احسب إجازاتك.. تعرف على موعد العطلات الدينية والرسمية في 2026    روبيو يعرب عن تفاؤله بشأن إصدار قرار أممى حول غزة    اتفق مع الزمالك وغير رأيه، بتروجيت يحدد مصير حامد حمدان بعد عرض الأهلي (فيديو)    حبس المتهم بقتل زوجته فى المنوفية بسبب خلافات زوجية    اغتيال محمد الصداعي آمر القوات الخاصة داخل قاعدة معيتيقة في طرابلس    حبس شخصين لقيامهما بترهيب وفرض إتاوات على ملاك وحدات سكنية بالقطامية    المخرج محمد ياسين يوجه رسالة إلى خاله محمد عبد العزيز بعد تكريمه بمهرجان القاهرة السينمائي    «السك الأخير».. إنهاء عملة «السنت» رسميًا بعد 232 عامًا من التداول    «لو أنت ذكي ولمّاح».. اعثر على الشبح في 6 ثوانِ    التفاف على توصيات الأمم المتحدة .. السيسي يصدّق على قانون الإجراءات الجنائية الجديد    أبوريدة: متفائل بمنتخب مصر فى أمم أفريقيا والوقت لا يسمح بوديات بعد نيجيريا    القيادة المركزية الأمريكية: نفذنا 22 عملية أمنية ضد "داعش" طوال الشهر الماضي    إعلام: زيلينسكي وأجهزة مكافحة الفساد الأوكرانية على شفا الحرب    نقابة الموسيقيين تنفى إقامة عزاء للمطرب الراحل إسماعيل الليثى    غضب واسع بعد إعلان فرقة إسرائيلية إقامة حفلات لأم كلثوم.. والأسرة تتحرك قانونيا    الإنتاج الحربي يلتقي أسوان في الجولة ال 12 بدوري المحترفين    انطلاق معسكر فيفا لحكام الدوري الممتاز بمشروع الهدف 15 نوفمبر    وزير الإسكان: بدء التسجيل عبر منصة "مصر العقارية" لطرح 25 ألف وحدة سكنية    فرصة مميزة للمعلمين 2025.. التقديم الآن علي اعتماد المراكز التدريبية لدى الأكاديمية المهنية    المستشار بنداري: أشكر وسائل الإعلام على صدق تغطية انتخابات نواب 2025    سحب منخفضة ومتوسطة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الخميس 13 نوفمبر 2025    أمطار تضرب الإسكندرية بالتزامن مع بدء نوة المكنسة (صور)    انفجار ضخم يهز منطقة كاجيتهانة في إسطنبول التركية    قرارات جديدة بشأن مصرع وإصابة 7 في حادث منشأة القناطر    عماد الدين حسين: إقبال كبير في دوائر المرشحين البارزين    واشنطن تدعو لتحرك دولي عاجل لوقف إمدادات السلاح لقوات الدعم السريع    لافروف: إحاطات سرية دفعت ترامب لإلغاء القمة مع بوتين في بودابست    قفزة في سعر الذهب اليوم.. وعيار 21 الآن في السودان ببداية تعاملات الخميس 13 نوفمبر 2025    وزير المالية السابق: 2026 سيكون عام شعور المواطن باستقرار الأسعار والانخفاض التدريجي    فيفي عبده تبارك ل مي عز الدين زواجها.. والأخيرة ترد: «الله يبارك فيكي يا ماما»    يقضي على ذاكرتك.. أهم أضرار استخدام الشاشات لفترات طويلة    عقار تجريبي جديد من نوفارتيس يُظهر فعالية واعدة ضد الملاريا    طريقة عمل فتة الحمص بالزبادي والثوم، أكلة شامية سهلة وسريعة    ترامب يحمل «جين تاتشر» وكيندي استخدم مرتبة صلبة.. عادات نوم غريبة لرؤساء أمريكا    إسرائيل تُفرج عن 4 أسرى فلسطينيين من غزة بعد عامين    "حقوق المنصورة "تنظم يومًا بيئيًا للابتكار الطلابي والتوعية بمفاهيم الاستدامة وترشيد الاستهلاك    محمود فوزي: قانون الإجراءات الجنائية الجديد