بقلم د.هيفاء بنت عثمان فدا: خصوصية النص : إنّ القيمة الأساسية للنص في خطب علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ورسائله ، ماثلة في حضور الإبداع النصّي في النشاط الفكري والكلامي له على المستويَين : الشفهي والتحريري ، وتلك ميزة نادرة يتفرّد بها علي بن أبي طالب بصورة ملموسة . وهي مزيّة تجعله في المقدّمة من جميع كتّاب النصوص المبرَّزين ، ذلك لأنّ أولئك الكتّاب مثلهم مثل الرسّامين والنحّاتين الذين يصنعون نماذجهم بعد طول تأمل وتخطيط وممارسة ، وبعد مراجعات نقدية متواترة ، وصولاً إلى المحصلة الفنية النهائية على صعيد العمل . وكان الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بعفويته الثاقبة ، يباشر عمله الإبداعي الفوري ، فيأتي النص المرتجل ، مثل النص المكتوب ، آيةً في الإتقان والروعة . ومن الثابت أنّ جريان خطب علي ( عليه السلام ) على نحوه الباهر في طوله وقصره ، هو دليل على الفعالية الخارقة لعقل مبدع موهوب ، هو السيّد المؤكّد في عالم العقول . لا يمكن أن تتوفّر تلك الخصوصية لقوّة النص في المخاطبة الارتجالية ، وفي الكتابة لشخص آخر غير علي بن أبي طالب ، الذي انطوت شخصيته على علوم وفنون وقدرات عظيمة ، تتلاقح فيما بينها بجدليةٍ خِصبة . ورغم أنّ الخطاب عند علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) خطاب سياسي ، وفقهي ، وتربوي ، ووعظي في إطار معرفي مُحكم ، إلاّ أنّه ذو سمة رياضية ، ماثلة في بنية الخطاب الذي يتكامل نصّاً مغنياً . ولقد ارتكزت السمة الرياضية في البناء الأدبي للخطاب على دعامتين بارزتين : الأولى : هي في صُلب بنية الخطاب وعلاقاته الداخلية . والثانية : في خفاء المنهج ، أي في تنظيم فضائه . المقوّم الأوّل : هو المقوّم النحوي الذي يعصم الخطاب الأدبي من التحرّر الإنساني ، وبعض مظاهر اللانحوية التي قد يستكين إليها الوصف الأدبي والحماسة والارتجال ، وخاصّة في الخطاب الشفهي . إنّ أساس الخطاب في فعالية الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) من الناحية اللغوية هو أساس نحوي ، ذلك لأنّ علياً ( عليه السلام ) هو واضع النحو العربي في منطلقه الأوّل . قال لأبي الأسود الدؤلي حين أعرب عن ألمه من شيوع اللحن على اللسان العربي : ( اكتُب ما أُملي عليك ) ، ثمّ أملى عليه أصول النحو العربي ، ومنها أنّ كلام العرب يتركّب من اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما أنبأ عن معنىً ليس باسم ولا فعل ، ثمّ أملى عليه أنّ الأشياء ثلاثة : ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر . وفي خاتمة التوجيهات قال الإمام علي : ( يا أبا الأسود انحُ هذا النحو ) ، وهكذا أصبح عند العرب علم النحو . من هنا كان الأساس النحوي للنص في خطب الإمام علي بن أبي طالب ، يُؤمّن القاعدة المادّية لشبكة العلاقات الداخلية للنص ، التي يرتكز عليها البناء البلاغي للنص . ولا شك في أنّ تكامل الأساس النحوي والبناء البلاغي قائم أصلاً على المحور الفكري للنص ، وهو محور المعاني والدلالات . وإذ يستكمل الخطاب ( العَلَوي ) شروطه المادّية اللغوية ، وجماع علاقاته الداخلية ، فإنّه يستكمل الوحدة القائمة بين نصّية النص بمعناها الأدبي والفضاء الروحي للنص ، أي إنّ النص يتوفّر له البعدان الرمزيان للأرض والسماء في وحدتهما التامّة . المقوّم الثاني : فهو المقوّم الرياضي الذي يُستدلُّ عليه استدلالاً ، لأنّه لا يعبّر على نحو مباشر ، إلاّ بالنسبة إلى المتلقّي النابه . إنّ الذهنية الرياضية النشطة ، والمبادِهة لعلي ( عليه السلام ) ، تنعكس تأثيراتها على تعبيراته الأدبية ، بصورة الإتقان المحكم لعرض الأفكار ، وكذلك في تقديمه المتقن للبناء اللغوي والبلاغي للخطاب ، فالاتّساق الرياضي وارد في صلابة أفكاره ، وفي عظمة منطقه ، وبلاغته . ومردُّ ذلك ثابت في معرفته العلمية بالحساب ؛ تلك المعرفة التي كانت تكشف عنها سرعة البديهة في الجواب عن معضلات معقدة في المواريث والأقضية . وذاعت الفريضة المنبرية التي أفتى بها وهو على منبر الكوفة ، حينما سُئل عن ميّت ترك زوجة وأبوين وابنتين ، فأجاب من فَوره : ( صار ثُمنها تُسعاً ) . وشكّت مرّةً امرأة أنّ أخاها مات عن ستمائة دينار ولم يُقسم لها من ميراثه غير دينار واحد ، فقال لها بسرعة : ( لعلّه ترك زوجة وابنتين وأمّاً واثني عشر أخاً وأنتِ ) ؟ وكان الأمر كذلك . فمعرفته ( عليه السلام ) بعلم الحساب كانت أكثر من معرفة فقيه يتصرّف في معضلات المواريث ، لأنّه كان سريع الفطنة إلى طُرقه التي كانت تعد في ذلك الزمن ألغازاً تكدّ في حلّها العقول . وإنّ الدلالة المشتركة للمفردات وللتعبيرات ، والتي يشترك في قولها وفي فهمها جمهرة الناس ، مثقفين وغير مثقفين ، هي توكيد للتفاهم بين أفراد المجتمع وللتعبير عن حاجاتهم الأساسية . وقد أشبعت الكلمات والتعبيرات المشتركة تداولاً منذ بدء استعمالها ، فأصبح الوصول إلى المعنى من خلالها ممارسة اعتيادية ولكن أساسية . والفارق بين الكلام العادي والأسلوب الأدبي ليس فارقاً في الاستعمالات اللغوية فقط ، بل هو فارق في دقة الاختيار على المعاني ، ومن ثمَّ التعبير عنها . فأُنيطت بالقدرة التعبيرية مسؤولية الإمساك بالمعاني والكشف عن الدلالات ، وإحراز أكبر نجاح في مخاطبة الآخرين والوصول إلى أذهانهم ونفوسهم . ويتفاوت الكتّاب في مستويات الإبداع ، وتبعاً لذلك تتفاوت النصوص في ما تملكه من طاقة تعبيرية ، ومن جمالية أسلوبية . قد انتقد ابن قتيبة في مقدّمة ( أدب الكاتب ) أولئك الذين لم يعطوا الأسلوب حقّه فقال : ( رأيت كثيراً من كتّاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدعة ، واستوطأوا مراكب العجز ، وأعفوا أنفسهم من كدّ النظر ، وقلوبهم من تعب الفكر ، حين نالوا الدَرَك بغير سبب ، وبلغوا البُغية بغير آلة ) . وابن قتيبة مُحقّ ، لأنّنا لا نريد من الأديب أن ينقل إلينا المعاني وحدها ، فإنّ الغاية من الأدب ليست هي المعرفة وتقرير الحقائق ، بل نريد نقل المعاني ممزوجة بشعور الأديب باعثة لشعورنا ، وهذا لا يتأتّى إلاّ إذا كان التعبير فنيّاً . ويُلخص الحوفي عدّة صفات في تعبير الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) هي : 1 تخيّر المفردات : بحيث تنسجم من الناحية الصوتية ، فتجيء خفيفة على اللسان ، لذيذة الوقع في الآذان ، موافقة لحركات النفس ، مطابقة للعاطفة التي أزجتها أو للفكرة التي أملتها ، كقوله ( عليه السلام ) في كتاب إلى عمّاله على الخراج : ( إنّكم خُزّان الرعية ، ووكلاء الأمّة ، وسفراء الأئمّة ) . وكقوله إلى