: يلعب الجدار او الحائط حتي في قرآننا الكريم ، وفي التراث الحضاري الإنساني دوراً كبيرا ، وقد حفظ عليه الأقدمون تاريخهم ووصلنا ، فا إفتخرنا به ،وصار لنا تُراثنا ، وصار لنا ما يُعلي قاماتنا. والجدار أو الحائط ، لم يعد بناءً أو سياجاً مما ألفناه ، بل صار ذاك الدرع الذي يحمله الجندي ، وصار ايضاً " حائط الصواريخ " في المدنِ وجبهات القتالِ ، بل و صارأيضا يؤمن ويحدد ، ويحمي ، وأخيرا صار جداراً إعلامياً جماهيرياً يُسجل عليه نبضات وخفقات وإخفاقات الحكوماتِ والشعوب . ويأبي كاتبنا العراقي القدير / عبد السادة جبار ، إلا ان يكون له حائطاً وبإسمه ، يمتد اكثر من التسعين صفحةً ليلصق عليه حصيلة طوافه ، وتحليقه ومسحه لأحداث عاصرها أو خزنتها مُستقبلاته الفكرية والفنية الواعية . إن جدار كاتبنا ، كل ملصق عليه لا يشكل ملصقا إعلاميا توثيقياً فقط ، إنما في الملصق نفسه تري وتعيش مع شخصياته وحواراتهم وتداعيات الأحداث فيه، ستجد في كل سطر في الملصق كائنٌ حيّ يَشُدك في إتجاههِ ويُلبسك ما يلبِسون ويُنطقك كما ينطقون ، فتعيش المعاناة ، وتعيش الخيارات ، والتمزقات ، تعيش سكرة الموت ، وغفوة الأمل فتتمدد صامتا في إنتظار ما لا يجيئ . القارئ لعناوين المجموعة يجد حقيقة صعوبة في إختيارنص بذاته ليقف امامه ، من هذه العنوانات وحسب ترتيبها علي الجدار: الضفة الأخرى / موت شرف / تلك الأحلام / صديقي الأمريكي ، الصديق / فيروس / ولادة في جدار / القصيدة / غابة في الفضاء / عاشوراء في حزيران أدهشتني براعة ترتيب الملصقات علي الجدار ! جدار كاتبنا ليس كأي جدار ، خيار إختيار الإسم دلل علي ما سبق ان ذكرنا عن دور ، ووظائف " الجدار" القديمة والمستحدثة ، هذا الجار الذي أنشأه كاتبنا صف عليه ملصاقت توثق لحقبة تمتد لأكثر من 5 عقود عاشها " المواطن العراقي / العربي الذي يتشابه مع اي وكل مواطن عربي ، في اي دولة عربية ( الدول العربية في مجملها تحت اي من التوصيفين التاليين * دول تحكمها أسر حاكمة ، ودول يحكمها " ثوريون " وكلا النظامين في النهاية يتشبهان ) ما يعنيني بعد هذه الفقرة ، ان المواطن العراقي كان مناط تتبع وبحث ومعايشة له من كاتبنا القدير ، تتبع أماله البسيطة ومعاناته الحياتية اليومية لتحقيق ما يستطيع من هذه الإمنيات البسيطة ، مع إدراكه ( إن ما عليه ليس سوي المحاولة ) ، صَحِبنا – كاتبنا – في ملصقه الأول " الضفة " وكيف عبرها العراقي الأب ليتحرر من أسر وعبودية إقطاعي ، ليلاقي ومن بعد ه العراقي / الإبن ، ليلاقي مرارة وآسي يعادل ما فر منه أبيه ، وينجح الكاتب في رصد بعض من مشاهد المعاناة والمرارة من خلال الأسرة التي رأي كبيرها أن " العبور " والإنتقال من ضفة لأخري كفيل بإستقامة الشجرة وفروعها . ، فهل حقق " العبور " إلي الأرض الجديدة .. الحرية والحياة المنشودة ؟. ثم يأخذنا الكاتب إلي الموت الداهم القادم من السماء في" غابة في الفضاء " ، وهناك إيضا نواجه مع الحمام البري ، وحتي الأليفة المطلق سراحها ، تواجه هذه الحمامة ايضا مع السرب خطرا وهولا أشد مما كانت فيه أو إعتادت عليه ، وذلك في صورة طيور برية ترمز إلي العدو الغاشم القادم من السماء ، فلا يجد السرب مأوي بعد أن إحترقت ودمرت " رؤوس وهامات العمارت " وسكنها الدخان الخانق والمتصاعد منها ، من شدة ونيران القصف الأتي من السماء ، لتنتفي مواطن اللجوء الآمن للحمام . وينتفي ايضا كل امل في السماء كما علي الأرض نفس الشئ ، نفس المعاناة ، نفس الألم ، ، وضياع حتي الحلم ، يتجسد في " تلك الحلام ، كما تجسد في الأمريكي الصديق لنجد عذابات هذا الأمريكي تضارع عذابات ذاك الذي رأي " إنسانية " الإنسان ، يمكن ان تكون متوحدة ، وإن إختلفت التوجهات ، لكن ايضا حتي ذلك الغريب الستنجد به لا يحقق ولا يصلح ان يكون صديقا ، وإن توحدت التوجهات ومرارات المعاناة " الأنسانية " ، فكأن المواطن والإنسان العراقي / العربي يتشابه مع " سيزيف " عليه ان يحمل آماله وألامه ، ومعاناته وحده ، لأقصي نقطة يبلغها ويعود بها إلي نفس النقطة التي بدأ منها ويعاود من جديد الصعود والهبوط كأنه عقرب ثواني الساعة لا يتوقف إلا بتعطل وعطب الساعة ! . ، وينقلنا الكاتب لملصقه الرائع ، وهو عنوان المجموعة " ولادة في جدار " ، لنعيش معه عذابات قسوة ما يصنعه " الجدار " وهي الجدران التي نقبع ونعيش عمرنا كله داخلها ، تماما كما الأسماك في الماء ، نموت ، إن حاولنا الخروج منها أو القفز إلي خارجها ،وتأتي فقرته التالية بعصب فكرته لتصدمنا فكأن كل كلمة في الفقرة بعضا من حجارة " الجدار " ينصبها او يرصها امامنا .. يقول : "من المسئول..؟ من راكم تلك الجمرات غير القابلة للنوهج .. تلك الشكوك ؟ من بني جدارا ليحدد كينونتنا.. لمن إنتماؤنا .. للقومية .. للدين .. للطائفة .. للقبيلة .. للوطن ..للسياسة ؟ ماذا لو أخبرني " سليم حساني " في المقهي أنه يهودي .. هل سأغدره إلي الأبد ؟ لو كان "جيو " يهوديا ، هل سأزرع مفصله في ساق " قيس " ، ما الفرق بين " مرتشيا / مسيحية " و " سليم / مسلم ؟ أربعون سنة ولم اسأل نفسي أين إرادتي ؟ من يصنع القناعات .. وكيف تولد بين الجدران ؟ تحتاج تلك الأسئلة إلي اجوبة صريحة ، لو حصلت عليها سأولد من جديد ... لكن الأعماق ترفض الإجابات .. الجدران ترفض الولادات ............ " "هل يولد من جديد داخل جدران البناء القديم ... هل تتمكن الولادة ، ان تمدد أطرافها .. أم تصطدم بتلك الجدران لتنمو مشوهة ... " الفقرة السابقة توجزمدي المعاناة الفكرية والنفسية ، معاناة الفار بإبنه من جحيم إنغلاق فكر "جدران " حكم الثوار ، وقمع الحريات ، ، فيحاول في هذه القصة ، المواطن ( المسلم / العراقي / العربي ) ، بعد أن خلع سترة النظام أو خلعه النظام ، يحاول الهرب والفرار بإبنه ليصل بعد مكابدة إلي " رومانيا " لعرضه علي طبيب فيواجه بضرورة تركيب مفصل ، فتتبرع مواطنة " مسيحية " من رومانيا بمفصل إبنها الذي مات حديثا ، ويدله علي هذه المواطنة " يهوديا " فينتابه الفزع والقلق عن الثمن الذي يفترض أن يطلبه اليهودي مقابل هذه الوساطة ، وهل سيكون الثمن ان يجند كعميل او جاسوسا لصالح إسرائيل الصهيونية ؟ فايكون في هذا الملصق الرائع ، تجسيدا لفكر كاتبنا القدير حين إختار الجدار عنوانا لمجموعته ، وحين لصقها للتصدر جدارا صنعه يعبر عليه عن مرارة خمسون عاما تجرعها ( المواطن / العربي ) بحثا عن وسيلة يقفز بها فوق جدار الأسر ، وتضييق الحريات ، وصناعة "طابوق أو احجار " جدار " يفرضه اي نظام . وإذا كان الفن والأدب ، والشعر خاصة ، حيث يجد المواطن / المثقف في القصيدة وسيلة في ليله ومه تهويمات عقله تخرجه من همه ، وغضبه كذلك الإبحارفي عالم الكتب و القراءة فإن الكاتب لم يفته أن يقدم في ملصق " الفيروس " خطر إدمان القراءة التي تصبح فيروس ينتقل كعدوي بعد ان تفتك بصا حبها ، و تتحول كما الطاعون ، يحاصر البلدة ليهلكها ، وفي " القصيدة " تصبح مسودتها دليل إدانة مفتعل يُسحق صاحبها ، ويُصلب ، ويُعتقل كل صاحب إسم ورد حرف من إسمهِ في المسودة أو القصيدة . فلا يُفلح الفن أو الأدب ليكون عاصما من هول أي جدار ولو رافعا علم الأمن والأمان فكأن الفن ، والأمن لا يلتقيان في ساحة بعض الأنظمة ! وتتكرر نفس وكل مشاهد المعاناة في " الموت المشرف " حين عصفت التغييرات الدراماتيكية بالعراق ، نري كيف نالت قطعان الأغنام ما نال البشر ، نلتقط هذه المحاورة بين الخروف " دعلج " والنعجة " زاجية " والخروف " عرفان " . لا فرق في النحر علي عمود كهرباء أو في المسلخ .. الأمر مختلفيا عزيزي ، في المسلخ يتم نحرنا بعيدا عن عيون الأطفال ، وتشطف اجسادنا بسواقي دون أثر للدم أو الفضلات ، الأمر مختف.. مختلف .. نظر " عرفان" إلي بقية القطيع النائم وقال بحزن عميق : لوكنا في الريف .. في المراعي .. لكان نحرنا مشرف .. من ساقنا إلي المدينة .. هناك الرعاة ... اصدقاء للقطعان ، يلعبون معهم .. يسمعونهم صوت الناي .. لقد أزكمت انوفنا النفايات ، اصبحنا أغناما قذرة .. يلقمونا فضلاتهم ، ويسوقنا للذبح في الشوارع ... " .. وهكذا جدار الخمسين عاما الذي بناه – كاتبنا تحول إلي جدارية ابدية ، للأجيال القادمة . وفي " عاشوراء في حزيران " أن التاريخ يعيد نفسه ، وأن ما حدث ورواه التاريخ ونحفظه حين شرع ولاة امر ذلك الزمان والتاريخ في التراشق بالأفكار ، واشتعلت الفتنة ، وجرت الدماء ومات من مات ورفعت الوية الشهداء ، فها نحن ننتكس مرة اخري ويتضاعف عدد الشهداء بعدد الرايات والألوية المرفوعة ، كأن الجراح والدموع مكتوب عليها أن تصنع نهراحتي إلي ما قبل يوم القيامة . ومعلوم أن كل الأنهار تجري إلي البحر والبحرلم يمتلئ يوما ...! أمام الجدار وامام الولادة علينا ان نصطف بباقات الورد لأستاذنا وكاتبنا العراقي القدير / عبد السادة جبار . س ج