برؤية وقلم : منال عبد الحميد ( مونشاوزن ) في فراشها رقدت الصغيرة " جولي " .. كالملائكة تمددت الطفلة في مهدها محاطة بلعب أسفنجية وبلاستيكية متناثرة حولها ومخفورة بعين أمها المحبة الولهة الثكلى ! كانت الأم " وانيتا " قد فقدت لتوها صغيرها " جيمس " ، شقيق " جولي " ، الذي لم يكن قد تجاوز عمره الثمانية والعشرون شهرا حين قضي فجأة بينما هو في رعاية أمه المتفرغة لرعاية بيتها وصغارها .. لم تستطع " وانيتا " أن تقدم تفسيرا لزوجها ، والد " جيمس " و" جولي " ، لوفاة صغيرهما الذي لم يكن يشكو أي عرض مرضي قبل وفاته المفاجئة .. لكن الزوج " تيم " لم يسألها تفسيرا علي أية حال تماما كما لم يفعل حينما بوغت بوفاة صغيرهما " إريك " منذ ثلاثة أعوام قصيرة مضت ! لم يسأل أحد " وانيتا " تقديم تفسير لوفاة ولديها دون أن يكون هناك سبب مقنع أو مرض سابق يهيأ الناس لتقبل فكرة موت الصغار بتلك المفاجأة والقسوة .. لكن من يجرؤ علي تقليب المواجع علي أم ثكلي مسكينة سألا إياها أسئلة سخيفة بينما الشيء الوحيد الذي يتوجب فعله هو تقديم العون والتشجيع والتعزية لها حتى تتجاوز محنتها الأليمة ! رقد " جيمس " الصغير إلي جوار " إريك " في مقبرة آل " هويت " بريتشفورد تاركا والديه يتلظيان بمرارة الثكل للمرة الثانية .. كان هذا صحيحا تماما بالنسبة للزوج والأب " تيم " ، الذي كان يتألم غاية التألم لفقد ولديه الصغيرين ، أما الأم " وانيتا " فلم يكن يظهر عليها أدني مشاعر تنم عما تشعر به من مرارة وألم .. لكن من يجرؤ في كل الحالات علي الشك في مشاعر أم حول فقدان صغارها الأعزاء : " إنها تكتم آلمها بداخلها .. وهذا أسوأ ستمرض إذا لم تخفف عن نفسها بذرف الدموع ! " هكذا كان يردد الجيران والأصدقاء المتعاطفون مع مصيبة العائلة .. لكن ما عساهم سيقولون حينما تلحق " جولي " الصغيرة بأخويها دونما مبرر طبي أو مرضي كذلك ؟! ذلك السؤال لم يكن يشغل بال " وانيتا " علي الإطلاق .. فهي لا تهتم عادة بما يقوله الناس ولا بما يعتقدونه فالمهم أن تجيد عملها وتتقنه مثل كل مرة ! كانت الصغيرة إذن غارقة في نومها الهادئ في مهدها ولا تعرف أنها لن تستيقظ منه أبدا وأنها لن تري وجه والدها الحنون " تيم " وهو يداعبها ويضحك سعيدا بها ومستمتعا بوجودها حوله .. كانت " وانيتا " تغسل الأطباق في حوض المطبخ حينما شعرت بشيء يسري عبر عروقها ويمتزج بدمائها .. إنها لا تعرف كنة هذا الشيء وما يكونه بالضبط .. لا تعرف من أين ولا كيف يأتي ، ولا لما يقصدها هي بالذات .. إنها لا تعرف سوي شيئا واحدا أن ( هذا الشيء ) لم يداهمها سوي مرتين فقط من قبل .. مرة في اليوم السادس والعشرين من يناير من عام 1965 ومرة ثانية في يوم السادس والعشرين من سبتمبر عام 1968 وهما ، صدفة أو قصدا ، تاريخا وفاة الطفلين " إريك " و" جيمس هويت " ! إنه يدعوها الآن .. أسقطت " وانيتا " الطبق في الحوض بهدوء وامتدت يدها تعدل وضعية نظارتها الطبية علي أنفها ، إنها تحب أن تفعل كل شيء بهدوء وهي في قمة هندامها .. تلك المرأة لا تحب العجلة ولا التكلف فكل شيء هادئ وتحت السيطرة ها هنا ! غادرت الأم المطبخ وسارت خطوات قليلة