معاوية : ( لستَ بأمضى على الشك منّي على اليقين ) ، وقوله : ( كلما أطلَّ عليكم مَنسِر من مناسِر أهل الشام أغلق كل رجل منكم بابه ، وانجحر انجحار الضبّة في حجرها ، والضَّبُع في وجارها ) ، وقوله : ( دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجَرْجَرتم جَرجْرَة الجَمل الأَسَرِّ ، ثمّ خرج إليَّ منكم جنَيْد وتذاؤب ضعيف ) ، وقوله : ( من أبطأ به عمله ، لم يُسرع به حسبه ) ، وقوله : ( إنّ تقوى الله دواءُ داء قلوبكم ، وبَصَرُ عمى أفئدتكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دَنَس أنفسكم ، وجلاء غشاء أبصاركم ، وأمنُ فزع جأشكم ، وضياء سواد ظُلمتكم ) . 2 قوّة التعبير : إذ أجمع علماء البيان العربي على أنّ الكلام إذا كان لفظه غثّاً ، ومعرضه رثّاً ، كان مردوداً ولو احتوى على أجلّ معنى وأنبله ، كما ذكر أبو هلال العسكري في الصناعتين . وأجمعوا على أنّ الجزل القوي من الكلمات يستعمل في وصف الحروب ، وفي قوارع التهديد والتخويف ، وفي التنفيس عن الغضب والضيق وما شابه هذا . وأمّا الرقيق منها ، فإنّه يستعمل في وصف الأشواق ، وذكر أيّام الفراق ، وفي استجلاب المودّات ، واستدرار الاستعطاف وأشباه ذلك ، ( كما ورد في المثل السائر لابن الأثير الموصلي ) . ومن السهل أن نجد كثيراً ممّا يتّصف بالقوّة والجزالة والفخامة في خطب الإمام علي وفي رسائله ، تعبيراً عن عواطفه وأفكاره التي تقتضي التعبير القوي الفخم الملائم لشدّتها وقوّتها وحرارتها . ومن الأمثلة والنماذج قوله : ( واللهِ لا أكون كالضَّبُع تنام على طول اللَّذم حتّى يصل إليها طالبها ، ويَخْتِلها راصدها ، ولكني أضرب بالمقبل على الحق المدبَر عنه ، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً ، حتّى يأتي علَيّ يومي ) . وقوله : ( ألا وإنّي لم أرَ كالجنّة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربُها ، ألا وإنّه من لم ينفعه الحق يضرّه الباطل ، ومن لم يستقم به الهدى يجُرْ به الضلال ، ألا وإنّكم قد أُمِرتُم بالظَعن ، ودُللتم على الزاد ، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل ) . وقال في خطبة يخوِّف فيها أهل النهروان : ( فأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر ، وبأهضام هذا الغائط ، على غير بيّنة من ربّكم ، ولا سلطان مبين معكم ، قد طوَّحت بكم الدار ، واحتبلكم المقدار ، وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة ، فأبيتم علَيَّ إباءَ المخالفين المنابذين ، حتّى صرفتُ رأيي إلى هواكم ، وأنتم معاشر إخفاء الهام ، سفهاء الأحلام ، ولم آتِ لا أباً لكم بُجراً ، ولا أردتُ بكم ضُراً ) . وقوله من خطبة له عند مسيره إلى البصرة : ( إنّ الله سبحانه بعث محمّداً صلّى الله عليه وآله ، وليس أحد من العربِ يقرأ كتاباً ، ولا يدَّعي نبوّة ، فساق الناس حتّى بوَّأهم محلَّتهم ، وبلَّغهم منجاتهم ، فاستقامت قناتهم ، واطمأنت صفاتهم ، أما والله إن كنتُ لفي ساقتها حتّى تولّت بحذافيرها ما عجزتُ ولا جبنتُ ، وإن مسيري هذا لمثلها ، فلأنْقُبَنّ الباطل حتّى يخرج الحق من جنبه ، ما لي ولقريش ؟ ! والله لقد قاتلتهم كافرين ، ولأقاتلنّهم مفتونين ) . 