ابحث عن الله في قلبكَ… يدخلنا هذا النّص المفعم بالحبّ، والرّهبة، والخشوع، والدّهشة، إلى عمق المغبوط أغسطينوس سيّما إلى أعماق كلّ من التقوا بالرّبّ فعرّفوه وعرفوا أنفسهم. فاللّقاء بالرّب ينقل الإنسان من الحركة الحياتيّة الخارجيّة إلى حالة اكتشاف الحقيقة الّتي تتجلّى أولى خطواتها في اكتشاف التّعاسة الّتي كان يعيشها الإنسان. كما أنّه يدخل في حالة اندهاش أمام عظمة الحبّ الإلهي الوافر. وقد يمكننا القول إنّ لحظة اكتشاف الحقيقة هي اللّحظة الّتي نعاين الله فينا. فيتحوّل مسار حياتنا وتتحوّل معه كلّ اهتماماتنا، وطموحاتنا، وأهدافنا. تجذبنا عقولنا إلى البحث عن الله بوسائلها الخاصّة، ولا تعترف بمحدوديّتها. يوهمنا كبرياؤنا أنّ المعرفة محصورة في العقل، فيسلّطه علينا، وقد نحوّله إلى إلهٍ ننقاد إليه مقتنعين أنّه سبيل إلى الحقيقة. ويتّضح لنا من صلاة المغبوط أغسطينس أنّ البحث عن الله خارجاً عن حضوره، يأخذنا إلى مكان آخر بعيد عنه، بل يضلّنا، فنتوه في مدينة العالم ونحن نبحث عمّن هو في مدينة السّماء: " كم كانت نفسي جزعة يا إلهي وأنا كحمل ضال حينما بحثت عنك بعيداً بينما كنت أنت في داخلي وكم جذبتني إليك نفسي تواصل البحث عنك بدوافع رغباتي، بينما أنت ساكن فى قلبي. أخذت فى البحث عنك فى كلّ مكان." فى الأحياء، وفي الطّرقات العامّة من مدينة هذا العالم، ولم أهتدِ! (المغبوط أغسطينس) تعبّر عبارة ( لم أهتدِ!) بقوّة عن مدى الضّياع الّذي يعيشه الإنسان بعيداً عن الله. فكلّما بحثنا عنه بحسب رغباتنا، ودوافعنا الشّخصيّة، وطرقنا الملتوية، غرقنا في مزيد من الضّلال. بل تؤكّد لنا هذه العبارة أنّ البحث عن الله بحسب جهالتنا، ليس سوى ابتعاد عن الذّات، وانفصال عنها. لأنّه لو صحّ بحثنا لأدركنا الله السّاكن فينا. ( نظرت من حولي فى قصور وجهل، سألت رفاقي عن كنز مخبأ فى قلبي! وأطلقت لجميع حواسي العنان كرسل أوفياء، لتبحث عنك وتطاردك وبقوّتها. لم تستطع أن تلحق بك وتدركك، قد تملكتها الدهشة." (المغبوط أغسطينس) تسقط كلّ التّساؤلات، والشّكوك، والأوهام، عندما نلتقي بالرّبّ. فلقاؤنا به يهدينا تلقائياً إلى كلّ الإجابات، ويهيّئ لنا طريق اليقين، وينتزع من عقولنا كلّ موروث معرفيّ خاطئ عنه، ويدفعنا للتّخلي عن ثوابت سخيفة وسطحيّة. فندخل معه سرّ الحقيقة، ونبدأ مسيرة اكتشاف لا تنتهي: " كيف اقتحمت يا إلهي قلبي ودخلته!؟ ربّى... اشرح لعبدك الّذى يتوسّل إلى رحمتك عرّفه من أين له حياته؟ ألست أنت مصدرها؟ أليس بك وحدك يحيا الإنسان؟ ألست ينبوع الحياة وواهبها؟ أنت خالقي، وأنا جُبلتك يداك تفضّلتا وصنعتاني وكوّنتاني عاونتني على أن أعرفك وأعرف نفسي وعندما عرفت نفسي عرفتك أيضاً لأنّ معرفتي لك نور لسبيلي. كما أنّ الشّرّ حرمان من الخير، فإنّ الظّلمة حرمان من النّور. (المغبوط أغسطينس) يتبيّن الإنسان قيمة الرّحمة الإلهيّة عندما يصمت قلقه، ويمّحي ارتيابه، ويتلاشى اضّطرابه. فيتعرّف إلى نفسه ويعرفها، ويتّضح له سبب وجوده وهدفه، ويبلغ الحضور الإلهيّ السّاكن فيه. نعرف الله فنعرف أنفسنا، وندخل الصمت المتأمّل في محبّة إلهنا. وكلّما تأمّلنا المحبوب الإلهي صمتنا. وكلّما صمتنا فهمنا لغته، واتّضحت لنا مقاصده، وأدركنا عظمته. وكلّما اقتربنا منه اتّضعنا أمام نعمه الوافرة، وابتهجت قلوبنا جذلة بحضوره. ربّي ... أشكرك لقد ملأت قلبي من أنوارك ألست أنت " مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ الَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ الْمَوْتِ، سَاكِناً فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ، الَّذِي لَمْ يَرَهُ أحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أنْ يَرَاهُ، الَّذِي لَهُ الْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ الأَبَدِيَّةُ." (1تي 6: 15-16). ألست أنت الإله العظيم المتجسّد الّذى ظهر فى صورة بشريّة غير مدركة؟ " اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ." ( يو 1: 18). كيف نعرف ما لم نكن قد رأيناه؟ " لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ" (مت 11: 27). ثالوث فى وحدانية تامّة، فى ذاته الكمال المطلق والمعرفة. قلت لنفسي: يا لي من إنسان شبيه بالعدم قد تجاسر وعرفك! أليست هذه المعرفة إنعاما منك يا إلهي؟ ليس من حمد يوفي نعمك ولا قدرة تصوّر جلالك. عظيم وعظمتك لا تقارن، لا بداية لك ولا نهاية، مسبح وممجد إلى الأبد.آمين.