مذكرات رجل الأعمال محمد منصور تظهر بعد عامين من صدور النسخة الإنجليزية    الحد الأدني للقبول في الصف الأول الثانوي 2025 المرحلة الثانية في 7 محافظات .. رابط التقديم    من بيتك في دقائق.. طريقة استخراج جواز سفر مستعجل (الرسوم والأوراق المطلوبة)    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 31 يوليو 2025    «النصر للسيارات والصافي» يعلنان عن طرح 9 سيارات جديدة في مصر... (قائمة الأسعار)    إيرادات أزور تتجاوز 75 مليار دولار ومايكروسوفت تحقق أرباحا قياسية رغم تسريح الآلاف    الطعام فقط ومكافأة حماس.. هل يعترف ترامب بدولة فلسطين؟    بمليارات الدولارات.. ترامب يكشف تفاصيل اتفاقية تجارية جديدة وشاملة مع كوريا الجنوبية    الانقسام العربي لن يفيد إلا إسرائيل    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    الزمالك يتلقى ضربة قوية قبل بداية الدوري (تفاصيل)    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    دنيا سمير غانم تخطف الأنظار خلال احتفالها بالعرض الخاص ل«روكي الغلابة» ( فيديو)    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    يعشقون الراحة والسرير ملاذهم المقدس.. 4 أبراج «بيحبوا النوم زيادة عن اللزوم»    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    مدير أمن سوهاج يقود لجنة مرورية بمحيط مديرية التربية والتعليم    روسيا: اعتراض وتدمير 13 طائرة مسيّرة أوكرانية فوق منطقتي روستوف وبيلجورود    التنسيقية تعقد صالونًا نقاشيًا حول أغلبية التأثير بالفصل التشريعي الأول بالشيوخ    الوضع في الأراضي الفلسطينية وسوريا ولبنان محور مباحثات مسؤول روسي وأمين الأمم المتحدة    في حفل زفاف بقنا.. طلق ناري يصيب طالبة    مصرع شاب وإصابة 4 في تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    3 مصابين فى تصادم «توكتوك» بطريق السادات في أسوان    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    نشرة التوك شو| انخفاض سعر الصرف.. والغرف التجارية تكشف موعد مبادرة خفض الأسعار..    التوأم يشترط وديات من العيار الثقيل لمنتخب مصر قبل مواجهتي إثيوبيا وبوركينا فاسو    لطفي لبيب.. جندي مصري في حرب أكتوبر رفض تكريم سفارة عدو جسّده سينمائيا    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    المصري يواجه هلال مساكن فى ختام مبارياته الودية بمعسكر تونس    بعد 20 سنة غيبوبة.. والد الأمير النائم يكشف تفاصيل لأول مرة (فيديو)    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الخميس 31 يوليو 2025    هل تتأثر مصر بزلزال روسيا العنيف، البحوث الفلكية تحسمها وتوجه رسالة إلى المواطنين    ترامب: وزارة الخزانة ستُضيف 200 مليار دولار الشهر المقبل من عائدات الرسوم الجمركية    أهم الأخبار العربية والعالمية حتى منتصف الليل.. الاتحاد الأوروبى وإيطاليا يدعمان السلطة الفلسطينية ب23 مليون يورو.. وفلسطين تدعو استونيا وليتوانيا وكرواتيا للاعتراف بها.. ومباحثات روسية سورية غدا بموسكو    حدث ليلًا| مصر تسقط أطنانا من المساعدات على غزة وتوضيح حكومي بشأن الآثار المنهوبة    مدير أمن القليوبية يعتمد حركة تنقلات داخلية لضباط المديرية    القبض على 3 شباب بتهمة الاعتداء على آخر وهتك عرضه بالفيوم    «أمطار في عز الحر» : بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم: «توخوا الحذر»    مدير تعليم القاهرة تتفقد أعمال الإنشاء والصيانة بمدارس المقطم وتؤكد الالتزام بالجدول الزمني    تنسيق المرحلة الأولى 2025.. لماذا يجب على الطلاب تسجيل 75 رغبة؟    