قواسم مشتركة ومصالح تجمع اليمين المتطرف وتنظيم داعش هتلر ولوبان وجهان لعملة واحدة (3) بقلم فابيولا بدوي – باريس انتهت انتخابات الأقاليم في فرنسا بعدم حصول اليمين المتطرف على رئاسة أي إقليم، وحصد فيها حزب اليمين سبع جهات من أصل 13 إقليماً، وخمس جهات للاشتراكيين (الحزب الحاكم) ومقعد في جزيرة كورسيكا للقوميين. ولا تعني هذه النتيجة هزيمة للجبهة الوطنية بقيادة مارين لوبان، فواقع الأمر أنه تم الإعداد بشكل جيد لقطع الطريق عليها بأكثر من وسيلة، في مقدمتها استدعاء مُلحٌ لمن لم يشاركوا في التصويت في الجولة الأولى على النزول، وبالفعل زاد عدد الناخبين بما يقرب من أربعة ملايين ناخب، ولكن علينا أيضاً معرفة أن 800 ألف منهم قد صوتوا لمصلحة اليمين المتطرف، ما يعني أن عدد الناخبين لمصلحة اليمين المتطرف قد ارتفع في الجولة الثانية، ولكن مشاركة أكثر من ثلاثة ملايين ناخب جديد في التصويت قد غيرت في النتيجة لصالح إقصائه بشكل ديمقراطي عن رئاسة أي إقليم بما في ذلك الجنوب والشرق، المنطقتان الدائمتان للجبهة الوطنية. من جهة أخرى، انسحب الاشتراكيون بتخطيط مسبق من المناطق التي لم يحصدوا فيها أصواتاً كثيرة في الجولة الأولى، ما دفع ناخبيهم للتصويت لليمين على عكس مبادئهم، لأن فرنسا كانت على شفا الهاوية وتبقى هي الأهم. هناك أيضاً التحالف السريع بين اليمين والوسط وبعض الأحزاب مثل الخضر وما شابه. ونحن لن ننكر أن الجميع قد نجح في وقت قياسي لا يتجاوز الأسبوع في قطع الطريق تماماً على كارثة كادت تهدم الحياة الاجتماعية والديمقراطية في فرنسا كلها، ولكن هذا لا يمنع أن هذه الانتخابات قد سجلت نجاحات متعددة لمصلحة التطرف الفرنسي، في مقدمتها أن فرنسا لم يعد بها الاشتراكيون واليمينيون وحدهم هم من يتنافسون في كافة الانتخابات، بل ظهر لهم على السطح وبقوة حزب ثالث سوف يتبادل المقاعد معهم، بما يعني أن نتائج الجولتين تشيران بوضوح إلى كسر الثنائية التي اعتادت عليها البلاد، ورسمت مارين لوبان خريطة الانتخابات الرئاسية المقبلة مبكراً، فعلينا توقع الإعادة في الجولة الثانية بين ممثل اليمين أو الاشتراكيين وبين ممثل حزب الجبهة الوطنية، مما يشير بقوة إلى أن خطر اليمين المتطرف قد تنامى بالفعل، وصار حقيقة سوداء لابد أن تكون ماثلة في الأذهان، لأنه يمثل خطراً كبيراً في الانتخابات الرئاسية المقبلة. الجبهة اللاوطنية تاريخياً لن تنسى الذاكرة الفرنسية تاريخ خيانة اليمين المتطرف، أشهر المتحالفين مع النازيين ضد فرنسا ما بين 1940، و1945، وإلى اليوم يتباهى الأب الروحي لهم بأنه لا يرى (المارشال بيتان) خائناً، ويقصد الرجل العسكري الذي حُكم عليه بالإعدام لخيانته في الحرب العالمية الثانية، وخفف شارل ديجول الحكم عليه بالسجن مدى الحياة، لكن لوبان يراه رجلاً صارماً قوياً لا تشوبه شائبة. وحتى الآن خطاب الجبهة برمته خائن لمبادئ الجمهورية، ويتفنن الحزب في تقسيم الشعب وبالتالي الدولة، وها هي كلمة زعيمته