كان للحملة الفرنسية عام 1798 بقيادة الجنرال " نابليون بونابرت آثارها السياسية و الاجتماعية والفكرية العميقة في تاريخ مصر الحديث وهذا مارصده المؤرخ عبد الرحمن الجبرتى " والشاعر المؤرخ " نقولا ترك " الذي رافق الحملة و عاش أحداثها ورصد وقائعها التاريخية …… أرسى نابليون مباديء عامة لسياسته في حكم شعب مصر ، والتي أطلق عليها المؤرخون الأوروبيون مصطلحاً تاريخياً : سياسة بونابرت الإسلامية والتى كان جوهرها : الاحترام للدين الإسلامي والتقاليد الدينية المتوارثة , و التقرب إلي علماء وشيوخ الأزهر ومنحهم قدراً من السلطة والنفوذ باختيارهم أعضاء في "ديوان القاهرة " حتى يضفي على حكومته الطابع الإسلامي ! .. وليكتسب تأييد علماء الأزهر للحكم الفرنسي …… وصل نابليون بونابرت لمصر1798 ووزع منشورا قال فيه : بسم الله الرحمن الرحيم، لا اله الا الله وحده ولا شريك له في ملكه… ايها المشايخ والأئمة…قولوا لأمتكم ان الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون وانهم محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني..أدام الله إجلال السلطان العثماني أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي لعن الله المماليك وأصلح حال الأمة المصرية". …. وعندما حلت ذكرى المولد النبوى الشريف قرر المصريين عدم الاحتفال بالمولد .. وكما ورد عن الجبرتى : أن الشيوخ عزفوا عن الاحتفال بالمولد النبوى فى القاهرة ذلك العام، وامتدت هذه النية إلى باقى أقاليم مصر، وسأل صاري عسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم ؟ جاء رد نقيب الاشراف الشيخ "خليل البكرى" بالاعتذار لأن الموقف يتصف بعدم الاستقرار، وأن عليه القوم لا يتوافر لديهم المال اللازم لرعاية الاحتفال . فلما علم نابليون بنياتهم ألح عليهم أن يعيدوا النظر فى قرارهم ….. قام نابليون بإرسال ثلاثمائة ريال إلى منزل الشيخ البكري وأرسل الطبول الضخمة والقناديل لاستمالة قلوب المصريين إلى الحملة الفرنسية. بل وغازل المشاعر الدينية للمصريين ، إذ صور لهم مدى استعداد الجنود الفرنسيين لاعتناق الإسلام فى القريب العاجل … يقول الجبرتى : أمر سارى عسكر بأن تقام احتفالات كبرى، تفوق في روعتها وبهائها الاحتفالات التي كانت تقام في هذه المناسبة على عهود السلاطين المماليك، وغيرهم من الحكام المسلمين واستمرت الاحتفالات بالمولد النبوي من 19 إلي 23 أغسطس 1798 أصدر نابليون اوامره بأن يشترك الجيش و الموسيقات العسكرية في الاحتفالات، وأن تطلق المدافع نهاراً، والألعاب النارية والصواريخ ليلاً، وأن تعلق أمام مقر القيادة العامة للجيش الفرنسي في الأزبكية قناديل ذات زجاج متعدد الألوان، لتبدو في غاية البهجة عند إضاءتها ليلاً . …. واختص الفرنسيون ثلاثة بيوت في القاهرة بالإضاءة القوية الكثيفة الممتازة طوال الليالي الخمس التي استغرقتها احتفالات المولد وكانت هذه البيوت هي: دار بونابرت، ودار ديبوي الحاكم العسكري لمنطقة القاهرة، ودار السيد خليل البكري . ….. وفى وصف هذه الليلة يقول يقول المؤرخ "نقولا ترك : صنع امير الجيوش مولداً عظيماً على بركة اليزبكية كعادة أهل القاهرة وكانت ليلة عظيمة حيث أصدر أوامره لجنوده بان يجتمعوا فى الميادين ويضربوا الطبول والدبابات كما أرسل الطبلخانة الكبيرة إلي بيت الشيخ البكري، واستمروا يضربونها طوال النهار والليل بالبركة تحت داره، ومعها