الآن تري نفسها تسير عبر طرقات القصر الصامتة مثلما كانت تفعل منذ سنوات أربع قصيرة شديدة الطول والألم ومفرطة القبح .. لم يكن هناك شيء تفعله سوي التلصص ومحاولة التنصت علي الأبواب فلم تترك لها المرأتان من سبيل سوي ذلك العمل الشائن الحقير ! تري كيف سيكون منظرها لو أنها أحضرت احدي الوصيفات أو خادمات القصر وطلبت منها أن تتلصص لها علي السيدتين وتخبرها بكل ما تقولان أو تفعلان ؟! تخيل .. " دوروثيا دوريا " ، السيدة الارستقراطية المتحفظة ، التي تنتمي لأشرف عائلات الإمبراطورية وأكثرها مجدا ، تعين فتاة لتكون جاسوسة حقيرة علي زوجة أبيها وأختها ! محال أن تلجأ لفعل يقلل من قيمتها ويزري بها كهذا .. فليس أمامها إذن إلا أن تباشر التلصص بنفسها ! لكن والحق يقال فإن المرأة الأخرى كانت تستحق ما يحدث لها تماما .. تلك الشابة المنفلتة التي ظنت أنه بإمكانها بقطعة ورق ، مشكوك في صحتها ، أن تستولي علي ثروة آل " دوريا " الهائلة بأكملها وتنتزعها من الخمس وريثات ، لتستحق كل ما حاق بها وما سوف يحيق بها بعد ! لقد ظهرت " لوتشيا " وأختها " إليزابيث " في حياتهم فجأة .. عقب موت الأب السيد " ناثان " بعدة شهور ظهرت المرأتان ومعهما صبي في نحو الخامسة تدعيان كونه ابنا للثري الراحل وأخا للدوريات الخمس ! طبعا لم يصدق أحد حرفا وكدن يطردنها شر طردة من القصر ، الذي ما كن ليسمحن لها بأن تدنسه بقدميها .. لكن الشابة ، التي بدا واضحا أنها لعوب خطرة ، أظهرت لهما وصية قانونية موقعة ومختومة بتوقيع وخاتم الأب وفيها تعليمات مغايرة تماما لما تركه لبناته قبل موته .. إنه يعترف ببنوة الولد المدعو " تيموثي " ويترك له ثروته بأكملها ! فزعت النسوة الخمس وهرعن صوب وصي أبيهما القانوني السيد " جوميل " المسن،الذي درس القانون في يورك ،ويعرف جيدا ألاعيب النسوة الساقطات وحيلهن القذرة .. لكن " جوميل " كان لديه مزيد من الأخبار السيئة .. فالأب المتوفى ترك بالفعل وصية يوضح فيها أن لديه ابنا غير شرعيا من امرأة تدعي " لوتشيا " .. وأنه أنجبه منها حينما كان يرافقها في أحدي رحلاته الإسبانية ويطلب تسليم الثروة إلي الوصي حتى يكبر الولد فيتسلم التركة بأكملها .. بكت الدوريات الأربع الصغيرات بينما تجمدت ملامح " دوروثيا " وسألت الوصي بتجهم : " ولما يقدم أبانا علي فعل كهذا ؟! " صاحت " ديميلزا " محتجة فنهرتها أختها الكبرى بحزم وعادت تنظر إلي المحامي منتظرة جوابه .. فاجأها ما قاله تماما : " لقد كان السيد يرغب في ولد بشدة .. لقد كان يقول لي دائما إنه يكرهكن لأن وجودكن منعه من الحصول علي الولد المطلوب ! " أي ترهات يفوه بها هذا الرجل الخرف ؟! لكن ما الذي تملكه النسوة الوحيدات أمام جبروت حبر الوصايا وقوة القانون ؟! نصحهن الوصي ، باعتباره صديق للأسرة ، أن يتوصلن إلي حد وسط يضمن لهن ألا تلقي بهن أم أخيهن في الشارع .. فالمرأة سيئة السمعة فعلا ، وبوسعهن الطعن في صحة دعواها وتأجيل تنفيذ الوصية لسنوات وسنوات ، والدفع بعدم صحة نسب الولد للأب المتوفى .. لكن كل ذلك سينتهي حتما بفوزها هي وأختها ، وليس هناك من طريقة سوي التفاوض معها علي أن تتنازل عن تنفيذ الوصية فورا وتقبل بوضع الولد تحت وصاية أخته الكبرى ، مقابل ألا يشهرن بها ولا يطعن في نسب الولد .. كانت تلك طريقة عرفية إلي حد كبير وليس لها قوة الوصية القانونية التي تحملها المرأة ، لكن من ناحية أخري ، فالمرأة تملك من الذكاء ما يكفي لكي تعرف أن النسوة الخمس لسن عاجزات إلي هذا الحد .. وبوسعهن التقدم بشكوى إلي الملك رسميا والطعن في كل شيء .. وامرأة سيئة السمعة فاقدة النسب الحسن لن تخرج من شرك كهذا بسهولة أبدا .. وربما لا تخرج منه إطلاقا ! أي أن الوصي في النهاية كان يعرض عليهن نوعا من المساومة .. مساومة قذرة لكنها كل ما لديهن للأسف ! تولي السيد " جوميل " عرض الصفقة علي المرأة فقبلت بها علي الفور بطريقة مثيرة للدهشة والتعجب .. لكن قبولها أثلج صدور النسوة رغم أنها اشترطت أن يسمحن لها ، ولأختها وللولد بطبيعة الحال ، بالبقاء في القصر الفسيح ! اعترضت القطط الأربعة لكن الأخت الكبرى قبلت .. وجاءت " لوتشيا " وأختها ومعهن الصبي الذي كانت أخواته يرينه للمرة الأولي ! صبي جميل فعلا ورقيق الحاشية ويبدو طيب المنبت .. لكن منظر الأم كان قميئا وقذرا حقا .. بدت امرأة ساقطة كما يجب أن تكون الساقطات .. ولا تعرف كيف تحترم المكان الذي تعيش فيه ! لذلك لم تكد تمضي أيام علي حضورها إلي القصر حتى بدأت تثير المشاكل وراء بعضها .. رفضت التوقيع علي التنازل عن الوصاية للأخت الكبرى وأخذت تماطل .. ثم بدأت تحاول فرض سيطرتها في النهاية .. وبدأت في افتعال المشاكل ومحاولة دس أنفها في حسابات الثروة ودخل أراضي " دوريا " وأملاكها الهائلة ونقودها السائلة .. لكن كل ذلك أنتهي فجأة وعلي نحو مباغت حقا ! فلقد بدأت المرأة تعاني متاعب صحية وتشكو من آلام في أمعائها بصفة مستمرة .. ثم في صباح يوم مشمس جميل وجدوها ميتة في فراشها ! أحضروا طبيبا وفحصها ولم يكن هناك ما يريب .. بدا واضحا أنها ميتة موتا طبيعيا لكن أختها " إليزابيث " صرخت واتهمت الأخوات بقتلها وأحضرت دليلا دامغا علي صحة دعواها .. فقد وجدوا زجاجة من الزرنيخ علي منضدة التزين الخاصة بالمرأة الميتة ! كاد الأمر يتحول لتحقيق قانوني لكن أحدي الأخوات الأربع أنهت الأمر حينما أحضرت وصيفتها الشابة الجميلة ، التي كانت تقدم الخدمة أحيانا للسيدة " لوتشيا " ، وجعلتها تشهد بقسم أنها رأت المرحومة تستخدم الزرنيخ في تجميل بشرتها ونزع الشعر من جسدها ! هل كانت الميتة حقا تستخدم الزرنيخ غير عالمة بأنه شديد السمية ؟! كذبتهن الأخت وحاولت أخذ الصغير والفرار به .. لكن الأخوات تصدين لها ومنعنها .. هربت " إليزابيث " من القصر ليلا بعد أن فشلت في أخذ " تيموثي " معها لكنها لم تذهب بعيدا .. فقد عثروا عليها في بيتها بعد أسبوع واحد ميتة أيضا .. سقطت من فوق سلم منزلها وتحطم عنقها وكسرت رقبتها وماتت ! انتهت القصة الآن والصغير رسميا أصبح تحت وصاية أخته الكبرى دون الحاجة إلي تنازل من أحد ولا مشاكل وقضايا تقام هنا أوهناك .. لكن " دوروثيا " بدأت تساورها الشكوك بقوة ! هل حقا كانت عشيقة أبيها تستخدم الزرنيخ للتجميل .. وتري لما كانت " ديميلزا " تسمح لوصيفتها بتقديم الخدمة ل" لوتشيا " رغم أنها كانت أكثر الأخوات كرها لها ؟! أهناك جريمة خفية في الأمر .. أم أن الأمر كله مجرد سوء حظ للمرأة وأختها ؟! هل قُتلت " إليزابيث " هي الأخرى ؟! وتري .. كيف سيكون الحال مع الصبي الآن ؟! هل بإمكانها ترويضه وجعله شابا محترما جديرا بالاسم العريق الذي يحمله ؟! لكن كل تلك الأسئلة سرعان ما تبخرت من رأس " دوريا " فقد اكتشفت ، بالصدفة ، شيئا لا يصدق .. شيئا مثيرا للهلع والذعر ! الحلقة القادمة مساء الخميس بإذن الله