فور الإعلان عن نتائج الجولة الأخيرة من الانتخابات كالعادة متعالية حمقاء، مؤكدة على أن من كان يريد الوطن وجدناه ينحاز إلينا، أما من تخير العالم فهو من ذهبت أصواته إلى الآخرين، مسترسلة: علينا منذ اليوم عدم التعامل مع ثلاثة أحزاب كبيرة في فرنسا، بل مع يمين ويسار في جانب في مواجهتنا في الجانب الآخر، وفي حديث ضبابي هاجمت خلاله كافة الأحزاب وكل الطبقة السياسية في خطاب تعبوي فاشي دأبت عليه، وكأنها تتعمد كسب المزيد من أصوات الرافضين لسياسات الحكام في السنوات الأخيرة بالهجوم عليهم وكيل الاتهامات لهم، في الوقت الذي جاءت فيه كلمات رؤساء الأحزاب الأخرى ورئيس الحكومة داعية للوحدة، ووضع فرنسا بمبادئها نصب الأعين من أجل حماية ديمقراطية تحترم التعددية وقيم السلام بين كل من يعيش على أراضيها. الخلاصة أنها متصالحة تماماً مع نفسها ومع أفكار أبيها، ومسيرة التطرف المناهضة لكل ما تتميز به فرنسا منذ عقود طويلة. العنزة لا تغدو حصاناً لا يعني تزايد التصويت لليمين المتطرف في فرنسا، أن عدد مناصريه في تنامٍ، فهناك عوامل كثيرة لهذه الزيادة الصادمة، منها فشل سياسات اليمين واليسار منذ سنوات أثناء تناوب كل منهما على الحكم، أيضاً خطاب مارين لوبان العازف على نغمة الأزمة الاقتصادية وتحميلها بالكامل للمهاجرين والاندماج الأوروبي، الذي يجعل عدد المزاحمين في سوق العمل هو السبب الأوحد للبطالة، وهذا يدفع بعض الباحثين عن فرصة عمل للتصويت لمن سيقوم بإغلاق البلاد، مما سيوفر وظائف لا حصر لها، لكنهم في الوقت ذاته لا يؤمنون بخطاب عائلة لوبان العنصري الكارهة لكل من حولهم فيما عداهم. كذلك تنامي التشدد الإسلامي وترجمته إلى قتل وترويع، وهذا لنا عودة إليه بشيء من التفصيل. ومنهج المتاجرة بالأزمات هو ما تنتهجه رئيسة الجبهة في كافة المناسبات كرفضها لاكتساب الجنسية بالميلاد المطبق في فرنسا، حيث ينتمي المولود للأرض التي وُلد فيها. مؤكدة على ضرورة اقتصار الأمر على أن تورث (أحد الأبوين فرنسي) أو بسبب الجدارة والتميز، وفي إهانة بالغة للجميع قالت ذات مرة (إن العنزة حينما تولد في حظيرة خيول لا تغدو في يوم من الأيام حصاناً). أما فيما يخص المهاجرين فإن الكراهية لهم لا حدود لها وممتدة من الأب إلى الأحفاد، فقد أهان والدها من قبل في مقابلة تلفزيونية رئيس الحكومة الحالية مانويل فالس بقوله: فالس هو فرنسي لمدة ثلاثين عاماً، أما أنا ففرنسي منذ ألف سنة، ما هو التزام فالس الحقيقي تجاه فرنسا البلد التي أُحضر إليها؟ وتابع: إننا محكومون اليوم على كافة المستويات من قبل المهاجرين وأبنائهم، والأهم هو التركيبة السكانية التي تتغير ليس في فرنسا وحدها ولكن في أوروبا كلها، ولهذا السبب أتفق مع روسيا لإنقاذ العالم الأبيض. هكذا تبقى الهجرة الهاجس الذي تردده لوبان بمناسبة أو بدون، حتى إنها انتقدت بشدة خفض عدد رجال الشرطة في فرنسا، على اعتبار أن الهجرة تهدد الأمن بشكل دائم، وتحتاج إلى المزيد من القوات. إلا