سيقضي على مشكلة «تشابه الأسماء»    حيثيات حبس البلوجر «سوزي الأردنية»: «الحرية لا تعني الانفلات»    النيابة العامة تخصص جزء من رسوم خدماتها الرقمية لصالح مستشفى سرطان الأطفال    أسعار السمك البلطي والكابوريا والجمبري بالأسواق اليوم الخميس 13 نوفمبر 3035    «ده مش سوبر مان».. مجدي عبد الغني: زيزو لا يستحق مليون دولار    خبير لوائح: قرارات لجنة الانضباط «تهريج».. ولا يوجد نص يعاقب زيزو    تأكيد لليوم السابع.. اتحاد الكرة يعلن حرية انتقال اللاعبين الهواة بدون قيود    «يتميز بالانضباط التكتيكي».. نجم الأهلي السابق يتغنى ب طاهر محمد طاهر    ليلى علوي: مهرجان القاهرة السينمائي يحتل مكانة كبيرة في حياتي    محمود فوزي ل"من مصر": قانون الإجراءات الجنائية زوّد بدائل الحبس الاحتياطي    ممثل المجموعة العربية بصندوق النقد الدولي: مصر لا تحتاج لتحريك سعر الوقود لمدة عام    دوامٌ مسائي لرؤساء القرى بالوادي الجديد لتسريع إنجاز معاملات المواطنين    إذا قالت صدقت.. كيف تتمسك مصر بملفات أمنها القومي وحماية استقرار المنطقة؟.. من سرت والجفرة خط أحمر إلى إفشال محاولات تفكيك السودان وتهجير أهالي غزة .. دور القاهرة حاسم في ضبط التوازنات الإقليمية    قد يؤدي إلى العمى.. أعراض وأسباب التراكوما بعد القضاء على المرض في مصر    مقرمش جدا من بره.. أفضل طريقة لقلي السمك بدون نقطة زيت    السيسى يصدر قانون الإجراءات الجنائية بعد معالجة أسباب الاعتراض    قصر صلاة الظهر مع الفجر أثناء السفر؟.. أمين الفتوى يجيب    رئيس الإدارة المركزية لمنطقة شمال سيناء يتفقد مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن الكريم بالعريش    انطلاق اختبارات «مدرسة التلاوة المصرية» بالأزهر لاكتشاف جيل جديد من قراء القرآن    «لو الطلاق بائن».. «من حقك تعرف» هل يحق للرجل إرث زوجته حال وفاتها في فترة العدة؟    محافظ أسيوط يحضر برنامج تدريب الأخصائيين على التعامل مع التنمر    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علي السّباعي يكتب مدونّات امرأة أرملة وينتصر للجندي المجهول
نشر في شموس يوم 09 - 12 - 2014


بقلم الأديبة الأردنية:سناء الشعلان
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
عن دار ميزوبوتاميا للطّباعة والنشر والتوزيع صدر في العاصمة العراقية بغداد المجموعة القصصية " مدوّنات أرملة جندي مجهول"،وهي مجموعة قصصية جديدة للقاص العراقي علي السباعي،أبدع لوحة غلافها الفنان التشكيلي محمود فهمي عبود.والمجموعة تقع في 114 صفحة من القطع المتوسّط،وتتكوّن من أربعة معقودة تحت عنوان مدوّنة،وهي على التّوالي :مدوّنة الحرب،مدونة الحصار،مدوّنة الحبّ،مدوّنة التّيه.
باب المدخل إلى هذه المجموعة القصصّية هي كلمة غلافها الخلفيّ للقاص العراقيّ علي السّباعيّ الذي يقول:" واجهتُ نَفسي بالأسئلةِ،ماذا تعني القصةُ وهي تترسَّمُ آثار الحرب والحصارَ والحبَ والتيه؟وماذا تعني القصةُ وهي تترسمُ بصمات ِ الإنسانِ عندما ينْسَحبُ أمام ذاتهِ؟!سؤالُ كونيُ؟يحملُ طعمَ كلَّ المراراتِ التي لا تفارقُ نسغَ حياتنا إنْ كانَ هُنالك في الحياة منْ وجودٍ".