25 صورة من تكريم "الجبهة الوطنية" أوائل الثانوية العامة    عيار 21 يعود لسابق عهده.. أسعار الذهب تنخفض 720 للجنيه اليوم الخميس بالصاغة    ب 3 أغنيات.. حمزة نمرة يطلق الدفعة الثانية من أغنيات ألبومه الجديد «قرار شخصي» (فيديو)    مونيكا حنا: علم المصريات نشأ فى سياق استعمارى    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    شادى سرور ل"ستوديو إكسترا": بدأت الإخراج بالصدفة فى "حقوق عين شمس"    محمد أسامة: تلقيت عرضا من الأهلي.. وثنائي الزمالك لا يعاني إصابات مزمنة    "تلقى عرضين".. أحمد شوبير يكشف الموقف النهائي للاعب مع الفريق    وزير الرياضة يتفقد نادي السيارات والرحلات المصري بالعلمين    حياة كريمة.. الكشف على 817 مواطنا بقافلة طبية بالتل الكبير بالإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    الشيخ خالد الجندي: الرسول الكريم ضرب أعظم الأمثلة في تبسيط الدين على الناس    أهمية دور الشباب بالعمل التطوعي في ندوة بالعريش    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علي السّباعي يكتب مدونّات امرأة أرملة وينتصر للجندي المجهول
نشر في شموس يوم 09 - 12 - 2014


بقلم الأديبة الأردنية:سناء الشعلان
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
عن دار ميزوبوتاميا للطّباعة والنشر والتوزيع صدر في العاصمة العراقية بغداد المجموعة القصصية " مدوّنات أرملة جندي مجهول"،وهي مجموعة قصصية جديدة للقاص العراقي علي السباعي،أبدع لوحة غلافها الفنان التشكيلي محمود فهمي عبود.والمجموعة تقع في 114 صفحة من القطع المتوسّط،وتتكوّن من أربعة معقودة تحت عنوان مدوّنة،وهي على التّوالي :مدوّنة الحرب،مدونة الحصار،مدوّنة الحبّ،مدوّنة التّيه.
باب المدخل إلى هذه المجموعة القصصّية هي كلمة غلافها الخلفيّ للقاص العراقيّ علي السّباعيّ الذي يقول:" واجهتُ نَفسي بالأسئلةِ،ماذا تعني القصةُ وهي تترسَّمُ آثار الحرب والحصارَ والحبَ والتيه؟وماذا تعني القصةُ وهي تترسمُ بصمات ِ الإنسانِ عندما ينْسَحبُ أمام ذاتهِ؟!سؤالُ كونيُ؟يحملُ طعمَ كلَّ المراراتِ التي لا تفارقُ نسغَ حياتنا إنْ كانَ هُنالك في الحياة منْ وجودٍ".
وهذا المدخل الخلفي لهذه المجموعة القصصيّة يقودنا نحو الحالة النفسيّة والفكرية والشّعورية التي ينطلق السّباعي منها في كتابة مجموعته هذه التي تقمّص فيها شخصيتين لا شخصيّة واحدة،أيّ أنّه استدعى المرأة والرّجل كي يرسم ملامح معاناة ومأساة الشّعب العراقيّ الذي يعيش منذ عدّة عقود في معاناة لا حدود لها،لاسيما معاناة الحرب التي خلّفت إرث حزن عملاق في ذاكرة الشّعب العراقيّ،وقد استدعى المرأة الأكثر معاناة في الشّعب العراقيّ،وهي المرأة الأرملة،كما استدعى زوجها الجندي الذي دفع حياته ثمناً للحروب والمآسي والتّصفيات العسكريّة.
