* تنوع مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي الشريف على مر العصور * لكل عصر عاداته وطقوسه التي تفرد بها في طرق الاحتفال يحتفل العالم العربي والأمة الإسلامية، بالمولد النبوي الشريف؛ وغالبا ما تتضمن مظاهر الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم إقامة حلقات ذكر ومجالس تنشد فيها الأناشيد الدينية وقصائد مدح النبي، كما تقام الندوات الثقافية التي يتم فيها مناقشة سيرته وتعاليمه وأخلاقه، وبالطبع لا تخلو مظاهر الاحتفال من شراء حلوى المولد وخاصة "العروسة". ويرجع تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف إلى العصر الفاطمي، الذي ظهرت خلاله أغلب الاحتفالات الدينية ومظاهر الترف التي مازالت سارية حتى اليوم، والتي أبرزها المؤرخ السني "الإمام المقريزي" في كتابه "الخطط" قائلا: "كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي مواسم رأس السنة ويوم عاشوراء ومولد النبي صلى الله عليه وسلم ومولد علي بن أبي طالب ومولد الحسن والحسين ومولد فاطمة الزهراء وليلة أول رجب وليلة نصفه وموسم ليلة رمضان وغرة رمضان"، وغير ذلك. وتنوعت مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي الشريف على مر العصور، فكان لكل عصر عاداته وطقوسه التي تفرد بها، كما يلي: - مظاهر الاحتفال في عصر الدولة الفاطمية: كان الاحتفال بالمولد النبوي من أبرز مشاهد الخلافة الفاطمية، وكان الاحتفال به يبدأ مع بداية شهر ربيع الأول؛ وفي اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، كان يتم إعداد صواني الحلوى وتوزيعها وكذلك كان يتم توزيع الصدقات على الفقراء، أما الاحتفال الرسمي فكان يتمثل في موكب قاضي القضاة، الذي يُحمل بصواني الحلوى، وكان الجميع يتجهون إلى جامع الأزهر، ثم إلى قصر الخليفة، حيث كان يتم إلقاء الخطب وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يختم الخطيب كلامه بالدعاء للخليفة، وبعد ذلك يعود الجميع لمنازلهم. - عصر المماليك: في أوائل عصر دولة المماليك، كان الاحتفال بالمولد النبوي الشريف يتسم بالترف والعظمة، وكان سلاطين المماليك حريصين على مشاركة رعاياهم الاحتفال بتلك المناسبة؛ وفي عهد السلطان "الأشرف قايتباي"، كان يتم إقامة خيمة عظيمة تصل تكلفتها إلى ستة وثلاثين ألف دينار، في يوم الحادي عشر من ربيع الأول للاحتفال بالمولد النبوي، ووصف المؤرخون تلك الخيمة بأنها "جاءت من عجائب الدنيا"، وكان يحضر إليها السلطان والأمراء والقضاة والأعيان، وكان يتم إقامة سماط واسع. وكان الاحتفال بالمولد يبدأ من بعد صلاة الظهر بتلاوة القرآن الكريم، وبعد صلاة المغرب كانت تقام موائد الحلوى، وبعد الانتهاء من الطعام يبدأ المنشدون في مدح الرسول وآل بيته؛ وبعد ذلك كان الفقراء والدراويش يتوافدون إلى الخيمة ويستمرون في الرقص، وكان السلطان يوزع عليهم الصدقات. وفي صباح يوم المولد كان السلطان يوزع كميات من القمح على الزوايا، وكان عامة الشعب يقيمون الولائم احتفالا بالمولد؛ كذلك كانت تقام داخل البيوت، احتفالات نسائية بتلك المناسبة، حيث تلتف النساء حول إحدى الواعظات أو المتفقهات فى الدين لسماع حديثها. - عصر الدولة الأيوبية: كان أول من احتفل بالمولد النبوي بشكل منظم في عهد السلطان "صلاح الدين الأيوبي" هو الملك "مظفر الدين كوكبوري"، حاكم "أربيل"، والذي كان يقيم احتفالا كبيرا كل عام ينفق عليه أموالا طائلة تصل إلى ثلاثمائة ألف دينار؛ وكان يقيم الاحتفال بالمولد سنة في 8 ربيع أول، وسنة في 12 ربيع أول بسبب الاختلاف على تحديد يوم مولد النبي "عليه الصلاة والسلام"؛ وكان يتم ذبح الإبل والماشية، وفي صباح يوم المولد تقام الموائد العامة. - عصر الدولة العثمانية: حرص العثمانيون على الاحتفال بجميع الأعياد والمناسبات الدينية لدى المسلمين، ومن بينها المولد النبوي الشريف، الذي كان يتم الاحتفال به آنذاك في أحد الجوامع الكبيرة، التي يختارها السلطان، ويبدأ الاحتفال بقراءة القرآن ثم قراءة قصة مولد الرسول، ثم كتاب "دلائل الخيرات في الصلاة على النبي"، وينشد المنشدون الأغاني الدينية في حلقات الذكر وترتفع الأصوات بالصلاة على النبي؛ وفي صباح يوم المولد يذهب كبار رجال الدولة إلى السلطان لتهنئته. - خلال الحملة الفرنسية على مصر: ذكر المؤرخ المصري "الجبرتي" في كتابيه "عجائب الآثار" و"مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس"، أن المحتلين الفرنسيين عندما احتلوا مصر بقيادة "نابليون بونابرت" خلال الفترة ما بين عامي 1798 و1801، انكمش الصوفية وأصحاب الموالد فقام "نابليون" وأمرهم بإحيائها. وأوضح في كتابه "مظهر التقديس" أن "نابليون" التقى بالشيخ "البكري" وسأله عن سبب عدم إقامتهم للمولد كعادتهم، فأوضح له "البكري" أن السبب وراء ذلك يرجع إلى توقف الأحوال وتعطل الأمور وعدم وجود أموال كافية لإقامة الاحتفال، فأعطى له "نابليون" ثلاثمائة فرانك فرنسي لإقامة الاحتفال؛ وتابع "الجبرتي": "واجتمع الفرنسيس يوم المولد ولعبوا ودقوا طبولهم". - عصر محمد علي باشا: أبرز المستشرق البريطاني "إدوارد لين" في كتابه "شمائل وعادات المصريون المحدثون"، مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي الشريف عام 1834، في عهد "محمد علي باشا"، قائلا: "تجرى احتفالات المولد فى الحي الجنوبي الغربي من الساحة الرحبة المعروفة ببركة الأزبكية، التى تتحول فى موسم الفيضانات إلى بحيرة كبيرة، حيث تنصب خيام وسرادقات للدراويش الذين يجتمعون كل ليلة للاحتفالات وإقامة حلقات الذكر.. ويجتمع الناس فى النهار للاستماع إلى الشعراء والرواة ومشاهدة المشعوذين والمهرجين، وقد أجبرت الغوازى على التخلى عن الرقص!.. وترى فى بعض الشوارع المجاورة المراجيح، وباعة المأكولات والحلوي، وتكتظ المقاهي بالرواد". وتابع: "وكانت الليلة الحادية عشرة من الشهر والقمر يشع نورا فى السماء، فيضفى على الاحتفالات روعة وبهجة.. مررت بشارع سوق البكري، لأحضر جانبا من حلقات الذكر، كانت الشوارع التى مررت بها محتشدة بالجموع الغفيرة، ولم أصادف إلا القليل من النساء"؛ وكذلك أعرب "لين" عن دهشته من احتشاد الأقباط إلى جانب المسلمين لمشاهدة حلقات الذكر، التي استمرت حتى أذان الفجر.