وهذا المدخل الخلفي لهذه المجموعة القصصيّة يقودنا نحو الحالة النفسيّة والفكرية والشّعورية التي ينطلق السّباعي منها في كتابة مجموعته هذه التي تقمّص فيها شخصيتين لا شخصيّة واحدة،أيّ أنّه استدعى المرأة والرّجل كي يرسم ملامح معاناة ومأساة الشّعب العراقيّ الذي يعيش منذ عدّة عقود في معاناة لا حدود لها،لاسيما معاناة الحرب التي خلّفت إرث حزن عملاق في ذاكرة الشّعب العراقيّ،وقد استدعى المرأة الأكثر معاناة في الشّعب العراقيّ،وهي المرأة الأرملة،كما استدعى زوجها الجندي الذي دفع حياته ثمناً للحروب والمآسي والتّصفيات العسكريّة.
والسّباعي يتولّى الحديث بصوت المرأة الأرملة عبر تفويضها له بذلك في القصة القصيرة الأولى "وصايا امرأة توشّحت بالرّماد" إذ يقول :"دموعُها شاهدٌ حيٌ وهي توصيني على تدوينِ عذاباتِ الناس الذين َ يمشون َ بجانب ِ الحائط ِ في بلد ٍ طيب ٍ ؛ وهم يحرثون أرض َ خيباتِه بمرارات ِ الواقع ِ وهباءاتِه ... وكان العراقيون المصلّبين َ في جذوع ِ نخله ِ المنقعر يسقونَها بدماءِ جراحاتِهم ،لِتكُنْ كتابتُكَ في هذا الوقت ِ عن عذاباتِنا أجملُ انتقامٍ من هذا العالم ِ القبيح ِ الذي نعيشه ُ".
ومايكاد السّباعي يقدّم لنا هذه القصة القصيرة وثيقة إبداعيّة وقانونيّة لحقّه بتدوين عذابات الأرملة عبر تفويضها له بذلك حتى ينزلق مباشرة إلى داخل الجنديّ العراقي مستعرضاً عوالم عذابه وانكسارات وجوده وأشكال سحقه وظلمه ومصادرة حقوقه بالحياة بالمعارك طاحنة قد زُجّ بها زجّاً على امتداد عدّة عقود،وهو بذلك ينطلق من إيمانه الرّاسخ بأنّ الانزلاق إلى الرّجل لا يكون إلاّ عبر المرأة،وأنّ اكتشاف المرأة لا يكون إلاّ عبر بوابة الرّجل،وما توأمة حزنهما ومصيرهما إلاّ فهم حقيقيّ لشكل الوجود البشريّ الذي يتكوّن حقيقة من لحمة الرّجل والمرأة.
ولأنّ معاناة الرّجل العراقي ّهي معاناة المرأة العراقيّة،ولأنّ الجندي المجهول الذي مضى إلى الموت قهراً وظلماً هو فجيعة المرأة العراقيّة،فإنّ السّباعي بدأ بسرد قصص هذا الجنديّ عبر ذاكرة المرأة التي جعلها الحافظة لكلّ الحكايا،وقد عرض حكايا الجندي المجهول عبر عدّة قواطع قصصيّة سمّاها"مدوّنات"،وأعطاها الأسماء التّاليّة: مدوّنة الحرب،مدونة الحصار،مدوّنة الحبّ،مدوّنة التّيه.