والسّباعي يتولّى الحديث بصوت المرأة الأرملة عبر تفويضها له بذلك في القصة القصيرة الأولى "وصايا امرأة توشّحت بالرّماد" إذ يقول :"دموعُها شاهدٌ حيٌ وهي توصيني على تدوينِ عذاباتِ الناس الذين َ يمشون َ بجانب ِ الحائط ِ في بلد ٍ طيب ٍ ؛ وهم يحرثون أرض َ خيباتِه بمرارات ِ الواقع ِ وهباءاتِه ... وكان العراقيون المصلّبين َ في جذوع ِ نخله ِ المنقعر يسقونَها بدماءِ جراحاتِهم ،لِتكُنْ كتابتُكَ في هذا الوقت ِ عن عذاباتِنا أجملُ انتقامٍ من هذا العالم ِ القبيح ِ الذي نعيشه ُ".
ومايكاد السّباعي يقدّم لنا هذه القصة القصيرة وثيقة إبداعيّة وقانونيّة لحقّه بتدوين عذابات الأرملة عبر تفويضها له بذلك حتى ينزلق مباشرة إلى داخل الجنديّ العراقي مستعرضاً عوالم عذابه وانكسارات وجوده وأشكال سحقه وظلمه ومصادرة حقوقه بالحياة بالمعارك طاحنة قد زُجّ بها زجّاً على امتداد عدّة عقود،وهو بذلك ينطلق من إيمانه الرّاسخ بأنّ الانزلاق إلى الرّجل لا يكون إلاّ عبر المرأة،وأنّ اكتشاف المرأة لا يكون إلاّ عبر بوابة الرّجل،وما توأمة حزنهما ومصيرهما إلاّ فهم حقيقيّ لشكل الوجود البشريّ الذي يتكوّن حقيقة من لحمة الرّجل والمرأة.
ولأنّ معاناة الرّجل العراقي ّهي معاناة المرأة العراقيّة،ولأنّ الجندي المجهول الذي مضى إلى الموت قهراً وظلماً هو فجيعة المرأة العراقيّة،فإنّ السّباعي بدأ بسرد قصص هذا الجنديّ عبر ذاكرة المرأة التي جعلها الحافظة لكلّ الحكايا،وقد عرض حكايا الجندي المجهول عبر عدّة قواطع قصصيّة سمّاها"مدوّنات"،وأعطاها الأسماء التّاليّة: مدوّنة الحرب،مدونة الحصار،مدوّنة الحبّ،مدوّنة التّيه.
وقد خلق السّباعي من حالة التّعميم المقصودة في العنوان بوابة للتخّصيص،فهو لم يحدّد من تكون هذه المرأة الأرملة،ولا حدّد اسم ذلك الجنديّ المجهول؛كي تكون تلك الأرملة هي العراقية الأرملة في أصقاع العراق كلّها،وكي يكون الجندي المجهول هو الجنديّ العراقيّ الذي لقي حتفه في المعركة بغض النّظر عن اسمه أو ديانته أو منبته أو منزلته الاجتماعيّة أو الثّقافيّة،وحواره مع المرأة في القصّة القصيرة الأولى من المجموعة:" وصايا آمرأةٍ توشَّحتْ بالرمادِ" يقودنا نحو قصر هذه المجموعة على معاناة العراقيّ والعراقيّة:"وكان العراقيون المصلّبين َ في جذوع ِ نخله ِ المنقعر يسقونَها بدماءِ جراحاتِهم ، كانتْ دموعُهم النازفة ُ
برقيّاتٍ من جحيمه ِ ... زامنتْ بكاءَ الأرملة ِ المتّشحة ِ برماد ِ الفجيعة ِ تبكي يومها الدامي في بلاد ِ وادي الرافدين ، سَألتُها مذهولا ً : كيف تبكين َ ؟ ! أجابتْ بشفتين ِ راجفتين ِ شاحبتين ، ودموعُها منهمرة ٌ من عينيها السومريتين ِ الرافضتين ِ لعراق ِ القهر ِ : العين لا تبكي إلاّ إذا بكى القلب ُ ، والقلب ُ لا يبكي إلاّ إذا أشتدَّ وقع ُ الهم ِّ عليهِ ، كم كانَ
همِّيْ ثقيلاً يطبقُ على قلبي .