3 سهولة التعبير : مثل قوله في كتاب إلى عبد الله بن عباس بعد مقتل محمّد بن أبي بكر : ( فعند الله نحتسبه ولداً ناصحاً ، وعاملاً كادحاً ، وسيفاً قاطعاً ، وركناً دافعاً ، وقد كنت حثثت الناس على لحاقه ، وأمرتهم بغيائه قبل الوَقْعه ، ودعوتهم سراً وجهراً ، وعوداً وبدءاً ، فمنهم الآتي كارهاً ، ومنهم المعتلّ كاذباً ، ومنهم القاعد خاذلاً ) . وقوله في رسالة إلى عمرو بن العاص قبل التحكيم : ( أمّا بعد ، فإنّ الدنيا مشغلة عن غيرها ، ولن يصيب صاحبُها منها شيئاً إلاّ فتحت له حِرصاً يَزيده فيها رغبة ، ولن يستغني صاحبها بما نال عمّا لم يبلُغْ ، ومن وراء ذلك فراقُ ما جمع ، والسعيد من وُعِظ بغيره ، فلا تُحبط أبا عبد الله أجرك ، ولا تُجارِ معاوية في باطله ، والسلام ) . وقوله في خطبة له بعد أن بلغه مقتل محمّد بن أبي بكر : ( اسمعوا قولي ، وأطيعوا أمري ، فو الله لئن أطعتموني لا تَغوون ، وإن عصيتموني لا ترشدون ، خذوا للحرب أُهبَتها ، وأعدّوا لها عُدَّتها ، فقد شبَّت نارها ... إلاّ إنّه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والمكر والجفاء بأولى في الجدَّ في غيِّهم وضلالتهم من أهل البِرّ والزهادة والإخبات في حقّهم وطاعة ربّهم ، إنّي والله لو لقيتهم فرداً وهم مِلاءُ الأرض ما باليتُ ولا استوحشتُ ، وإنّي من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي نحن عليه لَعلى ثقة وبيّنة ويقين وبصيرة ، فانفروا خفافاً وثقالاً ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) . 4 قِصَر الفقرات : مثل قوله لما أغار النعمان بن بشير الأنصاري على عين التَمر : ( مُنيتُ بمن لا يطيع إذا أمرت ، ولا يجيب إذا دعوت ، لا أباً لكم ! ما تنتظرون بنصركم ربّكم ؟ أما دينٌ يجمعكم ، ولا حَمِيّة تُحمِشكم ؟! أقوم فيكم مستصرخاً ، وأُناديكم مُتَغوّثاً ، فلا تسمعون لي قولاً ، ولا تطيعون لي أمراً ، حتّى تكشف الأمور عن عواقب المساءة ، فما يُدرَك بكم ثأر ، ولا يُبلَغ بكم مرام ، دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ ، وتثاقلتم تثاقل النضْو الأْبَر ) . وقوله : ( فتداكّوا علَيّ تداكَّ الإبل الهِيم يوم وِردها ، وقد أرسلها راعيها ، وخُلعت مثانيها ، حتّى ظننتُ أنّهم قاتليَّ ، أو بعضهم قاتل بعض لديَّ ، قد قلّبت هذا الأمر بطنَه وظهره ، حتّى منعني القوم ، فما وجدتني يسعني إلاّ قتالهم أو الجحود بما جاء به محمّد صلّى الله عليه وآله ، فكانت معالجة القتال أهون عليَّ من معالجة العقاب ، ومَوتاتُ الدنيا أهونَ عليَّ من مَوتات الآخرة ) . وقوله في كتاب إلى أمراء جيوشه : ( ألا وإنّ لكم عندي ألاّ أحتجز دونكم سراً إلاّ في حرب ، ولا أطوي دونكم أمراً إلاّ في حُكم ، ولا أُؤخّر لكم حقّاً عن محلّه ، ولا أقفُ به دون مقطعه ، وأن تكونوا عندي في الحق سواء ، فإذا فعلتُ ذلك وَجَبَت لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة ، وألا تنكصوا عن دعوة ، ولا تُفرّطوا في صلاح ، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق ) . 