أوضح الداعية الدكتور أنس عطية الفقي رئيس مركز التراث العربي والمشرف العام على متطلبات جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا أن المداومة على محاسبة النفس دليل تقوى وإيمان، ذلك أن من شرائط تقوى العبد المداومة على محاسبة نفسه. وقال في الخطبة التي ألقاها أمس من فوق منبر مسجد طارق بن زياد بمدينة السادس من أكتوبر إن آيات القرآن الكريم تحث على التقوى والعمل الصالح وتربط بينها وبين المحاسبة كما في قوله تعالى في سورة الحشر: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون). فهم سيدنا عمر هذه الآية فقال قولته المأثورة: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم، فاليوم عمل بلا حساب وغدا حساب من غير عمل". وحينما قرأها سيدنا ميمون بن مهران قال: "لن يبلغ أحد درجة المتقين إلا أن يكون على نفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه". وأحصى أحدهم عمره فوجده قد ناهز الستين عاماً فقال سبحان الله لو أني اقترفت في كل يوم ذنباً واحداً لكان لي أكثر من 21 ألف ذنب فما بالي وأنا أقترف في اليوم أكثر من ألف ذنب فخر مغشياً عليه. وقال تعالى في سورة لقمان: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور). وفي حديث شَدّادِ بْن أَوْسٍ -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وعمل لما بعد الموت، والعاجزمن أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني). فما بعد الموت هو المستقبل الحقيقي، وهي الدار التي يفضي إليها، إما إلى جنة، أو إلى نار، والكيس هو الذكي، والعاجز هو الغافل الذي أتبع نفسه هواها أي ما تملي عليه نفسه من إتيان المحرمات والمعاصي، وتمنى على الله أن يغفر له بلا عمل يعمله، وفي ذلك من الغرور ما فيه.. قال تعالى في سورة الكهف: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا). وهناك فرق بين حسن الظن والغرور، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "الإيمان ما وَقَر في القلب وصَدَّقه العمل.. وإن أناساً قالوا إنّا نُحْسِن الظن بالله، وكَذبوا.. لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل". ومنه جاء قول سيدنا الحسن البصري رضي الله عنه: إن قوما ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم حسنة يقولون نحن نحسن الظن بربنا.. "ولو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل". قال الله تعالى في حديثه القدسي الذي أخرجه الإمام مسلم: "أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرًا فله وإن ظن شرًا فله".. والحقيقة أن الحديث إلى النفس الإنسانية حديثان، حديث من الله وحديث من الشيطان ولهذا يقول الحق سبحانه وتعالى: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً".. وهناك من يميل لحديث الله فيحسن الظن بربه وينشرح صدره ويستقيم قلبه وعمله، وهناك من يميل لحديث الشيطان -وخاصة في لحظات اليأس والإحباط- ويظن بالله الظنون؛ فيميل ميلة عن الحق ويشعر بالتعاسة وجفاء الخلق. إذن فحسن الظن وحسن العمل متلازمان للمؤمن الحق السائر على طريق الهداية وإياك وأن تظن بالله ظن السوء، فالله يقول"وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى".. ويقول لنا في حديثه القدسي: "عبدي، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. عبدي، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي". أي كأنك لم تفعل شيئا. تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما وإذا حسن عملك فإياك أن تغتر به أو تجد به في نفسك منة على الله فيحبط عملك ويسلب منك نعمة الطاعة. قال تعالى في سورة فاطر: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ). قال الإمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: "أوقات العبد أربعة لا خامس لها، نعمة وبلية وطاعة ومعصية. ولله عليك في كل وقت من هذه الأوقات سهم من أسهم العبودية.. فإن كنت في نعمة فمقتضى الحق منك الشكر لأنه لو شاء لسلبك النعمة، وإن كنت في بلية، فمقتضى الحق منك الصبر، وإن كنت في طاعة، فمقتضى الحق منك شهود ذلك منه، وإن كنت في معصية، فمقتضى الحق منك الاستغفار". فلا تخرج عن إيمانك بربك وثقتك فيه في أوقاتك الأربعة سالفة الذكر، فقد استوى على العرش باسم "الرحمن"، قال تعالى في سورة طه: (الرحمن على العرش استوى). وفي وقت الطاعة لا تغتر بعملك ولا تمنن تستكثر، واقتد بسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي قال: " لا آمن مكر الله ولو أن إحدى قدمي في الجنة". ولقد فهم الصديق ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع برزقه وأجله وشقي أو سعيد فوالله إن أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها". وفي وقت النعمة والطاعة غب عن نظر الخلق بنظر الله إليك. وإذا وقعت في معصية فاستغفر ربك وادخل عليه من باب الذل والانكسار فرب معصية تورث ذلاً وانكساراً خير من طاعة تورث كبراً وافتخارا.. وتذكر أنه "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". والإمام مسلم يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "لَوْلا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا يُذْنِبُونَ، ثُمَّ يَغْفِرُ لَهُمْ". قال المفسرون : لما نزلت آية: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) جاء أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وناس من الأنصار إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فجثوا على الركب، وقالوا : يا رسول الله، والله ما نزلت آية أشد علينا من هذه الآية، إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه، وإنا لمأخوذون بما نحدث به أنفسنا، هلكنا والله. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : هكذا أنزلت، فقالوا: هلكنا وكلفنا من العمل ما لا نطيق. قال : فلعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل لموسى : سمعنا وعصينا، قولوا : سمعنا وأطعنا، فقالوا: سمعنا وأطعنا. واشتد ذلك عليهم ، فمكثوا بذلك حولا، فأنزل الله تعالى الفرج والراحة بقوله : (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.. الآية فنسخت هذه الآية ما قبلها . قال النبي – صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد تجاوز لأمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا به". وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله قد تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وفي رواية أخرى: "إن الله قد تجاوز عما وسوس به الشيطان في صدور أمتي". وأختم بقول الشاعر الشاكر: لك الحمد والنعماء والشكر ربنا فلا شيء أعلى منك مجداً وأمجد رضيت بك اللهم رباً وإني بذلك ما عمرت في الناس أشهد