أن حالة العداء المعلنة للهجرة ليست بدرجات متساوية، بل تأتي الهجرة العربية والمسلمة في المقدمة، ثم بعدها بدرجات نجد الخطاب عن بقية المهاجرين بشكل جماعي وليس بالتفصيل كما يوجه للعرب والمسلمين. خطاب العائلة من المستحيل أن يندمج مسلم في المجتمع الفرنسي لأسباب ثقافية، هكذا تلخص عائلة لوبان الأمر في خطابها، أما التفاصيل فنجدها في دعواتهم المستمرة منذ عقود لتجميد جميع مشروعات المساجد حتى يتم مسح وطني شامل لتمويلها وسبله، وحينما صدر قرار منع النقاب من الأماكن العامة والحجاب من الأماكن الحكومية، انبرت مارين لوبان لتطالب بمنع الحجاب من كافة الأماكن العامة بما فيها الطرق ووسائل المواصلات، وبلغ حد الجهر بالعداء إلى التشهير بتأثير الثقافة الإسلامية على كافة مناحي الحياة، مستدلة بذلك بتقديم لحوم حلال للتلاميذ والطلاب في مطاعم المدارس، واحترام عدم تناولهم للحم الخنزير، وكأن تناول الأخير هو مبدأ من مبادئ الجمهورية التي تصر زعيمة التطرف في فرنسا على تقويضها جميعاً. حتى العلمانية التي تقبل بها لوبان على مضض وتراها فقط مقبولة لأنها تتوافق مع الثقافة المسيحية، تجد أنه من غير الطبيعي أن تتوافق مع الإسلام. ولا يعدم اليمين المتطرف وسيلة للخلط والازدواجية في خطابه، ففور إعلان قائدته عبر وسائل الإعلام احترامهم للمساواة بين جميع المواطنين من دون تمييز، لابد أن تلحقه بمزج عجيب بين الإسلام والإرهاب. وهو الخطاب ذاته الذي تجمل به صراحة والدها، وفي اللحظة نفسها تؤكد مبادئ حزبها ذي النزعة النازية الفاشية العنصرية. أمام القضاء منذ خمس سنوات وسيدة الحزب الأولى تمثل أمام القضاء في قضية لم تُحسم بعد، متهمة بالتحريض والحقد العرقي، وذلك إثر تشبيهها أمام تجمع كبير في مدينة ليون الفرنسية في العام 2010 صلاة المسلمين (ممن لا يجدون أماكن في المساجد في أيام الجمع) في الطريق باحتلال النازي إبان الحرب العالمية الثانية، مسترسلة بسخرية: البعض يحلو لهم الحديث عن الحرب العالمية الثانية وعن الاحتلال، فلنتحدث عن الاحتلال، لأن ذلك هو ما يحدث الآن، بلا دبابات ولا جنود، ولكنه مع ذلك احتلال. وقد مثلت بالفعل للتحقيق ثم خضعت له مرة أخرى عام 2013، وفي شهر أكتوبر من العام الجاري تم استدعاؤها أمام المحكمة، وسبب عدم حسم القضية لسنوات بالرغم من اتهامها بالتحريض على التمييز والعنف والكراهية ضد مجموعة من الناس، على أساس عقيدتهم، وإذا أدينت فهي معرضة للسجن عاماً واحداً وغرامة 45 ألف يورو، لأن محاميها يدفع بالبراءة لأنها باستنكارها لهؤلاء المصلين في الفضاء العام دون أن تشير إلى عموم المجتمع المسلم بل إلى أقلية، إنما مارست حريتها في التعبير. هكذا تتراوح القضية ما بين التمييز وحرية التعبير. وحينما نعود للتصريحات نفسها نجد أنفسنا فور إطلاقها أمام مواقف فرنسية متباينة، فبينما أكد رئيس مجلس مسلمي فرنسا أنها تغذي بوضوح معاداة المسلمين في فرنسا، وأول ما يُفهم منها أنها تحريض ضد المسلمين لا