بَوحُ قلبٍ مُتبصِّرٍ في المرأةِ وفلسفةِ القهوة – 13 غامِدِيَّةٌ كالمَها، أقبلتْ من البَعيدِ العربي ، من بلادِ غامدٍ في عُمقِ الجزيرةِ العربية . رسامةٌ كركيةٌ باناقتها ، وشَمَتْ مَفْرِقَها ، ببعضٍ من الشَّيبِ المُبَكِّرِ شَغَباً . إمرأةٌ بطعمِ القهوةِ العدنية ، ونكهةِ الهيلِ في مِهْباشٍ مُرَصَّعٍ ، يَعزفُ مع أوَّلِ المَغيب ، ألحانَه الشَجِّيةِ في بوادي بلاد الشام . صوتُ الغامدية ، رنانٌ شجيٌ ، كصوتِ الدِّلالِ النُّحاسِيَّة ، وهي تتراقَصُ بِحَمْلِها من القهوة ، وتَتقافزُ برشاقةِ ألْمَها العراقية ، مُكتَوِيَةٌ بجمرِ النارِ في المواقد البدويه . جَلَسَتْ منذ ايامٍ ، بجانبي إلا قليلا ، في قريةِ المُخيبةِ الاردنية ، المُرابطةِ مُباشرةً على الضفة الشرقية لنهر الاردن ، على بعد مئاتِ الامتارِ من مدينة طبرية وبُحيرتها ، في الجليل من فلسطينالمحتله . أوجَعَتْنا معاً تداعياتُ المكانِ ورمزياتُه . وفَرِحْنا بأبصارِنا وقلوبِنا ، وهي في الثرى الاردني ، تُعانِق من هناك ، شيئاً من فلسطينالمحتلة عزيز . إنْتَشلَنا مما نحن فيه من شجنٍ صامتٍ موجِع ، فَرَحٌ إنتابَ الغامدية ، حين هوى بَصَرُها على قطيعٍ من البط الابيضِ والاسود ، كان سابحاً أمامنا في ما تبقى من ماء النهر المنهوب . إلتَفَتْ إليَّ وناولتني بِيَدها ، فنجاناً من القهوةِ المُرَّة ، ويَدُها الاخرى تُعانِق فِنجالَها . قبل أن تَرفَعَ لها عَينايَ إمتناني ، وقبلَ أن تلتحم شفتاي مع حوافِّ الفنجال ، أو الغوصَ عميقاً في قيعانِه ، إعتدَلَتْ في جَلْسَتِها ، وأعادت ترتيبَ تضاريسها . جالَتْ عيناها مُطولاً ، في البعيدِ من أرض الحِمَّةِ العربية المحتلة . جَذَبَت نَفَساً عميقاً لاخفاءِ قلقها ، المُتناثِرِ حول حَوافِّ فنجانها ، الذي كادت أن تُحَطِّمُ أضلاعَهُ ، بين أصابِعِها المُطْبِقَةُ عليه بِقسوة . أشفقتُ عليه منها . ثم تَنَهَدَتْ طويلا لاعادة تنظيم دقات قلبها ، والسيطرة على دَمدماتِ شفتيها . ثم إنهمرتْ كالسَّيلِ بوحاً حزيناً . قالت : على حوافِّ أحدِ فناجيلِ قهوتي ، نَشبَ في وجهي ليلةَ البارحة ، نقشٌ لسؤالٍ بات منذ أيامٍ ، يلازمُني كالقرين . يكاد يقتلني . يُطل عليَّ من خلفِ ضبابِ كلِّ قلقٍ ، ومن ثنايا سُحُبِ الوجعِ المُحِّير . قلت : الفناجيلُ يا سيدتي ، مساحةٌ رحبةٌ تتسعُ لمخزونِ كل الناسِ من الأسرار . تختزنُ في قيعانها كل شئٍ من الاسرار ، المُفْرِحُ منها والمُؤلِم . ولكن ، لا تثقي كثيراً أيها الغامدية ، بقدرةِ تلكَ الحوافِّ والقيعان ، على كتمان الاسرار . فهي ، وهي تُدَنْدِنُ فَضَّاحَةً بَوَّاحَة . قالت : تَعرِفُه جيدا . أشهدُ إنني أحببته ، ولم أُشْرِكْ بِحُبِّه احداً . وأشهدُ أنَّهُ كان الأحبُّ ولا يزال . أذكُرُهُ والنجومُ طَوالِعٌ . وأراهُ كلما عَنَّ عالبالِ شوق ، من خَلَلِ الدموع . أبكيهِ كلما هتف قلبي باسمهِ مُنادِياً . فَيَحْتَجُ عقلي مُذَكِراً برحيلهِ المُفاجِئ . ويختصمان ، قلبي وعقلي بقسوة . نعم صحيحٌ هَجَرْ ، وبِقسوةٍ لا أسْتَحِقها . ولكن ، لم يسرق أحدٌ مني حتى الان ، شيئاً من ذكرياتنا . كانت حزينة . تتنهد بكثرةٍ . تنظرُ للبعيدِ الأبعد . تتصارعُ أصابِعُها مع أصابِعِها. وساقها ترتعش . فقلت مُقاطعاً ، وأنا أعلمُ أنَّها مِمَّنْ يَكْتُمونَ عواطِفَهُم باتقان . وأعلمُ أنها تدري ، حاجتي للاستماعِ لها ، وشوقي لاحاديثها : جميلٌ ان يكونَ لكِ شريكٌ تحتَ أيِّ مُسمى ، والأجملُ أن يعرفَ الشريك ذلك . هاتِ ما عندك يا شهرزاد . هيا أكملي ، فكُلِّي على السَّمَعْ . قالت : دَعْكَ من التخابُثِ يا صديقي . مِشْ وَقْتُهْ . فأنتَ منذ أمَدٍ طويل ٍ ، الأدرى بحكايتي مع الهاجِرِ لِتضاريسي كلها . ومُطِلٌّ أنتَ ، على حِكايتي مع العابِرِ المُقيمِ الآنَ في محرابِ أوجاعي ، مالِئاً كلَّ حَواسيَّ دِفْئاً . قلت : هاتي ما بِكِ ؟ فأينَ الحِكايةُ يا إمرأة ؟ قالت بِنَزَقٍ بَيِّنٍ : لقد عادَ الحبيبُ الهاجِرْ، إيجابياً . فما ذَنْبُ الشريكِ العابِرِ المُقيم ؟ جريئةٌ أنا كما تَعْلَمْ . لا أريدُ أنْ أُعانِدَ الينابيعَ ولا السواقي ، فكُلُنا خطاؤون . ولا أريدُ ان أخاصِمَ ألاقمارَ ولا النجوم ، فَمَنْ مِنَّا على صِراطٍ مُستقيم ؟ ولكني ايضا ، لا أريدُ أنْ أقَعَ صريعةَ الوهمِ حتى لو كانَ رائعاً أوأخاذا . ولا أريدُ أن يُثْقِلَني الاحساسُ بِدونِيَّةِ الغَدْر . قُلْ لي ، فأنا في مهب الريح . كيف أُنْصِتُ لقلبي كما أُحِسُّ به الان ؟ وكيف أستَمعُ لِوساوِسِ عقلي ؟ قُلْ لي ، كيف أمضي لأصِلَ إلى جوهرِ نفسي ؟ قل لي يا انت ، ماذا اقول له ، وقد عاد ؟ ...... د سمير ايوب