نحو غرفة الأطفال التي تحتلها الآن " جولي " وحدها .. دلفت الأم إلي الداخل بهدوء واقتربت بروية من مهد الطفلة .. كانت " جولي " قد أمضت ساعتين في نوم هادئ مطمئن وسط لعبها الصغيرة الملونة وتكاد تستيقظ لتبدأ وصلة جديدة من اللعب والصراخ والرضاعة ثم العودة للنوم مجددا .. لكن يبدو أن " وانيتا " قد قررت أن توفر علي ابنتها كل تلك المشقة وتجبرها علي أن تمضي في نومها الهادئ طويلا .. طويلا جدا وإلي الأبد ! تفرست الأم في ملامح صغيرتها لحظات وهي تشعر بأن مشاعرها قد تجمدت تماما وولت .. لم يكن لدي " وانيتا " هويت ما يسمي بقلب حنون أو مشاعر جياشة ، بالأحرى كانت قاسية متحجرة القلب ، ولم تكن طفلتها تمثل لها أكثر من مخلوق صغير مكلفة هي بحمايته وإرضاعه وتحميمه وتغيير ثيابه المبللة .. إن " وانيتا " لم تنظر إلي ولاداتها إلا كواجب تؤديه نحو زوجها ، مثلما تؤديه بقية الزوجات لأزواجهن ، ف" تيم " مثله مثل بقية الرجال تزوجها ويعمل وينفق عليها ويطعمها ، وعليها أن ترد له مقابل ذلك كله بأن تلد له صغارا يحملون اسمه .. وبعد ذلك فكل شيء بلا قيمة وبلا معني وما معني أن تلد طفلا أو تفقد واحدا في عالم مكتظ بالبشر بالفعل ولا ينقصه المزيد ؟! ثم إنها بارعة في الإنجاب ، أي " وانيتا " ، كما كانت أمها تقول دائما ولن يصعب عليها أن تأتي بصغير جديد بعد أن تكون " جولي " قد رقدت بسلام إلي جوار أخويها ! أي خسارة في فقدان قطعة لحم صغيرة وقطع اللحم متوفرة في كل مكان : " اللعنة عليك يا " تيم " ! " همست " وانيتا " بغل وهي تصر علي أنيابها غيظا .. لكن ما الذي فعله لها " تيم " المسكين لتلعنه فذلك لا يعلمه إلا الله و" وانيتا " نفسها التي لم ولن تبح لأحد بسر كلماتها الغامضة ! تنفست الصغيرة " جولي " بعمق وفتحت عينيها للحظة صغيرة ، ثم عادت لنومها العميق الذي تبدو علي وشك الإفاقة منه قريبا .. تناولت الأم وسادة صغيرة من كومة حاجيات صغيرتها التي فرشتها علي الفراش الكبير غير المستخدم بالغرفة .. كانت الوسادة ملونة ومطرزة بأشكال رائعة لألعاب وشخصيات كرتونية محببة وقد انتقاها " تيم " بنفسه ، ضمن الأشياء التي أبتاعها ل" جولي " بمجرد مولدها مفضلا الألوان الزاهية والرسوم اللطيفة لتدخل السرور علي قلب طفلته الغالية .. وكأن المسكينة ستجد الفرصة الكافية لكي تتنعم بتدليل أبيها وغرامه المفرط بها ! اعتصرت " وانيتا " الوسادة بيديها .. كانت تعاني صراع إقدام _ إحجام رهيبا بحق .. إنها غير راغبة في فعل ذلك ، لكن ( ذلك الشيء ) يناديها ويدعوها للإقدام .. ذلك الشيء الفاجر الذي لا تعرف اسمه ولا كنهه يدفعها دفعا للقيام بعمل لا تريد ، علي الأقل الآن ، أن تقوم بعمله ! لكن ما حيلتها .. إنها ليست الملومة حتما وما داموا يريدون الإبقاء علي أطفالهم أحياء فلم يبقونهم بالقرب من يديها المرتعشتين القاتلتين ؟! " اللعنة عليك يا " تيم " .. لماذا لم تأخذها بعيدا ؟! " نعم " تيم هويت " هو من يتحمل وزر ذلك كله ، فقد كان بإمكانه أن يسألها .. كان بإمكانه أن يشك .. كان من واجبه أن يأخذ " جولي " ويختبئ بها في أبعد مكان في الكون بعيدا عن متناول أمها لكنه لم