د. إلهام سيف الدولة حمدان – مصر مقولة رائعة أعجبتني فحواها : إن الاقتباس مفتاح الخلق الإبداعي؛ والترجمة مفتاح التأليف ! وهي مقولة صائبة تعكس مدى أهمية حركة الترجمة في عالمنا المعاصر الذى غدا قرية صغيرة؛ تربط أطرافها هذه الشبكة العنكبوتية الأثيرية التي تسبح على أمواج الفضاء اللانهائي . والعالم دون حركة الترجمة كالبنيان الشامخ الذى ارتفع ليناطح السحاب ؛ لكنه بلا نوافذ تمنحه الهواء والشمس، والإطلالة على بانوراما الدنيا بكل جمالها وروعتها . تلك الإطلالة التى عني بها الخلفاء المسلمون؛ وكان أكثرهم نشاطًا في هذا الأمر " الخليفة العباسي المأمون"؛ فجعل من "بيت الحكمة" الذي أنشأه والده هارون الرشيد مركزًا للإشعاع الفكري جلب له كتبًا من أقصى البقاع، أمر بترجمتها إلى العربية، ( وقال بعض المؤرخين إن المأمون كان يدفع وزن الكتاب المترجم ذهبًا ) ! إلى أن جاء محمد علي ليبني مصر الحديثة؛ فاهتم بإيفاد البعثات إلى أوروبا؛ ليعودوا بكل ماتعلموه لاستنارة و إثراء الحركة الفكرية . فما بالنا بالواقع المعاصر والمستقبل القريب الذي يشير إلى ضرورة إيجاد لغة تفاهم وحواربين الشعوب والأمم؛ولا سبيل إلى هذا التواصل الخلاَّق إلا من خلال الترجمة وحدها؛ فهي تلعب دور الوساطة بين اللغات المختلفة، ولولاها ما استفادت كل أمة من علوم وفنون الأمم الأخرى؛ ولا رأينا كل هذا الازدهار العلمي والمعرفي الإنساني، ولابد لنا أن نقر بأن لا المعرفة العلمية وحدها تغني، ولا المعرفة اللغوية وحدها تكفي، بل لابد من امتزاجهما؛ فضلا عن ضرورة امتلاك مهارات المعالجة الترجمية وطرق النقل وقواعدها ومايشترط في المترجم الكفء من مقومات وخصائص نأمن بها علي انتاجه فنتلقاه في ثقة . من هذا المنطلق، بزغت الفكرة العبقرية كبارقة ضوء متوهجة في ذهن المفكروالأديب الكبير أ.د. فوزى فهمي؛ رئيس أكاديمية الفنون الأسبق؛ بضرورة إقامة صرح "مركز اللغات والترجمة" ليكون منارة فى قلعة "أكاديمية الفنون "؛ وقد ظهر وعيه بأهمية الترجمة ودورها لديه بدافع الغيرة على حقائق التراث المصري والعربي الذي تشوبه بعض المغالطات من مترجمي الغرب غير المحايدين مذ كان معيدا . وأترك الحديث على لسانه في مقاله" الفارس النبيل ".. يقول : " … كان قد مر علي تعييني معيدًا ثلاث سنوات، فإذ بي أتلقى استدعاءً لمقابلة د. ثروت عكاشة وزير الثقافة، عندما جلست إليه سألني عما جاء في مقالي بصحيفة الأخبار، بشأن الكتاب الصادر بالإنجليزية (دراسات في المسرح والسينما عند العرب)، ل "يعقوب لنداو"، الأستاذ في الجامعة العبرية بالقدس، وتحديدًا سألني عما يقلقني في الكتاب، فأجبته أن المؤلف يطرح مفاهيمه الافتراضية المخالفة للحقائق والوقائع، التي تحتاج إلى مواجهة من المختصين العرب حتى لا تفرض هيمنتها على تاريخنا، لذا طالبت في المقال بترجمة الكتاب والتعليق عليه، فطلب مني ترشيح أحد أساتذتي لكتابة تقرير عن الكتاب، وبفضل الرجل الذي جعل الفهم يصير تفاهمًا، ترجم الكتاب ونشر …". كانت رؤية أ.د. فوزى فهمي ثاقبة وتستشرف المستقبل بنظرة واعية؛ ولإيمانه العميق أنه برغم كل جهود الترجمة المبذولة فى العالم العربي، إلا أن نسبة الإحصائيات تشير إلى ضآلة مايتم ترجمته من أمهات الكتب العالمية، وقناعته بأن حركة الترجمة كانت ولا تزال أحد أبرز المعايير التي يقاس بها حجم التطور الثقافي والعلمي بعد مرحلة التأليف . فحركة الترجمة تعمل على حماية الثقافة والحفاظ على الهوية من خلال تعريف الشعوب بثقافات وفنون ومعارف بعضها البعض، خاصة أن هذا الصرح يقوم على الترجمة بسبع لغات متخصصة، وهو الأمر الذي ينعكس بالإيجاب على حركة الفنون كافة؛ خاصة إذا علمنا أن المركز قام بترجمة مايقرب من أربعمائة كتاب في كافة التخصصات، بفضل توجيهات ورعاية ومتابعة د.فوزي فهمي؛ الذى قام بتكليف نخبة منتقاة من الأساتذة المتخصصين بهيئة التدريس بالمركز لخروج تلك الترجمات إلى أرفف المكتبات لإثراء الحركة الثقافية في مصر، وكانت بمثابة الكنز الثمين الذي يمد عقول الشباب وقائدي حرس حدود الغد المشرق؛ بكل العلوم والمعارف التي تخدم الإنسانية جمعاء، وليس في مصر وحدها . وبالتأكيد كان لإنشاء صرح مركز اللغات والترجمة مردود قوي وفاعل؛ فكانت الخطوة الثرية بظهور مشروع "المركز القومي للترجمة" لمؤسسه الناقد الأستاذ الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق، ولكونه يحمل القناعة نفسها بأهمية الترجمة في حياة الشعوب ؛ فخرجت إلى النور العديد من الكتب المهمة المترجمة في شتى فروع العلوم الإنسانية . والآن أطمع وآمل بوصفي أحد أعضاء هيئة التدريس بالأكاديمية؛ الغيورين على مكانة هذا الصرح في الساحة العلمية والثقافية؛ وتفعيلاً لدوره ؛ الذى اضطلع به على مدى خمسة وعشرين عامًا؛ أن تتضافر الجهود بين منارتي الترجمة هاتين بأن نجد اتفاقا وتعاونا يقومان بينهما بإيمان القائمين عليهما بأهمية الدور المنوط بهما ؛ لتشتعل حركة الترجمة؛ وليكثر حصادنا الثقافي والمعرفي ؛ وتتخم مكتباتنا بأطايب الكتب وصنوفها؛ بما يحقق بغية كل المثقفين فحضارة الأمم تقاس بمقدار حراك الترجمة فيها . ليت الحلم يتحقق ويخرج مجسدًا على أرض الواقع العملي ؛ فلا ثقافة بلا تراجم تخدمها وتقوي عودها وتدعمها .لذا فالتحية والثناء واجب محتم تجاه العالمين الجليلين على فطنتهما وماأسساه لخدمة الثقافة والمثقفين المصريين والعرب . أستاذ العلوم اللغوية أكاديمية الفنون