، لمفاسده الجمة ومساوئه الكثيرة، بقوله تعالى: {قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ 0لۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ} [المائدة: 77].
وتوعد الرسول –صلى الله عليه وسلم- المتشددين في الدين، بقوله: ((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، قالها ثلاثا))([16]). والمتنطع هو المتشدد المعسر على الناس.
وليس في التشديد والغلو فائدة ولا مصلحة فإنه يرسم على الشخصية ملامح العبوس والتجهم والكآبة والقنوط، وعدم القدرة على المضي على هذا الطريق، ما لم تنحرف فطرته، ويَعْوَجَّ سلوكه، وتسوء عاقبته ولن بفيد الدين شيئا، بل ستنفر الناس منه، ويتسرب إلى نفوسهم اليأس، والإسلام فطرة نقية، وهداية ربانية، وإصلاح وتعمير للدين والدنيا، فلا يجوز إفساد الدين بأقاويل اعتدال المسلم واستقامته لأن هذا هو غرس الإسلام في المسلم، كما أخبر الرسول –صلى الله عليه وسلم– ((إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المُنْبَتَّ لا أرضا قطع ولا ظهرًا أبقى، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه))([17]).
سبل تصويب الفتوى
وعلى هذا الأساس ينبغي أن تتوفر ضوابط وقوانين لتصحيح مسيرة الإفتاء ووقاية المجتمع من تداعيات الانحراف بها. منها: أن يُعْهَد بالإفتاء إلى مَنْ هو متخصص في علم الشرع من أصول الفقه، والفقه، والفقه المقارن، والعلم بآيات الأحكام وأحاديث الأحكام، والواقع وما يلزم للإفتاء, وعلى المفتي أن يوجه الناس إلى صحيح الفتوى ويجتهد لبلوغ المصلحة ودرء المفسدة، وأن يلتزم في فتواه بأصول وضوابط الفتوى، ويختار لهم الأيسر شريطة ألا يكون فيه الإثم أو الحرمة، وأن يؤسس الفتوى على دليلها الصحيح, وأن يراعي ظروف المكان والزمان وحال المستفتي, وأن يحقق مقاصد الشريعة الاسلامية الكلية, وأن يتجرد عن الهوى كما يقول القرافي: "وأما اتباع الهوى في الحكم أو الفتيا فحرام إجماعا"(17)، فهذا كفيل بأن يقبل المستفتي على الدين يأوي به إلى ركن آمن من الرضا الإلهي، والعبادة الصحيحة، ويتعامل به مع الناس وفق التسامح والترفق بهم، فيحبهم ويحبونه، ويأنس إليهم ويأنسون إليه، فيتحقق للكل السعادة في الدارين، والمصلحة له ولهم، وهذا ما نبه عليه صاحب الرسالة، لمَّا بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن بقوله: ((يَسِّرَا ولا تُعَسِّرا، وبَشِّرَا ولا تُنَفِّرَا، وتَطَاوَعَا ولا تَخْتَلِفَا))([18]). وإذا كان الأمر كذلك مع أهل اليمن، فما بال حال الإفتاء والدعوة اليوم في عصر الفضاء والمعلوماتية والسماوات المفتوحة، بكل ما يبثه الإعلام المعاصر من القوى الناعمة، والدعوات البراقة، لجذب واستقطاب الناس في أرجاء العالم قاطبة.
فهل يصلح أن يصدر عن المفتي العالِم برسالة الدين ومقاصده في الحياة، أن يُعَسِّر ويُنَفِّر الناس ويرميهم بالكفر والفجور، ويكيل لهم الاتهامات إن لم يطاوعوه في كلامه وأفعاله، ويسيروا على دربه، ولا يسمع إلا رأيه، ولا يدير مع بني دينه ووطنه حوارًا بَنَّاءً يجلب لهم التحلي بالمصلحة جميعا، ويدرأ عنهم المفسدة، الذي هو دستور الدعوة إلى الله بمفهومها الشامل للدخول في العقيدة والالتزام بالشريعة بالأخلاق الحسنة: {0دۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِ0لۡحِكۡمَةِ وَ0لۡمَوۡعِظَةِ 0لۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِ0لَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ} [النحل: 125].