5 كثرة الصيغ الإنشائية : وهي : الأمر والنهي ، والاستفهام ، والترجي والتمني ، والنداء والقسم والتعجب ، وهي أقوى من الصيغ الخبرية تجديداً لنشاط السامعين ، وأشد تنبيهاً وأكثر إيقاظاً ، وأدعى إلى مطالبتهم بالمشاركة في القول وفي الحكم ، وهي في الوقت نفسه أدق في تصوير مشاعر الخطيب وأفكاره ، لأنّ أفكاره ومشاعره المتنوّعة في حاجة إلى أساليب متغايرة تفصح عنها . ثمّ إنّ مغايرة الأساليب تستتبع مغايرة في نبرات الصوت وفي الوقفة والإشارة وطريقة الإلقاء ، وهذا كلّه عون على الوضوح من ناحية ، وعلى التأثير في السامعين من ناحية . أمثلة ونماذج : أ من الأمر : قوله : ( فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حُثالة القَرَظِ ) ، وقوله : ( فاعتبروا بما أصاب الأممَ المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ، ووقائعه ومثلاته ، واتعظوا بمثاوي خدودهم ، ومصارع جنوبهم ، واستعيذوا بالله من لواقح الكِبر ، كما تستعيذون من طوارق الدهر ) ، وقوله : ( ليتأسَّ صغيركم بكبيركم ، وليرأف كبيركم بصغيركم ) . ب ومن النهي : قوله : ( فلا تجعلنَّ للشيطان فيك نصيباً ، ولا عن نفسك سبيلاً ) ، وقوله : ( ألا وإنّ الآخرة قد أقبلت ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ) ، وقوله : ( لا تقاتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحقَّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه ) ، وقوله : ( لا تُرَخِّصوا لأنفسكم ، فتذهب بكم الرَخص مذاهب الظلمة ، ولا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعية ... ولا تَحاسدوا ، فإنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النارُ الحطب ، ولا تَباغضوا ، فإنّها الحالقة ) . وقوله : ( فلا يغرنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور ، فإنّما هو ظل ممدود ، إلى أجَل معدود ) ، وقوله : ( فإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا ) ، وقوله : ( عباد الله ، لا تركنُوا إلى جهالتكم ، ولا تنقادوا إلى أهوائكم ) . وقوله : ( لا يؤنِسنّك إلاّ الحقّ ، ولا يوحشنَّك إلاّ الباطل ) ، وقوله : ( فلا تنفروا من الحق نفارَ الصحيح من الأجرب ) ، وقوله : ( فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة ، ولا تتحفّظوا منّي بما يُتحفَّظ به عند أهل البادرة ، ولا تخالطوني بالمصانعة ، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقَّ قيل لي ... فلا تكفّوا عن مقالة بحق ، أو مشورة بعدل ) . ج ومن الاستفهام : قوله : ( أبعد إيماني برسول الله صلّى الله عليه وآله ، وهجرتي معه ، وجهادي في سبيل الله ، أشهد على نفسي بالكفر ؟! لقد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين ) ، وقوله : ( أصبحت والله لا أصدّق قولكم ، ولا أطمع في نصركم ، ولا أُوعد العدوَّ بكم ، ما بالكم ؟ ما دواؤكم ؟ ما طبّكم ؟! القوم رجال أمثالكم ، أقولاً بغير علم ؟ وغفلةً من غير ورع ؟ وطمعاً في غير حق ) ؟! . وقوله : ( أيّها الناس ، إنّ الوفاء توأم الصدق ، ولا أعلم جُنّة أوقى منه ... ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثرُ أهله الغدرَ كيْساً ، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حُسن الحيلة ، ما لهم ؟ قاتلهم الله ! قد يرى الحُوّل القُلَّب وجه الحيلة ، ودونها مانع من أمر الله ونهيه ، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها مَن لا حريجة له في الدين ) . وقوله : ( هل يُحسّ به ملك الموت إذا دخل منزلاً ؟ أم تراه إذا توفّى أحداً ؟ بل كيف يتوفّى الجنين في بطن أمّه ؟ أيلج عليه من بعض جوارحها ؟ أم الروح أجابته بإذن ربّها ؟ أم هو ساكن معه في أحشائها ؟ كيف يصف إلهَه من يعجز عن صفة مخلوق مثله ) ؟! وقوله : ( أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى ، والأبصار اللامحة إلى منازل التقوى ؟ أين القلوب التي وُهِبَت لله ، وعوقدت على طاعة الله ) ؟! د ومن الترجّي : قوله : ( فاسمعوا قولي ، وعُوا منطقي ، عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تُنتضى فيه السيوف ) ، وقوله : ( لعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمّة ) ، وقوله : ( لا تعجل في عيب أحد بذنبه ؛ فلعلّه مغفور له ، ولا تأمن على نفسك صغير معصية ، فلعلّك معذّب عليه ) ، وقوله : ( هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ! ولعل بالحجاز وباليمامة من لا طمع له في القُرص ، ولا عهد له بالشِبع ) . ه ومن التمنّي : قوله : ( يا أشباه الرجال ولا رجال ، لَوددتُ أنّي لم أركم ، ولم أعرفكم ) ، وقوله : ( قد دارستكم الكتاب ، وفاتحتكم الحجّاج ، وعرّفتكم ما أنكرتم ، وسوَّغتكم ما مججتم ، لو كان الأعمى يلحظ ، أو النائم يستيقظ ) . و ومن النداء : قوله : ( أيها الناس ، شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة ... ) ، وقوله : ( فاتقوا الله عباد الله ، وفِرّوا إلى الله من الله ) ، وقوله : ( أيّها الناس المجتمعةُ أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم ، كلامكم يُوهي الصمَّ الصِلاب ، وفعلكم يُطمِعُ فيكم الأعداء ) ، وقوله : ( أيّها الناس ، إنا قد أصبحنا في دهر عنود ، وزمن كنود ) . ز ومن القسَم : قوله : ( والله ما أنكروا عليَّ منكراً ، ولا جعلوا بيني وبينهم نَصَفاً ) ، وقوله : ( أما والله ما أتيتكمُ اختياراً ، ولكن جئت إليكم شوقاً ) ، وقوله : ( ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم ، لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلاّ كلعقةِ لاعق ) ، وقوله : ( أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ... لألقيتُ حبلَها على غاربها ) ، وقوله : ( لعمري ، لو كنا نأتي ما أتيتُم ما قام للدين عمود ، ولا اخضرّ للإيمان عود ... وأيمُ الله ، لتحتلبُنّها دماً ، ولتتبعُنَّها ندماً ) ، وقوله : ( والله لو قتلتم على هذا دجاجة لَعظُم عند الله قتلها ، فكيف بالنفس التي قتلُها عند الله حرام ) ؟! ح ومن التعجّب : قوله : ( سبحانك ما أعظم شأنك ! سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك ! وما أصغر كلّ عظيمة في جنب قدرتك ! وما أهَولَ ما نرى من ملكوتك ! وما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك ! وما أسبغَ نعمَك في الدنيا ، وما أصغرَها في نِعم الآخرة ) ! وقوله : ( استتمّوا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته ، والمجانبة لمعصيته ، فإنّ غداً من اليوم القريب ) ! وقوله : ( ما أسرع الساعات في اليوم ، وأسرع الأيّام في الشهر ، وأسرع الشهور في السنة ، وأسرع السنين في العمر ) ! وقوله : ( فيا عجباً ! عجباً والله يميت القلب ، ويجلب الهمّ من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم ، وتفرّقكم عن حقّكم ) ، وقوله : ( فيا عجباً للدهر إذ صرتُ يُقرنُ بي من لم يَسعَ بقَدَمي ، ولم تكن له كسابقتي ... ) . 