قد يكون الانطباع السّائد عن المسيحيّة أنّها ديانة الحزن والبكاء والعاطفة الهشّة القابلة للضعف والسّقوط، إلّا أنّ هذا المفهوم للمسيحيّة مرفوض قطعاً. فوَهيَ، أي المسيحيّة، علاقة حبّ مع الله ومع الإنسان، لا يمكن أن تقبل الحزن والكآبة والانغلاق على الذّات والانعزال. فالحبّ لا يستوي مع الحزن، سيّما أنّ هذا الأخير يقلق الرّوح ويرهق النّفس ويغيّب قدرات العقل. ولا يتماهى الحبّ والكآبة، لأنّ الحبّ ما لم يكن للفرح والبهجة، يمسي مجرّد عاطفة آنيّة مرتبطة بحاجة مؤقّتة، أو بفراع عاطفيّ ترضيه أي علاقة سطحيّة. وما لم يكن الحبّ باباً واسعاً نطلّ من خلاله على الكون بأسره، أصبح شبيهاً بمستنقع مياه راكدة، تغزوها الوحول وتحوّلها إلى ما يشبه الجماد بل الموت. ولعلّ المفهوم الأصدق والأفضل للمسيحيّة يُختصر بكلمة " ألم"، وشتّان بين الألم والحزن. فالأوّل احتراق المحبّة في داخل الإنسان، لا يخمده حزن ولا يطفئ اتّقاده كآبة ويأس. هو شوق يتجدّد أبداً في ظلّ رعاية الحبّ الأسمى، وتوق إلى الله السّاكن في عمقنا الإنساني. وأمّا الثّاني فأشبه بجدار يعزلنا عن الله، ويعزّز في داخلنا الضّعف ويحرّك فينا الشّعور بالنّقص وغالباً ما نتّجه لملامة الله، في حين أنّه علينا أن نغرف منه الفرح والسّرور. بدأت السّيّدة رحلة الألم مذ قالت: " ها أنا أمة الرّبّ، فليكن لي بحسب قولك". ( لو 38:1). فنَعَمُ الحبّ الخالص تفترض الألم، حتّى تبلغ تحقيق الحبّ الإلهيّ في الكون كلّه. وكلّ آبائنا القدّيسين، بل كلّ مؤمن حمل صليب الحبّ وسار خلف المسيح، عانق الألم بفرح وسرور. إنّ طريق الحبّ شاقّ ومضنٍ، ويفترض شجاعة وجرأة، وليس كما يظنّ كثيرون، أنّ الحبّ مرتبط بالضّعف وقلّة الحيلة. وكلّ من عاش هذه البطولة سطع في هذا العالم وفي قلب الله، وجلس على قمّة العالم، لأنّه لم يعد يخاف شيئاً أو أحداً. ( المغبوط أغسطينس). " وأما أنت، فسيف الأحزان سينفذ في قلبك" ( لو 35:2). لا بدّ أن السّيّدة عاشت ككلّ أمّهاتنا واقعيّاً، وجنّدت كلّ طاقتها في سبيل تنشئة وتربية ابنها، إلّا أنّ عظمتها تتجلّى في كونها عرفت أنّ المسيح ابن العليّ، حاضر للبشريّة كلّها. ولو لم تغرف السّيّدة حبّها وثقتها من المحبّة الإلهيّة، لما استطاعت تحمّل مشقّات الطّريق. إنّها سيّدة الحبّ، لأجل ذلك الغمر الّذي امتلأ به قلبها، فتوهّجت وعكست وهج حبّها على العالم بأسره. وهي السّيّدة الأمّ، لأجل تلك الثقافة الوالديّة، ثقافة الحبّ غير المشروط والمانح الحرّيّة والاستقلاليّة والدّعم. وهي السّيّدة المرأة لأجل ذلك الصّمت البليغ الّذي تحلّت به، فأغنت حياتها وحياتنا بالحكمة والشّجاعة، والتّحرّر من كلّ شيء في سبيل المسيح. وهي السّيّدة الفائقة الجمال الّتي حملت الحبّ الإلهي في قلبها، فتألّمت حبّاً وابتهجت من شدّة الألم. وسنراها عند الصّليب " واقفة"، تتطلّع نحو السّيّد، نبع المحبّة والفرح، واثقة بأنّ الحبّ وحده يغلب العالم. فحبّذا لو نتعلّم من السّيّدة أنّ الارتباط بالمسيح، قصّة حبّ لا تنتهي، ورحلة ألم من السّعادة والفرح تتجلّى في خدمة الرب والانفتاح على الآخر حبّاً بالمسيح.