فمن أراد أن يلتزم بمنهج الإسلام في الفتيا فعليه أن يفتح للناس أبواب الخير، وأن يغلق عليهم أبواب الشرور والفتن، ولا يرهقهم من أمرهم عسرًا، ولا يكلفهم من الأعمال ما لا يقدرون عليه، فإن عليه الاتباع لا الابتداع، وأن ينقاد لربه لا لفرقته ولا لجماعته ولا لمرشده، فالله والرسول أولى بالاتباع، وأن يحب شعبه وبلده وأمته، فإن حب الوطن من الإيمان، وأن يؤمن بأن وحدة المجتمع والوطن أساس وحدة مجتمعات العروبة والإسلام، وأن تمزيق الوطن ينطوي على إضعاف وتدمير للأمة كلها، ولن تقوم الوحدة الجامعة للأوطان ومجتمعات المسلمين بدون وحدة كل مجتمع وكل وطن مسلم.
ومن الآفات التي يصر عليها أدعياء الفتوى طلبُ المثالية المطلقة، وخلو المجتمع من المعاصي والذنوب والجرائم، والتزام كل مسلم بأوامر الشرع ونواهيه.
فقد خلق الله الإنسان، وهو الأعلم به وبما توسوس به نفسه، وقدر ضعفه وتقلب فؤاده، وأنه خَطَّاءٌ، وقد تزيد أخطاؤه، في أجواء الغزو الفكري، واستلاب الهوية، وتصدير الأفكار والنظم والقوانين لإزاحة قوانين الشريعة، وهو ما ينبغي أن يلحظه من يتصدر للإفتاء تطبيقا للقاعدة الأصولية: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره" فهذا من التقدير السليم لطبيعة الإنسان، وحقائق الأشياء، وتغير الأحوال.
وقد أدرك الخليفة عمر طبيعة الإنسان، وظروف العصر، بالرغم من أن المسلم كان آنذاك من خير القرون، فما بالنا في هذا الزمان الذي ظهرت فيه الأعاجيب، ويتطلب الوقوف على أزمة المسلم في هذا العصر، والتعامل الصحيح معها، روى ابن جرير عن الحسن: "إن ناسا سألوا عبد الله بن عمرو بن العاص بمصر فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله عز وجل أُمر أن يعمل بها ولا يعمل بها، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك، فقد قدموا معه، فلقي عمر رضي الله عنه، فقال: متى قدمت؟ فقال: منذ كذا وكذا، قال: أبأذن قدمت؟ قال: لا، فلا أدري كيف رد عليه، فقال: يا أمير المؤمنين إن ناسا لقوني بمصر فقالوا: إنا نرى أشياء في كتاب الله، أمر الله أن يعمل بها فلا يعمل بها، فأحبوا أن يلقوا في ذلك، قال: فاجمعهم لي، قال: فجمعهم له، فأخذ أدناهم رجلا، فقال: أنشدك الله وبحق الإسلام عليك أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم، قال: فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ فهل أحصيته أثرك؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم، فقال: ثكلت عمر أمه، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله، قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات، قال وتلا: {إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّ‍َٔاتِكُمۡ}[النساء: 31]. ثم قال: هل علم أهل المدينة، أو قال: هل علم أحد بما قد تم؟ قالوا، لا قال: لو علموا لوعظت بكم"([19]).
مغزى هذه الرواية أن وفدًا من مصر أرادوا أن يكون المجتمع مثاليا في التزامه بأوامر ونواهي الشرع، وأن يكونوا في قمة الاستقامة والعمل بكل ما ورد في نصوص القرآن، لا يغادر منه صغيرة ولا كبيرة، وكأن أفراد المجتمع من الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فأبان لهم عمر طبيعة الإنسان الذي يخطئ ويصيب، ويرتكب مع الحسنات السيئات؛ إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وأن على المسلم أن يتقي الله ما استطاع، والمهم اجتناب الكبائر فإن الله رحيم بعباده، وغفار للذنوب لمن استغفر ربه، وتاب عن المعاصي: {إِنَّ 0للَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] فالخطأ يقع فيه الإنسان، كما في الحديث ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون))([20]).
وافتراض المثالية المطلقة وعدم الوقوع في المعصية مطلب عسير المنال، لم يوجد حتى في العصر النبوي، مع أنه أفضل العصور استقامة على طريق الشرع والحق والعدل، وترك المعاصي استجابة للنداء الإلهي، ومع ذلك فقد كانت هناك بعض المعاصي والأخطاء، كارتكاب جريمة السرقة كسرقة المرأة المخزومية، وجريمة الزنا كما حدث من ماعز والغامدية، ومن شرب الخمر من البعض، وكالرشوة، كما حدث من ابن اللتبية وغيرها من الجرائم، فإنه لن يخلو مجتمع من الجريمة.