وقد خلق السّباعي من حالة التّعميم المقصودة في العنوان بوابة للتخّصيص،فهو لم يحدّد من تكون هذه المرأة الأرملة،ولا حدّد اسم ذلك الجنديّ المجهول؛كي تكون تلك الأرملة هي العراقية الأرملة في أصقاع العراق كلّها،وكي يكون الجندي المجهول هو الجنديّ العراقيّ الذي لقي حتفه في المعركة بغض النّظر عن اسمه أو ديانته أو منبته أو منزلته الاجتماعيّة أو الثّقافيّة،وحواره مع المرأة في القصّة القصيرة الأولى من المجموعة:" وصايا آمرأةٍ توشَّحتْ بالرمادِ" يقودنا نحو قصر هذه المجموعة على معاناة العراقيّ والعراقيّة:"وكان العراقيون المصلّبين َ في جذوع ِ نخله ِ المنقعر يسقونَها بدماءِ جراحاتِهم ، كانتْ دموعُهم النازفة ُ
برقيّاتٍ من جحيمه ِ ... زامنتْ بكاءَ الأرملة ِ المتّشحة ِ برماد ِ الفجيعة ِ تبكي يومها الدامي في بلاد ِ وادي الرافدين ، سَألتُها مذهولا ً : كيف تبكين َ ؟ ! أجابتْ بشفتين ِ راجفتين ِ شاحبتين ، ودموعُها منهمرة ٌ من عينيها السومريتين ِ الرافضتين ِ لعراق ِ القهر ِ : العين لا تبكي إلاّ إذا بكى القلب ُ ، والقلب ُ لا يبكي إلاّ إذا أشتدَّ وقع ُ الهم ِّ عليهِ ، كم كانَ
همِّيْ ثقيلاً يطبقُ على قلبي .
علّقتُ مهموما ً :
ليسَ مِن َ السهلِ نسيان ُ كل ِّ ما مرَّ بنا من أحزانٍ .
شاطَرتني حزني َ قائلة ً :
أقتنص هذه ِ اللحظات ِ ؟ !!
بُحتُ لها وأنا أُمْسِكُ رماد َ فجائِعَنا :
ليتك ِ تدركين َ كم هو ثقيلٌ هم ُّ الوطن ِ ؟
قالتْ بلحظة ِ بوح ٍ باذخة ِ الدهشة ِ :
دوّنْ . . . دموع َ الناس ِ بوصفِها الخيط الرفيع الذي يربط ُ بين َ الحياة ِ والحلم ِ .
استفهمتُ :
لِمَ ؟ !
قالتْ ناصحة ً :
لأنّكَ متى تأخّرتَ عن الإمساكِ بتلكَ اللحظاتِ المدهشةِ من محنتِنا ... ستفقدُها إلى الأبد ِ .
لِتكُنْ كتابتُكَ في هذا الوقت ِ عن عذاباتِنا أجملُ انتقامٍ من هذا العالم ِ القبيح ِ الذي نعيشه ُ".
ومنذ" مدوّنة الحرب" نقرأ في أسفار الجندي المجهول الذي يتناوب على أصناف المعاناة والحرمان،فيسرد السّباعي علينا ابتداء قصة" عازفٌ نسيَ عُودَه"،إذ يقول فيها:"كان معي جنديٌ إبان حرب ثماني السنوات في جبهةِ القتالِ ،لم يكن مقاتلاً شرساً ، كان عازفَ عودٍ موهوباً ، مُبدعاً، لا يجيدُ القتالَ... أثناءَ المعاركِ الطاحنةِ وما أكثرَها وأثناءَ اشتدادِ القصفِ كان يعزفُ لنا نحنُ إخوانَه المقاتلين أجملَ الألحان ، يضربُ على عودهِ بلا تعبٍ ، بمتعةٍ وإبداعٍ أبداً لا يكررُ نفسَه ... أُعلنَ وقفُ إطلاقِ النارِ في 8/8/1988 راحَ يدندن فرحا بانتهائِها.. وإذا بقذيفةٍ إيرانيةٍ تسقطُ على موضِعه وهو يعزُف ... تقتلٌه".
وقبل أن نستسلم لأحزان هذا الجنديّ المفجوع بنفسه وفرحه،ينقلنا السّباعي إلى أحزان المرأة العراقيّة إذ يقول في قصّة"أرملة" :" زمنَ الحرب . كنا نقفُ طوابيرَ لشراءِ الخبزِ ، كانَ الناسُ يصطفونَ صفين اثنين ... صفاً للنساء وآخر للرجال ، كان طابورُ النسوة طويلاً جدا كأنه أفعى سوداء ، وصفُ الرجالِ يتكونُ من ثلاثةِ أشخاصٍ مسنين وأنا ، جاءت أرملةٌ و اصطفتْ في طابورِنا ، خلفي مباشرةً ، أمرهَا صاحبُ المخبز المصريِ الجنسية أن تقفَ في طابورِ النساءِ ، فقالتْ بحدةٍ وهي تٌعَدِّلُ من وضعِ عباءتها السوداء الكالحة :وهل هنالك رجال حتى أقف في صفهم ".
