صدر الكاتب وقائع كتابه ب إهداء وشكر ثم إعتذار… جاء فيه " إلي السرب الذي إنضمَمتُ له زمناً ما واليوم أُغرد خَارجهُ . شَدتني هذه العبارة فهي تَعنيّ في غموضِ فحواها تَصحيحاً لموقفٍ سبق و كان . " قليلوُنْ هُمّ مَن يفعلون ذلك " . ومن هذا المنطلق نجد تغريداتِه تَحملُها وقائع يُدرك هو قبل غيرهِ من أين بدأت ، وكيف نَمتْ ، وكيف صارت سطوراً في كتاب عَبر بِهِ وَبوقائعِه مُخلفا وراءَهُ ذاك السرب الذيّ أصبح محلقاً خارِجه . الكتاب يضم بين دفتيه تسع وقائع معنونة كالأتي ( الضفةُ الأخري & موت مُشرف & تلك الأحلام & الصديق الأمريكي & فيروس & ولادة في جدار " عنوان الكتاب " & القصيدة & غابة في الفضاء & وأخيرا .. عاشوراء في حزيران … ) . كل الوقائع مبنية علي حدث تتمحور حوله الوقائع وبشخصية رئيسة تتنوع مع تشابهها في كل الوقائع التالية لها ، شخصية تجابه قمعاً وظلماً ، وغموضاً يصلاَ بها إلي حافةِ الإختيار الّمُر في دفاعِها المستميتُ ضد هلاك مترصدُ بها ، لكّنها ، تأبي الإنهيار أو الإستسلام فتندفع إلي غير ماهو متوقع لتحقق نصرا متوقعا ترضاه وتأنس به نجد ذلك يفعله " اسعد " حين ينسلخ كليةً مما تربيّ عليه فيقول بعد أن اخذ بثأر أخيه مِمّنْ ظلموه وقتلوه .. يقول : بعد أن اخذ بثأر اخيه ممن ظلموه وقتلوه .. يقول : لست انا الذي فعل .. شخص أخر في داخلي .. لم يكن أنتْ ..أو جديّ .. ربما من جينات أعمق .. ولكني لمّ اندم .. هذا دفاع عن النوع .. ! كذلك فعلت النعجة " زاجية " في ( موت مُشرف ) حين قرّرت مغادرة القطيع الذي يُسحق ويُنحر أمامها في الساحات والشوارع العامة ، وتُعلق الذبائح بأعمدة الكهرباء ، تحمل " زاجية " جنينها في بطنها وتغامر بالهروب ليلا ملقيةُ بنفسها إلي المجهول ، فتلقي حتفُها بعد أن تلد جنينها " نظيف " لتبقي الحديقة الخلفية للدار لثلاث فقط ( عجوز ، وخروف ، وطفل ) وتبقي بقية الدار لصاحب الدار يرتع فيها كما يشاء ، ألم كان ذلك إختياراً .. ألا يتشابه في ما إنتهت إليه الواقعة الأوليّ .. بعبارة .." دفاع عن النوع ..! " . يتكرر ذلك ويفعله بطل واقعة " تلك الاحلام " الذي راودته مفترسةُ شكوكاً عنكبوتية تصطاد فراشات ذكرياته ، ذكريات الطفولة والصبا بكل مافيها من أحلام وأمال في غد افضل مُنتظر تعبث الشكوك في مُخيّلته وهو غير قادرُ علي دفعِها أو مُقاومتها حتي بعد الإستعانة بطبيب نفسي او صديق نصح به الطبيب " فالوضع الأمني إنتزع الطمأنينة والثقة من القلوب والعقول " .. فباتت الوساوس تجد لها مرتعا خصباً ليلا ونهارا، فألّم به سقمٌ أنهك جسده وقواه ، مع عقله . فصارت " الهلوسة " تجول برأسه لتنزل بالجسم الحميّ التي ليس منها فواق ، بل تنتقل منه كالإنفلونزا للأخر ، ليسقط صديقه " وديع " فيما سقط هو فيه ، مصابا بما ليس منه براء ، فتجاورا في الإنحدار إلي الهلاك فيقول مواسياً صديقه في حضور إبنته " فضاء " : – لسنا مرضي ، لننشئ مع الأولاد أمكنة لذكريات جديدة ،ذكريات لا تمحي .. حيث الذكريات هي التاريخ .. لا تاريخ دون ذاكرة ، لا تنتمي الذكريات لأحد .. بل تنتمي لأصحابها .. يجب أن لا ننسي …! فترد " فضاء " الإبنة قائلة : لن يصادر ذاكرتنا أحد .. ! وتمضي كل الوقائع بعد ذلك أبطالها يُصيغون بإرادتهم – لا اقول – نهايتهم بل بطولتهم متمثلة دوما في " حسن الإختيار" . منها الحمامة التي أطلق حريتها راعي المنزل الذي عصفت بمنزله الحمم ودكته دكا ، فأفرج عنها لتنطلق لمكان أفضل ، تضرب الحمامة برجليها وتحرك جناحيها طائرة وفارة منتشية بحريتها فتجد نفسها أسيرة مرة اخري في فضاء تزمجر فيه اصوات كواسر ، وتملكه قوي الشر بصورة اقسي من أسر هربت منه فتمتمت كأنها تخاطب من حررها من أسرها " خائف أنت من قفصك الكبير.. إلي أي فضاء اطلقتني إذن .. ؟ " لحقت في هربها بسرب طائرُ في السما ء يحاول مثلُها الهروب إلي حيث الأمان ، فكانت هناك حوارات بين اعضاء السرب تكشف عن خلاف في التوجهات من البدايات وحتي إختيار وسائل النجاة – من هول – ما آلت إليه الفضاءات ،حتي قائد السرب لا يعرف لا هو ولا السرب إلي أين يمضي بهم .. … وهكذا يبدو السرب – للناظر إليه – في علوه كأنه سرب متفق علي الأقل في الإتجاه ، لكن تكشف تفرقه ، عبارة هي اروع ما لُخص به المشهد والواقعة قالت حمامة حكيمة في تعقيب لها : إذا كانت خراطميهم سوداء ( تقصد خراطيم الكواسر المعادية لهم ) فلأمر أهون .. فهم يقصدون زيت أرضنا .. أما أصحاب الخراطيم الحمراء فهؤلاء يقصدون زيت حياتنا .. فترد حكيمة اخري من حمامات السرب بأسي بالغ " كفي الله الشر عن الجميع ياسيدتي المبجلة .. ليس ثمة فرق بين هؤلاء وأولئك فقصدهم سيان … " تراخت الأجنحة ، وتسلل الإضطراب إلي الرؤس الصغيرة أنتجتها غريزة الخوف … لتنتهي الواقعة بإقتراب فصيل الكواسر كثيرا .. ولم يتخذ السرب قرارا بعد … ويختم الكاتب " و .. لرحلة الحمام بقية . ولعل الكاتب هنا جسد محور الوقائع والمجموعة القصصية في هذه الواقعة " غابة في الفضاء " … يقصد أن حتي الفضاء الذي قد يكون ملاذا للهرب فإنه بات غابة ككل الغابات ذاخر بألوان وانواع المتضادت . ونمضي معه بعد هذه النماذج لنقترب اكثر فأكثر في ( فيروس & و.. ولادة في جدار& والقصيدة ، و عاشوراء في حزيران ) .. نقترب إلي عمق اكبر وأوضح لأفكار الكاتب حين شرع في إقامة جدارا رصد عليه وقائع سَمتها ما حاصر وطوق الإنسان العراقي في حقبة لا يغفلها تاريخ الراصد لهذا الشق الغيربسيط الذي نال العراق ارضا وشعبا ، إن الإتكاء علي هذا الجدار قد يقدم لنا ولادة جديدة تنشق من جدار كاتبنا القدير . إذا ما تردد وعلا الصوت بكلماته التي أنهي بها كتابه : " لن تخدعنا الرايات .. ولا الكلمات .. ولا رفع المصاحف علي الحراب . " نختم ونقول لا حاجة لنا إلي التنويه بعبقرية السرد ودقتها فضلا عن التقنية المختارة لعرض الواقعة في إيجاز مكتمل في عمقه ومحتواه لغةً وتعبيراً ، وهما من أدواته التي تعكس مقدرة وتميزا يميز كتاباته وإعتلاءه الدائم إلي قمم التعبير حيث مكانه ومكانته بين مبدعي العراق والعرب .