6 السجع والترسُّل : قوله في إحدى خطبه : ( فلْيقبل امرؤ كرامة بقبولها ، وليحذر قارعة قبل حلولها ، ولينظر امرؤ في قصير أيّامه ، وقليل مُقامه في منزل حتّى يستبدله به منزلاً ، فليصنع لمتحوّله ، ومعارف منتقله ، فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه ، وتجنّب من يُرديه ، وأصاب سبيل السلامة ببصرِ من بَصَّره ، وطاعة هاد أمره ، وبادر الهُدى قبل أن تُغلق أبوابه ، وتُقطَع أسبابه ، واستفتح التوبة ، وأحاط الحَوبة ، فقد أقيم على الطريق ، وهُدِيَ نهج السبيل ) . وقوله : ( وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله ، أرسله بالدين المشهور ، والقلم بالمأثور ، والكتاب المسطور ، والنورِ الساطع ، والضياء اللامع ، والأمر الصادع ، إزاحة للشبهات ، واحتجاجاً بالبيّنات ، وتحذيراً بالآيات ، وتخويفاً بالمثُلات ، والناس في فتنٍ انجَذمَ فيها حبل الدين ، وتزعزعت سواري اليقين ، واختلف النَجر ، وتشتّت الأمر ، وضاق المخرج ، وعَميَ المصدر ، فالهدى خامل ، والعَمى شامل ) . ومن قوله لما أنكر عليه الخوارج تحكيم الرجال : ( إنّا لم نُحكّم الرجال ، وإنّما حكّمنا القرآن ، هذا القرآن إنّما هو خط مستور بين الدفّتين ، لا ينطق بلسان ، ولابد له من ترجمان ، وإنّما ينطق عنه الرجال ، ولمّا دعانا القوم إلى أن نُحكّم بينا القرآن لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله سبحانه وتعالى ، وقد قال الله تعالى عزّ من قائل : فإنْ تنازْعتُم في شيءٍ فردُّوه إلى الله والرسول ، فردُّه إلى الله أن نحكم بكتابه ، وردُّه إلى الرسول أن نأخذ بسنّته ، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحقُ الناس به ، وإن حكم بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله فنحن أحق الناس وأولاهم بها ، وأمّا قولكم : لمَ جعلتَ بيننا وبينهم أجلاً في التحكيم ؟ فإنّما فعلتُ ذلك ليتبيّن الجاهل ، ويثبت العالم ، ولعل الله أن يُصلح في هذه الهُدنة أمر هذه الأمّة ، ولا تؤخذ بأكظامها ) . وقوله : ( من ترك الجهاد في الله ، وأدهَنَ في أمره ، كان على شفا هُلكه ، إلاّ أن يتداركه الله بنعمة ، فاتقوا الله ، وقاتلوا من حادَّ الله ، وحاول أن يطفئ نوره ، قاتلوا الخاطئين الضالّين القاسطين المجرمين الذين ليسوا بقرّاء للقرآن ، ولا فقهاء في الدين ، ولا علماء في التأويل ، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام ، والله لو وَلّوا عليكم لعملوا فيكم أعمال كسرى وهرقل ، تيسّروا وتهيأوا للمسير إلى عدوّكم من أهل المغرب ، وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة لِيقْدموا عليكم ، فإذا قدموا فاجتمعتم ، شخصنا إن شاء الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ) . 