وبعد ذلك يسرقنا السّباعي سريعاً إلى تضحيات ذلك الجندي العراقيّ الذي عاش شجاعاً ومات بطلاً،وأجاد أن يحوّل الموت والخراب إلى جمال ونخيل وحياة،إذ يقول في قصّة "ثأر":"جاهدَ جدي ضدَ الإنكليز ... كان يقتلُ الجنديَ البريطانيَ ويأخُذ سلاحَه وعتاده ويدفنُه في بستانِه ويزرعُ فوقَ جثتهِ نخلةٍ ... صارت فسيلاتُ النخيل تملأ بستانهَ ... تحتَ كلِ تالةٍ يرقدُ جنديٌ انكليزيٌ، قَتلهُ جدي ... غادَرنا البريطانيون ... كبرَ النخيلُ ... مات جدي... كبرنا ... شاخ نخيلُنا ... احتلّنا الإنكليزُ ثانيةً ... قاموا باقتلاعِ كل نخيل جدي".
والسّباعي في هذه المجموعة القصصّية المميّزة عندما شرع في كتابتها كان على وعي إبداعيّ كامل بأدواته وغايته،ولذلك اختار فنّ القصّة القصيرة جدّاً ليجري بنا في قصص لا نهاية لها ومعاناة عريضة تتوافر على أحداث يكاد السّرد الممتدّ لا يتسع لها،ولكنّ الجريّ فيها عبر ومضات القصّة القصيرة جدّاً قد يتيح لنا رؤية أوسع عبر مساحات شاسعة زمنياً ومكانيّاً وحدثيّاً عبر جري لا ينتهي،ولهاث متقطع لا من الجري المتواصل في سرد حكايا المعاناة بل من الألم والقهر الذي يحاصر المتلقّي عندما يتورّط في هذا القصص المحزنة.
وتقنيّة الجري- إن جاز التّعبير- في عوالم هذه المجموعة القصصيّة تجعلنا نطوّف في مفاصل حروب شتّى خاضها العراقيّ من الحرب ضدّ الاستعمار الإنجليزيّ إلى الحرب مع إيران إلى حرب الخليج.السّباعي لا يتوقّف عند تفاصيل حياة الجندي العراقيّ، بل يقودنا كلّ منا من يده ليجوب به تفاصيل معاناة الإنسان العراقيّ التي تأتي الحرب إليه إن لم يذهب هو إليه،ونرى ذلك جليّاً في قصّة"حظ عاثر ":"تهدم منزل صديقي الكائن خلف الفندق الذي رسمت على أرضية مدخله صورة بوش الأب ... نتيجة قصف القوات الجوية الأمريكية لهذا الفندق ... أصيب صديقي بالقصف وطار نصف قحف رأسه ...رقد في المستشفى سنه ونصف السنة ... تركته زوجته وقد أخذت معها أولاده ... هو ألان يشحذ في الشوارع".
وهذه التّفاصيل تنقل لنا الفجيعة في أقبح صورها وأبشع ملامحها كما نرى في قصّة" رأي":"دويٌ هائلٌ هَزَ قلبَ العاصمةِ ... إثرَ انفجارِ سيارة ٍمفخخةٍ ... تناثرتْ أجسادُ المارةِ ... انهارتْ واجهاتُ ألأبنيةِ المحيطةِ ... تحطمت السياراتُ ... بدأنا بلم أشلاء الناس ... عثرتُ على قَدَمِ رجلٍ يمنى يغطي ظاهرَها وشمٌ ازرقُ ملطخٌ بالدماءِ والوحلِ ... مسحتُها بباطنِ كفي اليمنى:كُتِبَ بالوشمِ الأزرقِ " كلُ النساءِ تحتَ قدمي ما عدا أمي ".