علّقتُ مهموما ً :
ليسَ مِن َ السهلِ نسيان ُ كل ِّ ما مرَّ بنا من أحزانٍ .
شاطَرتني حزني َ قائلة ً :
أقتنص هذه ِ اللحظات ِ ؟ !!
بُحتُ لها وأنا أُمْسِكُ رماد َ فجائِعَنا :
ليتك ِ تدركين َ كم هو ثقيلٌ هم ُّ الوطن ِ ؟
قالتْ بلحظة ِ بوح ٍ باذخة ِ الدهشة ِ :
دوّنْ . . . دموع َ الناس ِ بوصفِها الخيط الرفيع الذي يربط ُ بين َ الحياة ِ والحلم ِ .
استفهمتُ :
لِمَ ؟ !
قالتْ ناصحة ً :
لأنّكَ متى تأخّرتَ عن الإمساكِ بتلكَ اللحظاتِ المدهشةِ من محنتِنا ... ستفقدُها إلى الأبد ِ .
لِتكُنْ كتابتُكَ في هذا الوقت ِ عن عذاباتِنا أجملُ انتقامٍ من هذا العالم ِ القبيح ِ الذي نعيشه ُ".
ومنذ" مدوّنة الحرب" نقرأ في أسفار الجندي المجهول الذي يتناوب على أصناف المعاناة والحرمان،فيسرد السّباعي علينا ابتداء قصة" عازفٌ نسيَ عُودَه"،إذ يقول فيها:"كان معي جنديٌ إبان حرب ثماني السنوات في جبهةِ القتالِ ،لم يكن مقاتلاً شرساً ، كان عازفَ عودٍ موهوباً ، مُبدعاً، لا يجيدُ القتالَ... أثناءَ المعاركِ الطاحنةِ وما أكثرَها وأثناءَ اشتدادِ القصفِ كان يعزفُ لنا نحنُ إخوانَه المقاتلين أجملَ الألحان ، يضربُ على عودهِ بلا تعبٍ ، بمتعةٍ وإبداعٍ أبداً لا يكررُ نفسَه ... أُعلنَ وقفُ إطلاقِ النارِ في 8/8/1988 راحَ يدندن فرحا بانتهائِها.. وإذا بقذيفةٍ إيرانيةٍ تسقطُ على موضِعه وهو يعزُف ... تقتلٌه".
وقبل أن نستسلم لأحزان هذا الجنديّ المفجوع بنفسه وفرحه،ينقلنا السّباعي إلى أحزان المرأة العراقيّة إذ يقول في قصّة"أرملة" :" زمنَ الحرب . كنا نقفُ طوابيرَ لشراءِ الخبزِ ، كانَ الناسُ يصطفونَ صفين اثنين ... صفاً للنساء وآخر للرجال ، كان طابورُ النسوة طويلاً جدا كأنه أفعى سوداء ، وصفُ الرجالِ يتكونُ من ثلاثةِ أشخاصٍ مسنين وأنا ، جاءت أرملةٌ و اصطفتْ في طابورِنا ، خلفي مباشرةً ، أمرهَا صاحبُ المخبز المصريِ الجنسية أن تقفَ في طابورِ النساءِ ، فقالتْ بحدةٍ وهي تٌعَدِّلُ من وضعِ عباءتها السوداء الكالحة :وهل هنالك رجال حتى أقف في صفهم ".