سيما أنها وصفتهم بالمحتلين، ما يعني وجوب محاربتهم. وجدنا اليمين الذي كان يحكم حينها يطالب بعدم التعميم ولكنه منع الصلاة في الشوارع تماماً، بينما أدان الحزب الاشتراكي هذه التصريحات بشدة، مشيراً إلى حدة العداء في خطاب مارين لوبان تجاه المسلمين، معتبراً أنه لم يقل في حق المسلمين الفرنسيين، تصريحات من هذا القبيل منذ الحرب العالمية التي قدم فيها العديد من أجدادهم أرواحهم، لتحرير فرنسا من الاحتلال النازي. لوبان والبغدادي بدأ الكثير من المراقبين منذ الاعتداءات التي ضربت باريس في شهر نوفمبر الماضي، في التساؤل حول العلاقة بين «داعش» والأحزاب اليمينية المتطرفة خصوصاً الجبهة الوطنية، وذهب البعض للقول بأنها أعمق وأعقد بكثير مما يمكن تخيله، فعلى الرغم من العداء الظاهر بينهم، إلا أن المراقب سيجد أن كلاً منهما يمنح الآخر نفساً أطول، وكأن هناك حبلاً سرياً خفياً يربطهما، خصوصاً أن «داعش» يعد التنظيم الوحيد الذي يضم عدداً هائلاً من الأوروبيين. من جهة أخرى، نجد أن إرهاب داعش يغذي النزعات المتطرفة في المجتمعات، وفي المقابل فإن عنصرية المتطرفين اليمينيين تقوي جذور التطرف، وتزود المنظمات الإرهابية بدم جديد قوامه شباب يشعرون بالإحباط والعزلة ورفض المجتمعات لهم، وفي كل الأحوال لم يستفد من الاعتداءات الإرهابية الأخيرة التي جاء توقيتها مثيراً للريبة إلا الجبهة الوطنية، وها هي نتائج انتخابات الأقاليم تشير إلى هذا. في المقابل، نجاح الجبهة اللافت للنظر لن يصب إلا في صالح «داعش». فقوة «الجبهة الوطنية» المعادية للأجانب ستؤدي لمزيد من التمييز ضد الأجانب، وخصوصاً المسلمين منهم، ما يعطل اندماجهم في مجتمعاتهم ويسهم في جنوح قسم منهم إلى التطرف، ومن ثم الارتماء في أحضان «داعش» وأخواته من التنظيمات الإرهابية. وهنا، ربما نجد جواباً لرفض حزب لوبان في شكل قاطع ومشبوه، توجيه أي ضربات ضد «داعش» في سوريا، حتى بعد الاعتداء الدامي الذي ضرب قلب باريس. وهذا أيضاً ما دفع البعض للقول بأن الجبهة والتنظيم يجتمعان في قسم مهم من دورة حياتهما، وقد يكون الأمر مصادفة، بمعنى أن التشدد واحد وله وجوه عدة أو ليس مجرد صدفة، خصوصاً حينما نتابع من يقود كلاً منهما، فكما تفوق البغدادي الذي خرج من عباءة «القاعدة» على معلمه أسامة بن لادن، وذهب إلى إلغاء الحدود بين سوريا والعراق من أجل تأسيس كيان يسميه دولة «الخلافة». فإن لوبان، التي تفوقت على أبيها جان ماري مؤسس «الجبهة الوطنية»، تحلم بدولة نقية ولكن مع إعادة إغلاق الحدود، وإحياء تشييد الجدران التي سقطت منذ ربع قرن مع انهيار جدار برلين. ولهذا فإن بقاء «داعش» ضروري جداً من أجل تقديم خطاب شعبوي يحرض على الأجانب ويدعو إلى الانغلاق. باختصار .. ليست أوروبا وحدها المهددة بخطر صعود اليمين المتطرف، بل نحن في منطقتنا أول من سيعاني، سواء من الناحية الاقتصادية، والمسألة لها تفاصيلها، أو من تمدد التطرف الديني والعنف والإرهاب الذي فاق كل التوقعات.