عدة آلات ومزامير مختلفة الأصوات مطربة،كما أمر بضرب مدافع كثيرة وصواريخ تصعد في الهواء، فامتزجت نغمات الفرقة العسكرية المصاحبة للجنود بالأناشيد التى يتغنى بها المسلمون وكان احتفالاً عظيماً ومولداً فخيماً . ….. فى الليلة الختامية للمولد فى 23 أغسطس 1798 أقام السيد "خليل البكرى" حفلا عظيما فى بيته ل"نابليون بونابرت"،ومن معه من العلماء الفرنسيون أعضاء مجمع مصر العلمي، وكبار ضباط الجيش . وجلس الفرنسيون حول الموائد حيث "قدمت لهم أدوات مائدة وصحافا فضية بل و قنينة نبيذ معتق، ثم مدت الموائد بالمشويات والمقبلات والأرز والعجائن وكلها مطهوة بالتوابل. …. وجلس القائد العام أرضاً ساعات طوالاً يستمع إلي المقرئين يتلون آيات القرآن الكريم، وإلي المنشدين وهم يتلون "السيرة النبوية" والتواشيح الدينية، وكان كبار المشايخ يجلسون أرضاً حوله، وكل منهم يمسك مسبحة في يده، ينصت لما يتلى . وبلغ من دهاء بونابرت أنه أخذ يقلد الحاضرين، فكان يهتز ذات اليمين وذات الشمال كأنه مدرك لما يقولون. … كان يأكل بيديه، فيمد يمينه في تلال الأرز وأكوام اللحم وأطايب الطعام المقدم على صوان نحاسية ضخمة مستديرة، وحذا الضيوف الفرنسيون على مضض حذو بونابرت، فكانوا يأكلون بأيديهم مع المشايخ والأعيان، ويشربون الماء المعطر برائحة الورد ……… فى العاشرة مساء خرج أهل القاهرة مخترقين الطرقات يرفعون المصابيح الملونة على الأعمدة واتجهت المسيرات من أحياء المدينة إلى المساجد المختلفة يقودها رجال يحملون المشاعل، أو الثريات الكبيرة التى تحمل كل منها أربعين مصباحا، واخترق الموكب طرقات القاهرة ليلا . واتجهوا الى الأزبكية رافعين صورة زخرفية لقبر الرسول فى المدينة، …. وكان أرباب الطرق الصوفية والاتباع والمريدون والدراويش وأصحاب الأشاير ومن إليهم يطوفون في مواكب جرارة، يحملون المشاعل والأعلام، وينشدون في أصوات هادرة عبارات دينية بين دق الطبول والتكبير، وذكر اسم الرسول صلوات الله عليه: وسارت في أثر هذه المواكب الدينية مواكب الطوائف، يتقدم كل طائفة شيخها ونقيبها وأعلامها وشاراتها. …. أما أهل الحظوة والمكانه فى المدينه طافوا بالطرقات، تميزهم علامات تدل على مكانتهم الاجتماعية أو صناعتهم، يصحبهم العبيد الذين يحمل بعضهم السلاح ويحمل بعضهم الآخر المشاعل . ……و ………. ومضى بونابرت في سياسته الإعلامية، مستغلاً احتفالات المولد النبوي الشريف، فأرسل في 29 أغسطس إلي الجنرال كليبر نسخة من العدد الاول من الجريدة الاخبارية الفرنسية التى اصدرتها الحملة فى مصر Courrier de l'Egypte وقد تضمن هذا العدد مقالاً عن الاحتفالات التي أقيمت بالقاهرة بمناسبة المولد النبوي، وإسهام الفرنسيين في هذه الاحتفالات إسهاماً رسمياً، وقد طلب بونابرت من كليبر اتخاذ الإجراءات لترجمة هذا المقال إلي اللغة العربية، و العمل على طبعه وإذاعته في جميع أنحاء الشرق، وأن يرسل إلي بونابرت أربعمائة نسخة من الترجمة العربية …. كان هذا هو الطريق الذى قطعه "بونابرت" ليتقرب لشعب المحروسة على امل ان ن ينشىء لنفسه ملكا فى الشرق يكون إمبراطوراً عليه وان تكون مصر قاعدة له يحكمها وعلى رأسه عمامة وفي يده القرآن …. ولكن أدرك الشعب بفطرته أن هذه الأفعال ليست صادرة عن عقيدة حقيقية وإيمان صحيح، وإنما هي ضرب من الخداع والنفاق، وأن بونابرت استهدف منها تخدير الشعب، حتى تتوطد دعائم الحكم الفرنسي في مصر