وبعد ذلك يسرقنا السّباعي سريعاً إلى تضحيات ذلك الجندي العراقيّ الذي عاش شجاعاً ومات بطلاً،وأجاد أن يحوّل الموت والخراب إلى جمال ونخيل وحياة،إذ يقول في قصّة "ثأر":"جاهدَ جدي ضدَ الإنكليز ... كان يقتلُ الجنديَ البريطانيَ ويأخُذ سلاحَه وعتاده ويدفنُه في بستانِه ويزرعُ فوقَ جثتهِ نخلةٍ ... صارت فسيلاتُ النخيل تملأ بستانهَ ... تحتَ كلِ تالةٍ يرقدُ جنديٌ انكليزيٌ، قَتلهُ جدي ... غادَرنا البريطانيون ... كبرَ النخيلُ ... مات جدي... كبرنا ... شاخ نخيلُنا ... احتلّنا الإنكليزُ ثانيةً ... قاموا باقتلاعِ كل نخيل جدي".
والسّباعي في هذه المجموعة القصصّية المميّزة عندما شرع في كتابتها كان على وعي إبداعيّ كامل بأدواته وغايته،ولذلك اختار فنّ القصّة القصيرة جدّاً ليجري بنا في قصص لا نهاية لها ومعاناة عريضة تتوافر على أحداث يكاد السّرد الممتدّ لا يتسع لها،ولكنّ الجريّ فيها عبر ومضات القصّة القصيرة جدّاً قد يتيح لنا رؤية أوسع عبر مساحات شاسعة زمنياً ومكانيّاً وحدثيّاً عبر جري لا ينتهي،ولهاث متقطع لا من الجري المتواصل في سرد حكايا المعاناة بل من الألم والقهر الذي يحاصر المتلقّي عندما يتورّط في هذا القصص المحزنة.
وتقنيّة الجري- إن جاز التّعبير- في عوالم هذه المجموعة القصصيّة تجعلنا نطوّف في مفاصل حروب شتّى خاضها العراقيّ من الحرب ضدّ الاستعمار الإنجليزيّ إلى الحرب مع إيران إلى حرب الخليج.السّباعي لا يتوقّف عند تفاصيل حياة الجندي العراقيّ، بل يقودنا كلّ منا من يده ليجوب به تفاصيل معاناة الإنسان العراقيّ التي تأتي الحرب إليه إن لم يذهب هو إليه،ونرى ذلك جليّاً في قصّة"حظ عاثر ":"تهدم منزل صديقي الكائن خلف الفندق الذي رسمت على أرضية مدخله صورة بوش الأب ... نتيجة قصف القوات الجوية الأمريكية لهذا الفندق ... أصيب صديقي بالقصف وطار نصف قحف رأسه ...رقد في المستشفى سنه ونصف السنة ... تركته زوجته وقد أخذت معها أولاده ... هو ألان يشحذ في الشوارع".
وهذه التّفاصيل تنقل لنا الفجيعة في أقبح صورها وأبشع ملامحها كما نرى في قصّة" رأي":"دويٌ هائلٌ هَزَ قلبَ العاصمةِ ... إثرَ انفجارِ سيارة ٍمفخخةٍ ... تناثرتْ أجسادُ المارةِ ... انهارتْ واجهاتُ ألأبنيةِ المحيطةِ ... تحطمت السياراتُ ... بدأنا بلم أشلاء الناس ... عثرتُ على قَدَمِ رجلٍ يمنى يغطي ظاهرَها وشمٌ ازرقُ ملطخٌ بالدماءِ والوحلِ ... مسحتُها بباطنِ كفي اليمنى:كُتِبَ بالوشمِ الأزرقِ " كلُ النساءِ تحتَ قدمي ما عدا أمي ".