ولا يفوت السّباعي في هذه المجموعة القصصيّة أن يلوّح بكلّ جرأة بصراعات الإنسان العراقيّ إبّان الحروب الطوّيلة والكثيرة التي عاشها،وهو يطرح هذه الصّراعات بصراحة في قصّته:" رزمة أسئلة":"جارُنا الهاربُ من الخدمة العسكرية ... كان يسكر كل ليلة من ليالي حرب ألثمانينيات حد الثَمَل ...يبدأ بعتاب أمه :- لِمَ ولدتِني في قارة آسيا ... لِمَ ولدتني في العراق ... لِمَ ولدتني في الناصرية ... ولِمَ ولدتني في شارع عشرين ... ولِمَ أنا هارب؟!"
وهو في الوقت نفسه يتحدّث عن حلم الجندي العراقيّ الذي غادر الحياة،ولكنّه لازال يحلم بأن يكون حيّاً ليمارس حياته بكلّ تلقائيّة دون سطوة الموت الذي سارق عمره منه.وهذا الحلم هو امتداد لحلم كلّ جنديّ عراقيّ دُفع به إلى درب الموت،وحُرم من حقه في الحياة،فيقول في قصّة " جندي":" بعد انتهاء المعركة ، جندي يخرج من كيس الموتى ويقول لزملائه:-مهلا مازلت حياً".
"مدوّنة الحرب" في هذه المجموعة القصصّية تجوب بنا أقاصي الموت والقتل والخوف في مساحات الحرب،وتنقل لنا أدق تفاصيل الحياة اليوميّة إبان تلك الحروب في ظلّ صراعات نفسيّة يعيشها الإنسان العراقيّ في كلّ لحظة في أتون هذه الحروب التي تزرعه في عوالم من القهر والاستلاب والعذاب.أمّا "مدونة الحصار" فهي تسجّل لنا أدق ملامح جناية هذا الحصار على الإنسان العراقيّ إلى الحدّ الذي جعله يتمنّى أن يكون حماراً وفق ما نقرأ في قصة "إنسان" إذ يقول:" ذات حصار ...كنت انظر إلى الحمار ... وأحسده"
وفي أجواء كهذه تتخلّخل المعايير كلّها،وتتحرّك البُنى كاملة نحو الانهيار والدّمار كما نرى في قصة "تجار ميزوبوتاميا" :"دلفتْ إلى مقهى التجارِ ... امرأةٌ مقوسةُ الظهرِ ...تستجدي ... لم يُعْطِها احدٌ شيئاً ... ألحت في طلبهِا ... نَهَرَها صاحبها :-أخرجي ... ألا تخجلين ... أنتِ وسطَ الرجال ... عيب ... ؟ !!قالتْ بمرارةٍ وحزنٍ غريبين في أثناءَ مغادرتهِا و كانت تَهُز يدها اليمنى باستهزاءٍ قَلَ نظيرهُ :وأينَ همْ الرجال ؟"
لقد رسم لنا السّباعيّ أصدق الصّور الإنسانيّة للإنسان العراقيّ إبّان أزمة الحرب التي يعيشها،وتخفّى خلف قصص الآخرين ليقول لنا إنّها قصص العراقيين جميعاً بل إن بعضها هي قصّته هو بشكل أو بآخر وفق صرخته المؤلمة في قصّة"أنا" إذ يهتف بها بألم وفجيعة :" طيورٌ رماديةٌ قويةٌ مهيبةٌ تحلقُ في سماءِ الزوراء ،متخذةً في طيرانها الانسيابي شكلَ دائرةٍ واسعةٍ كلما استمر تحليقُها كانت الدائرةٌ تضيقُ،وكان بينهن طائرٌ واحدٌ ابيضُ رشيقٌ وجميلٌ جدا ،وَضَعْنَه في منتصفِ الدائرةِ التي قد صَنْعنَها بطيرانهِن ... كانَ ذلكَ الطائرُ الأبيضُ أنا ".