كيفية التعامل مع التغير الحاصل في هذا العصر:
لقد أتى على المسلم عصور ومتغيرات، نالت من الشخصية المسلمة، وأضعفت من رصيدها الديني مما أثر سلبا على تقدمها الحياتي، وبالتالي فإن الاحتكام إلى معيار المثالية الدينية لم يعد موجودًا في هذا العصر، لأسباب عديدة، مما يجدر بهؤلاء الذين يفتون بأقوال لا تناسب حال المسلم، ولا ظروف العصر، ولا تستمد من فقه الأمة والمصالح المرسلة لها، التي صارت من الفروض العينية، مثل العمل والإنتاج, الوحدة الوطنية، جيش الأمة، السوق المشتركة، محكمة العدل الإسلامية، التكامل الاقتصادي، وغيرها مما يعبر عن وحدة إسلامية ملائمة لطبيعة العصر، وبما يراعي الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية.
وإذا كانت التعددية الفقهية حتى في نطاق المذهب الواحد قيمة وثراء للفقه والفتوى، كما هو الحال في الفقه الحنفي الذي تتعدد آراء فقهائه فيما بين الإمام، وصاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن، فضلا عن زفر والحسن، والمذهب الشافعي، ما بين مذهبه القديم في العراق والمذهب الجديد في مصر، إلى جانب المذاهب الأخرى، بما فيها مذهب الشيعة الإمامية والشيعة الزيدية، ومذهب الإباضية، مما يوفر مكنة لاختيار الرأي الأنسب من بينها على نحو يحقق مصلحة الفرد والمجتمع، وينأى بهم عن الضرر.
ومنحى السلف الصالح ممن حازوا العدل والشورى أنهم بإقامتهم للحكم الرشيد، وسعيهم للمصلحة العامة راعوا المستجدات وطبائع الناس، وهو ما أشرنا إليه من الخليفة عمر بن الخطاب. كذلك مما أثر عن عمر بن عبد العزيز –خامس الخلفاء الراشدين– قوله: "يحدث للناس من الأقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور". يشير إلى تغير الفتوى بحسب تغير التزامهم بالدين، وتنوع اهتماماتهم عما كان عليه في عصر الراشدين.
أيضا من العلم والدراية بأحوال الناس والزمان والمكان من الضمانات التي وضعها الفقه تَغَيُّر الفتوى بتغير البيئات وطبائع الأشخاص، وظروف الزمان وخصوصية المكان، وذلك بغرض التيسير على الناس، ومواكبة الجديد، ورعاية المصالح الدنيوية، فمن لم يدرك هذه الحقيقة، فليس من أهل الإفتاء، وليس جديرا أن ينخرط في سلك المفتين الفقهاء، وهذا ما نبه عليه ابن القيم([21]): "فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله –صلى الله عليه وسلم- أتم دلالة وأصدقها.
على هذا النسق يجب على الرأي العام المسلم، أن يحتكم في تقييم ما يطلق عليه أنه فتوى فيلتزم مقاصد الشريعة في حفظ الدين وعدم الفرقة فيه، وحفظ حق الحياة لكل إنسان، وحفظ المال والممتلكات، وحفظ العقل والرأي المخالف، وحفظ العرض والشرف والكرامة، وعليه أن يزن مردود تلك الفتاوى وأثرها على الفرد والمجتمع، فمتى وجدها تُوْدِي بأي مقصد من مقاصد الشرع أو ينتج عنها الظلم أو الجور، أو تؤدي إلى القسوة أو العنف أو تسبب المفسدة، أو تقود إلى العبث والفوضى، فهي ادعاءات مكذوبة، فإن إضفاء الشرعية عليها لا يغير من حقيقتها كمِعْوَلِ هدم للشريعة وللمجتمع على سواء.
ضمانة التزام الفتوى بالمقاصد والثابت قطعا أمران:
1- أن تكون الفتوى منضبطة بضوابط الشريعة الثابتة بيقين، وألا تنحاز لرأي فرد أو فكر جماعة، وأن تتجنب الشذوذ أو تتبني التشديد أو أن يكون اعتمادها على الرخص، اتباعا لمنهج الإمام مالك في تصنيفه للموطأ([22]). فيما قاله أبو جعفر المنصور: "اكتب لي كتابا: تجنب فيه تشديدات ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود، ووطِّئْهُ توطيئا".
