كما نجتمع حول كلمة الرّبّ في الإنجيل المقدّس، ونعي تماماً أنّه حاضر بكلمته في الآيات المقدّسة، ويتوجّه إلينا وبشكل شخصيّ الآن وكلّ حين، كذلك نجتمع حول الأيقونة المقدّسة لنتأمّل بها كلمة الرّب. فالأيقونة بما تتضمّنه من كتابات روحيّة سواء أكانت تصوّر السّيّد المسيح أو والدة الإله أو أحد القدّيسين أو حدثاً من الإنجيل المقدّس، تنقل لنا عمل الله الخلاصي الّذي يحصل الآن، لأنّ الرّبّ هو أمس واليوم وغداً، وهو الحاضر أبداً بمحبّته وكلمته. إنّ الرّبّ يكلّمنا بطرق شتّى ومتعدّدة، ويدعونا أبداً للتّأمّل وبعمق في سرّ محبّته الإلهيّة. وتجسّد الأيقونة كلمة الرّبّ إذ إنّها حضوره الحقيقيّ المشابه لحضوره في الإنجيل المقدّس. وكما يكلّمنا في الإنجيل المقدّس كذلك يحاكي أعماقنا من خلال ما تجسّده الأيقونة المقدّسة الّتي تبلّغنا التّامّل الرّوحي من خلال تأمّلنا الجسدي، كما يقول القدّيس يوحنا الدّمشقي في كتاب "الدّفاع عن الأيقونات المقدّسة"؛ إذ يشرح أنّه يستحيل علينا التوصّل إلى الأمور الذّهنيّة بدون الأمور الجسديّة، وذلك لأنّنا مزدوجون، ومكوّنون من نفس وجسد، ولأنّ نفسنا ليست مجرّدة بل متوارية وراء حجاب الجسد تقريباً. وإذا ما استطعنا أن ندرك الرّوحيّات من خلال أقوال محسوسة وبأذني الجسد، استطعنا أيضاً أن نبلغ التأمّل الرّوحيّ من خلال التّأمّل الجسدي. إذاً، فالأيقونة تمنحنا القدرة من خلال ماديّتها على الولوج في قلب الكلمة متأمّلين بصمت وخشوع ما تراه أعيننا من رموز من ناحية، ومصغين إلى الكلمة الّتي تصلّي فينا من ناحية أخرى. لذا تشكّل الأيقونة عظة صامتة تؤثّر في النّفس والجسد في آن معاً، فتنقلنا من عالم المحسوس إلى عالم اللّامحسوس فنرتقي تدريجيّاً من قلب العالم إلى قلب السّماء. ولمّا كان للأيقونة المقدّسة أهمّيّة في كنائسنا وترافقنا في كلّ وجهة من الكنيسة خاصة على الأيقونستاس، وتبرز طابعاً احتفاليّاً بحضور الرّب، كذلك لها أهمّيّة كبرى في حياة المؤمن إذ يوليها مكاناً في بيته ليجتمع وعائلته حولها للصّلاة. من هنا تدخل الأيقونة في صميم التّربية المسيحية وتترافق والإنجيل المقدّس في بناء حياة الإنسان الرّوحيّة والفكرّيّة والنّفسيّة. فكما أنّ قراءة الإنجيل المقدّس هي صلاة بحدّ ذاتها وتأمّل وإصغاء لكلمة السّيّد، كذلك الأيقونة هي محاكاة وجدانيّة مع الرّب وإصغاء لكلمته الّتي تفيض نوراً في قلوبنا وأذهاننا. وانطلاقاً من هذا المبدأ، علينا أن ندلّ أبناءنا على أهمّيّة الأيقونة ومكانتها في حياتنا الرّوحيّة، ومساهمتها في بنائهم روحيّاً. فنعلّمهم أنّ الأيقونة ليست مجرّد صورة تزيّن بشكل فنّي بيوتنا أو جدران كنائسنا، وإنّما هي اتّصال حقيقيّ مع الله ومنبع نعم وبركات إذ إنّنا ونحن نتأمّل عمل الله الخلاصيّ من خلالها نرتقي بأرواحنا وأذهاننا إلى قلب الله. بالمقابل، فإن حضور الأيقونات في بيوتنا يقدّسها ويباركها، وبالتّالي لا يجوز أن نتصرّف بسلوك يهين هذا الحضور القدسيّ، كالتّلفّظ بكلمات غير لائقة، أو سلوك مسلك غير محترم يشوّه إنسانيّتنا المخلوقة على صورة الله ومثاله. بل يجب تكريمها واحترام قدسيّتها وقراءتها بخشوع. فمن قرأها قرأ الكتاب المقدّس، لأنّها تذكرنا بتاريخ الخلاص كلّه وبصنيع الله وبأسرار تدبيره الإلهي. وهي تعليم صامت وقناة لانسكاب النعم الإلهية. وصلة وصل بالنعمة وبها ومن خلالها يوزع الله إحساناته وعطاياه علينا. وإكرام الأيقونة لا يتوقف عندها ولكن من خلالها يصل إلى العنصر الأول بحسب قول القديس باسيليوس الكبير: "إن إكرام الأيقونة يرجع إلى عنصرها الأول". -------- ( نشر هذا المقال في مجلّة الصّليب المحيي/ العدد التاسع عشر- تموز 2013)