يفعل .. لم يفعل ولذلك يستحق كل ما سيحدث له وكل ما سيحيق به ! نعم يا " وانيتا " إن " تيم " هو المخطئ فلا تلومي نفسك يا معتوهتي الصغيرة .. فالآخرون دائما يكونون هم المخطئين في نظر المجانين ! اعتدلت " وانيتا " في وقفتها ونظرت ل" جولي " نظرة باردة صامتة متحجرة ثم هوت فوق مهدها بيديها القاسيتين ووضعت الوسادة فوق وجهها .. التصقت الوسادة بوجه الصغيرة وغطته تماما .. مرت لحظة تردد قصيرة أعقبتها ضغطة قوية من يدي الأم بالوسادة فوق وجه الصغيرة .. كتمت الوسادة أنفاس الصغيرة .. صحت الصغيرة من نومها لبرهة علي وقع أنفاسها المكتومة وقسوة الاختناق .. تحشرجت .. لم تكن في سن تسمح لها بالمقاومة ولم تكن أية مقاومة تبديها ، إن كانت قادرة عليها ، لتغير مصيرها أو تغير عقل أمها الخرب وتستبدله بعقل سليم .. لم يستغرق الأمر لحظة لكنها كانت في طول عمر بأكمله .. حين رفعت " وانيتا " الوسادة أخيرا عن وجه طفلتها كانت " جولي " ترقد ميتة ساكنة .. وحولها لعبها الصغيرة تنظر بعيونها الزجاجية الخرساء غير قادرة علي أن تدفع عنها غائلة جنون أم فقدت عقلها وتجردت من الرحمة .. آه لو كانت تلك اللعب قادرة علي الكلام .. آه لو كانت قادرة علي أن تشهد بما رأته إذن لروعت الأجيال بما رأته وبما شهدت عليه من جرم مروع .. وربما كان عقل " وانيتا " المختل قد فكر في ذلك الاحتمال المجنون للحظة .. لأنها ما أن انتهت من خنق طفلتها وإزهاق روحها حتى بدأت في تهشيم وإلقاء لعب المهد الصغيرة علي الأرض وأخذت تدوسها بقدمها في نوبة اهتياج وذعر جنوني مخيف ! مرت لحظات هدأت " وانيتا " علي أثرها .. شعرت بصفاء وجمود تام في عقلها بعد أن أنهت مهمتها المروعة و( ذلك الشيء ) القابع في مؤخرة عقلها المختل همس لها برضا : " أحسنتي .. أحسنتي يا فتاتي ! " وكان رد " وانيتا " علي تقريظ شيطانها هو أنها ابتسمت بسعادة وأعادت تسوية منظارها الطبي علي عينيها .. خرجت " وانيتا " إلي حجرة الاستقبال وهناك رفعت الهاتف وطلبت رقم عمل زوجها " تيم هويت " بهدوء راسخ وكأنها لم تفعل شيئا ولم تقدم علي إزهاق روح طفلتها الثالثة لتوها .. بعد لحظات آتاها صوت " تيم " الخالي غير متوقع أية مصيبة في انتظاره علي طرف لسان زوجته : " لقد حدث الأمر ثانية يا " تيم " ! " قالت " وانيتا " بهدوء متصنعة بوادر الانهيار .. ساد صمت قصير جاء بعدها صوت " تيم " المشروخ مستفسرا بذعر : " ماذا .. ماذا ؟ " وانيتا " ماذا حدث ؟! " كان الأمر عسيرا علي الزوجة لأنها غير قادرة علي التظاهر بالقدر المطلوب من الحزن والجزع .. لذلك سكتت قليلا لتعطي " تيم " المسكين انطباعا عن حالة الانهيار التي تعانيها ثم قالت في النهاية : " إنها " جولي " .. " تيم " .. جولي " .. " جولي " ماتت ! " صرخ " تيم " من الناحية الأخرى مستفسرا سألا كيف ومتى وأين ماتت طفلته ، لكن " وانيتا " لم تجب عن أي سؤال منهم .. بل أمرته ، ببرود وهدوء بعد أن فشلت فشلا ذريعا في التظاهر بحزن لا تحسه ، أن يعود للبيت .. فقط عد إلي البيت يا " تيم هويت " لتدفن صغيرتك وتبكيها .. فلن يبكيها أحد سواك ! من ملفات جرائم القاتلة المتسلسلة " وانيتا هويت "