ولا يفوت السّباعي في هذه المجموعة القصصيّة أن يلوّح بكلّ جرأة بصراعات الإنسان العراقيّ إبّان الحروب الطوّيلة والكثيرة التي عاشها،وهو يطرح هذه الصّراعات بصراحة في قصّته:" رزمة أسئلة":"جارُنا الهاربُ من الخدمة العسكرية ... كان يسكر كل ليلة من ليالي حرب ألثمانينيات حد الثَمَل ...يبدأ بعتاب أمه :- لِمَ ولدتِني في قارة آسيا ... لِمَ ولدتني في العراق ... لِمَ ولدتني في الناصرية ... ولِمَ ولدتني في شارع عشرين ... ولِمَ أنا هارب؟!"
وهو في الوقت نفسه يتحدّث عن حلم الجندي العراقيّ الذي غادر الحياة،ولكنّه لازال يحلم بأن يكون حيّاً ليمارس حياته بكلّ تلقائيّة دون سطوة الموت الذي سارق عمره منه.وهذا الحلم هو امتداد لحلم كلّ جنديّ عراقيّ دُفع به إلى درب الموت،وحُرم من حقه في الحياة،فيقول في قصّة " جندي":" بعد انتهاء المعركة ، جندي يخرج من كيس الموتى ويقول لزملائه:-مهلا مازلت حياً".
"مدوّنة الحرب" في هذه المجموعة القصصّية تجوب بنا أقاصي الموت والقتل والخوف في مساحات الحرب،وتنقل لنا أدق تفاصيل الحياة اليوميّة إبان تلك الحروب في ظلّ صراعات نفسيّة يعيشها الإنسان العراقيّ في كلّ لحظة في أتون هذه الحروب التي تزرعه في عوالم من القهر والاستلاب والعذاب.أمّا "مدونة الحصار" فهي تسجّل لنا أدق ملامح جناية هذا الحصار على الإنسان العراقيّ إلى الحدّ الذي جعله يتمنّى أن يكون حماراً وفق ما نقرأ في قصة "إنسان" إذ يقول:" ذات حصار ...كنت انظر إلى الحمار ... وأحسده"
وفي أجواء كهذه تتخلّخل المعايير كلّها،وتتحرّك البُنى كاملة نحو الانهيار والدّمار كما نرى في قصة "تجار ميزوبوتاميا" :"دلفتْ إلى مقهى التجارِ ... امرأةٌ مقوسةُ الظهرِ ...تستجدي ... لم يُعْطِها احدٌ شيئاً ... ألحت في طلبهِا ... نَهَرَها صاحبها :-أخرجي ... ألا تخجلين ... أنتِ وسطَ الرجال ... عيب ... ؟ !!قالتْ بمرارةٍ وحزنٍ غريبين في أثناءَ مغادرتهِا و كانت تَهُز يدها اليمنى باستهزاءٍ قَلَ نظيرهُ :وأينَ همْ الرجال ؟"
لقد رسم لنا السّباعيّ أصدق الصّور الإنسانيّة للإنسان العراقيّ إبّان أزمة الحرب التي يعيشها،وتخفّى خلف قصص الآخرين ليقول لنا إنّها قصص العراقيين جميعاً بل إن بعضها هي قصّته هو بشكل أو بآخر وفق صرخته المؤلمة في قصّة"أنا" إذ يهتف بها بألم وفجيعة :" طيورٌ رماديةٌ قويةٌ مهيبةٌ تحلقُ في سماءِ الزوراء ،متخذةً في طيرانها الانسيابي شكلَ دائرةٍ واسعةٍ كلما استمر تحليقُها كانت الدائرةٌ تضيقُ،وكان بينهن طائرٌ واحدٌ ابيضُ رشيقٌ وجميلٌ جدا ،وَضَعْنَه في منتصفِ الدائرةِ التي قد صَنْعنَها بطيرانهِن ... كانَ ذلكَ الطائرُ الأبيضُ أنا ".