أمّا في" مدوّنة الحبّ: فإنّ السّباعي يقدّم لنا الحبّ العراقيّ الكسير الذي لا يفرح قلب به كما يجب بسبب الحرب ومعاناتها،حتى بات هذا الحبّ ليس إلاّ صورة من صور الموت والدّمار والفراق،فيشجي القلب،ويحرق الرّوح،ويحرم من متعة اللقاء والفرح ولمّ الشّمل كما نرى في قصّة" عرس" إذ نقرأ فيها قصة حبّ ترحل مع الموت:" قبيل زفافِهما ... عريسٌ ينتظرُ عروسَه أمام مصففةَ الشعرِ ...تسودُ شارعَ الكرادةِ فرحةٌ ملونةٌ ... بأحلى الأغاني والرقصات ... انفجرتْ سيارةٌ مفخخةٌ ... هَزَتْ بغدادَ".
وهذا الحبّ قد تشّوه في الذاكرة العراقيّة بسبب الحرب والمعاناة والحصر والقهر والاستلاب،فمسخ ليغدو صورة من أبشع صور الحياة التي تدمي الرّوح كما نرى في قصّة "مشاجرة" :"تشاجرَ مع زوجتهِ ...أرادَ أغاضَتَها ... فقتلَ ابنَته ذاتَ الربيعين".
إن السّباعي في مجموعته القصصّية هذه قد نجح في أن ينقل إلينا دوار الألم الذي يعتمل في نفسه،ويعيشه في ذاكرته،ويتقاسمه مع العراقيين أجمعين،وعندئذ أخذنا في رحلة جهنميّة مضنية في " مدوّنة التّية" التي تعتّم أرواحنا بملامح حياتنا مستلبة عاشها العراقيّ في تفاصيل حياته المعيشة عبر عقود من الاستبداد،ويكفي أن نقف قبالة صورة قصّة "وجبة" لنصرخ بآهات وجع العراقيين المنكوبين بحيواتهم وأعمارهم وأفراحهم المسروقة":في حديقةِ الحيواناتِ الخاصة التي يملُكها عدي صدام ،يُطْعِمُ الجنودُ الأمريكييوُن ثلاثةَ أسودٍ جائعةٍ نعاما وغزلاناً حيةً ، أما القططُ فتغفو تحتَ لافتةٍ كَتبَ عليها الجنودُ :
((من يُضْبَط وهو يعتدي على أيٍ من حيواناتِنا، سيكونُ وجبتهَا المقبلةَ)).
وفي هذا التّيه المضني يضعنا السّباعي أمام أسئلة الحيرة ودروب الضّياع إذ يلقي علينا قصّة"غارس"،ولنا أن نأوّلها بما نشاء وكيفما نشاء،والمغزى في وجدان السّباعيّ :"رجلٌ في عقدهِ السادس ، طَفَحَ به الكيلُ بعد الحوادث الطائفيةِ الداميةِ عام ألفينِ وستة ، جَمَعَ كلَ صورَ الطاغيةِ في مدينتهِ الطيبة،الناصريةِ الغافيةِ على نهرِ الفراتِ ،وقامَ بغرسِها وسطَ سوحِها وحدائِقها المجدبةِ وخرائبهِا ،وراحَ كل يوم يجلبُ الماءَ من فراتها إلى صورهِ التي غَرَسَها ،وسقاها على أملِ أن تُنْبِت واحداً مثلَ صدام".
أزعم أنّني قرأتُ الكثير من الإبداع القصصّي عند القاص العراقيّ علي السّباعيّ إلاّ أنّ هذه المجموعة قد أكّدت أنّ المبدع قد يتفوّق على نفسه،وأنّه قد يكون في منتج إبداعي ما قد سرق النّار من جبل أولمب الإبداع.ليس من درب نحو هذه المجموعة سوى عبر الإنسان العراقيّ وعبر معاناته التي كست ذاكرته بالخراب والحزن والألم والفجيعة والضّنى،وليس لنا عندما نقرأ هذه المجموعة القصصّية إلاّ أن نقول للسباعيّ:مرّة أخرى قد أبدعت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.