ولا يجد المتابع في فتاوى أنصار جماعات العنف والتكفير والإرهاب، إلا المزيد من التشدد وإصدار الفتاوى الشاذة، وهي ما أفرزت المفاسد والمساوئ في جنبات الأمة وبين أهلها أتباع الإسلام، وعلى من يطرق باب الفتاوى الشاذة، أن هذا ليس من العلم الصحيح؛ إذ لا يكون إماما في العلم مَنْ أخذ بالشاذ، ولا إماما في العلم مَنْ روى عن كل أحد، ولا يكون إماما من حدّث بكل ما سمع"([23]).
والمقصد من ذلك هو أن تنضبط الفتوى بالضوابط الشرعية وترشيدها بالعلم السديد، لا أن تكون موجهة لخدمة فئة أو جماعة، أو تكون أسيرة لفكر ليس في صالح المجتمع والأمة.
2- قدرة الفتوى على مواكبة ما طرأ على العصر من متغيرات فرضت نفسها على المجتمع، بما يقتضي التصدي لها وبيان حكم الشرع فيها؛ تحقيقا لقاعدة: صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان. وأن الفتوى تدور في نطاق جلب المصالح العامة، ودرء المفاسد المجتمعية في إطار الشريعة.
التوصيات
نوجز توصيات البحث فيما يلي:
1- إصدار تشريع يلزم بصدور الفتوى عن المتخصصين والمؤهلين من العلماء تحت إشراف الأزهر ودار الإفتاء.
2- فرض عقوبة على من يتصدى للإفتاء عن غير علم ولا تخصص في علم الفقه وأحكام الشرع، ممن لا تجيز لهم دار الإفتاء والأزهر مهمة الفتوى.
3- إلزام مؤسسات الإعلام والصحافة بأخذ الفتوى من العلماء المتخصصين ومؤسسة الأزهر ودار الإفتاء، وعدم أخذها عن غيرهم.
4- وضع ميثاق شرف لضبط الفتوى، يلتزم به المفتون ومَنْ يتصدر للإفتاء.
5- تنظيم ممارسة الفتوى من خلال مؤسسات الاجتهاد الجماعي، كالمجامع الفقهية، ولجان الفتوى، والعمل على التنسيق بينها؛ بلوغا للهدف المنشود من الفتوى.
6- توجيه الفتاوى من الفقه الفردي إلى فقه الأمة، بما يتحتم معه إيلاء الاهتمام إلى جانب الفروض العينية الفروض الكفائية المتعلقة بفقه المجتمع والوطن والأمة، وتوسيع مجالات الفتوى لمواكبة القضايا الداخلية، وكذا امتداد الفتوى إلى الأحداث الدولية، بغية إسهام الفتوى الشرعية في تقديم الرؤية الإسلامية في مسيرة المجتمع الدولي.
([1]) صحيح البخاري، باب العلم والعمل – العلم – رقم 13.
([2]) سنن البيهقي، كتاب الشهادات، رقم 21439.
([3]) موطأ مالك, باب الكلام, رقم 1832.
([4]) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، رقم 2946.
([5]) المنار للإمام محمد عبده ورشيد رضا، ج 10، ص 359.
([6]) الدر المختار شرح تنوير الأبصار ج 3، ص 69.
([7]) حاشية ابن عابدين، ج2، ص69.
([8]) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، رقم 4904.
([9]) صحيح البخاري، حديث رقم 5754، 5700.
([10]) التمهيد لابن عبد البر ج17، ص 21.
([11]) الجامع لأحكام القرآن- القرطبي، ج 16 ص 324.
([12]) سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، رقم 4137.
([13]) صحيح البخاري، رقم 3414، صحيح مسلم، رقم 1064/ 148.
([14]) صحيح البخاري، رقم 6531، صحيح مسلم، رقم 1066/ 154.
([15]) سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، رقم 41114.
([16]) سنن أبي داود، كتاب السنة، رقم 4610.
([17]) سنن البيهقي، ج3، ص18، والمُنْبَتُّ هو من أجهد دابته في السفر، حتى انْبَتَّ أي انقطع عن رفاقه، فلا وصل إلى غايته ولا أبقى على دابته.
(17) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، ص 92
([18]) صحيح البخاري ومسلم، رقم 2883، 1733.
([19]) تفسير ابن كثير، ذكر أن إسناده صحيح، متنه حسن.
([20]) سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، رقم 4392.
([21]) إعلام الموقعين، ج 3، ص 14، 15.
([22]) هو كتاب الموطأ يجمع بين الحديث والفقه، أراد أبو جعفر أن يلزم به الأمة فرفض الإمام مالك.
([23]) جامع بيان العلم لابن عبد البر، ج 2، ص 53.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.