أمّا في" مدوّنة الحبّ: فإنّ السّباعي يقدّم لنا الحبّ العراقيّ الكسير الذي لا يفرح قلب به كما يجب بسبب الحرب ومعاناتها،حتى بات هذا الحبّ ليس إلاّ صورة من صور الموت والدّمار والفراق،فيشجي القلب،ويحرق الرّوح،ويحرم من متعة اللقاء والفرح ولمّ الشّمل كما نرى في قصّة" عرس" إذ نقرأ فيها قصة حبّ ترحل مع الموت:" قبيل زفافِهما ... عريسٌ ينتظرُ عروسَه أمام مصففةَ الشعرِ ...تسودُ شارعَ الكرادةِ فرحةٌ ملونةٌ ... بأحلى الأغاني والرقصات ... انفجرتْ سيارةٌ مفخخةٌ ... هَزَتْ بغدادَ".
وهذا الحبّ قد تشّوه في الذاكرة العراقيّة بسبب الحرب والمعاناة والحصر والقهر والاستلاب،فمسخ ليغدو صورة من أبشع صور الحياة التي تدمي الرّوح كما نرى في قصّة "مشاجرة" :"تشاجرَ مع زوجتهِ ...أرادَ أغاضَتَها ... فقتلَ ابنَته ذاتَ الربيعين".
إن السّباعي في مجموعته القصصّية هذه قد نجح في أن ينقل إلينا دوار الألم الذي يعتمل في نفسه،ويعيشه في ذاكرته،ويتقاسمه مع العراقيين أجمعين،وعندئذ أخذنا في رحلة جهنميّة مضنية في " مدوّنة التّية" التي تعتّم أرواحنا بملامح حياتنا مستلبة عاشها العراقيّ في تفاصيل حياته المعيشة عبر عقود من الاستبداد،ويكفي أن نقف قبالة صورة قصّة "وجبة" لنصرخ بآهات وجع العراقيين المنكوبين بحيواتهم وأعمارهم وأفراحهم المسروقة":في حديقةِ الحيواناتِ الخاصة التي يملُكها عدي صدام ،يُطْعِمُ الجنودُ الأمريكييوُن ثلاثةَ أسودٍ جائعةٍ نعاما وغزلاناً حيةً ، أما القططُ فتغفو تحتَ لافتةٍ كَتبَ عليها الجنودُ :
((من يُضْبَط وهو يعتدي على أيٍ من حيواناتِنا، سيكونُ وجبتهَا المقبلةَ)).
وفي هذا التّيه المضني يضعنا السّباعي أمام أسئلة الحيرة ودروب الضّياع إذ يلقي علينا قصّة"غارس"،ولنا أن نأوّلها بما نشاء وكيفما نشاء،والمغزى في وجدان السّباعيّ :"رجلٌ في عقدهِ السادس ، طَفَحَ به الكيلُ بعد الحوادث الطائفيةِ الداميةِ عام ألفينِ وستة ، جَمَعَ كلَ صورَ الطاغيةِ في مدينتهِ الطيبة،الناصريةِ الغافيةِ على نهرِ الفراتِ ،وقامَ بغرسِها وسطَ سوحِها وحدائِقها المجدبةِ وخرائبهِا ،وراحَ كل يوم يجلبُ الماءَ من فراتها إلى صورهِ التي غَرَسَها ،وسقاها على أملِ أن تُنْبِت واحداً مثلَ صدام".
أزعم أنّني قرأتُ الكثير من الإبداع القصصّي عند القاص العراقيّ علي السّباعيّ إلاّ أنّ هذه المجموعة قد أكّدت أنّ المبدع قد يتفوّق على نفسه،وأنّه قد يكون في منتج إبداعي ما قد سرق النّار من جبل أولمب الإبداع.ليس من درب نحو هذه المجموعة سوى عبر الإنسان العراقيّ وعبر معاناته التي كست ذاكرته بالخراب والحزن والألم والفجيعة والضّنى،وليس لنا عندما نقرأ هذه المجموعة القصصّية إلاّ أن نقول للسباعيّ:مرّة أخرى قد أبدعت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.