7 التوازن : كثيراً ما تجيء الجُمل في نهج البلاغة متوازنة ، بأن يتساوى عدد كلماتها ، أو تتماثل أوزان نهاياتها ، وهذا ضرب آخر من موسيقى التعبير ، ويحبّب إلى السمع ، ويقرّبُه إلى الذوق . ومن الموازنة قول الإمام علي ( عليه السلام ) : ( لم يَؤدْه خلقُ ما ابتدأ ، ولا تدبير ما ذرأ ، ولا وقفَ به عجزٌ عمّا خلق ، ولا ولَجت عليه شبهة فيما قضى وقدّر ، بل قضاء متقن ، وعلم مُحكم ، وأمر مبرم ) ، وقوله : ( إنّ غاية تنقصها اللحظة ، وتهدمها الساعة ، لجديرة بقِصر المدّة ، وإن غائباً يَحْدره الجديدان الليل والنهار ، لحريّ بسرعة الأوبة ، وإنّ قادمة يقدم بالفوز أو الشِقوة ، لمستحق لأفضل العدّة ، فيا لها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجّة ، وأن تؤدّيه أيّامه إلى الشِقوة ! نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإيّاكم ممّن لا تُبطره النعمة ، ولا تُقصِّر به عن طاعة ربّه غاية ، ولا تحلُّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة ) . وكذلك قوله : ( إنّ الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا ، ويشتد حزنهم وإن فرحوا ، ويكثر مقتهم أنفسَهم وإن اغتبطوا بما رُزقوا ) . وقد يجيء التوازن في داخل الجمل لا في نهاياتها ، فيؤلف انسجاماً في نطق الكلمات وفي سماعها ، مثل قوله : ( الحمد لله غيرِ مقنوط من رحمته ، ولا مخلوّ من نعمته ، ولا ميؤوس من مغفرته ، ولا مستنكَف عن عبادته ، الذي لا تبرح منه رحمة ، ولا تُفقَد له نعمة ) ، فإنّ هنا موازنةً بين مقنوط ومخلوّ وميؤوس . 8 الجناس ، الطباق ، والمقابلة ، والتوشع : كما استعرض الدكتور الحوفي أمثلة عديدة عن الخيال البياني في خطب الإمام علي بن أبي طالب ورسائله وما تعتمده من التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز وهي عُدّة الشاعر والخطيب والكاتب ، التي برع فيها الإمام علي براعة منقطعة النظير ، في شتّى شؤون المعرفة ، والعقل ، والنفس ، وفي مختلف قضايا البشر ، والدين والدنيا . مزيّة خاصّة : إنّ نهج البلاغة كما يقول ابن أبي الحديد إذا تأمّلته : ( وجدتَه كلَّه ماءً واحداً ، ونَفَساً واحداً ، وأسلوباً واحداً ، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية ) وهو في عظمته الأسلوبية يحتوي على عبقرية الحُسن اللفظي ، تلك العبقرية التي تتمثّل في علاقة اللفظة بالأخرى ، والتي تَرِد في خطب ، وفقرات ممتازة التميّز ، تأخذ فيها اللفظة بعنق قرينتها ، جاذبة إيّاها إلى نفسها ، دالّة عليها بذاتها . وذلك باعتراف جعفر بن يحيى ، الذي كان من أبلغ الناس وأفصحهم ، كما رأى الجاحظ ، قال الجاحظ : حدّثني ثمامة قال : سمعت جعفر بن يحيى يقول : الكتابة بضم اللفظة إلى أختها ، ألم تسمعوا قول شاعر لشاعر وقد تفاخر : أنا أشعر منك ، لأنّي أقول البيت وأخاه ، وأنت تقول البيت وابنَ عمّه . ثمّ وناهيك حسناً بقول علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ( هل من مناص أو خلاص ، أو معاذٍ أو ملاذ ، أو فرار أو محار ) . قال أبو عثمان الجاحظ : وكان جعفر يُعجَب أيضاً بقول الإمام علي ( عليه السلام ) : ( أين من جدّ واجتهد ، وجمع واحتشد ، وبنى فشيّد ، وفرش فمهّد ، وزخرف فنجّد ) ؟! قال : ألا ترى أنّ كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها ، جاذبةٌ إيّاها إلى نفسها ، دالّة عليها لذاتها . وقد روى هذا كلَّه أيضاً ابن مسكويه في كتابه ( الحكمة الخالدة ) بأسلوب آخر عن جعفر بن يحيى ، والفقرات التي حكى الجاحظ إعجاب جعفر بن يحيى بها ، وهي ( هل من مناص أو خلاص ... الخ ) هي من بعض فصول هذه الخطبة . أمّا الفقرات التي اُعجب بها جعفر وهي ( أين من جد واجتهد ... الخ ) فهي من خطبة أخرى ذكرها ابن عبد ربّه في العِقد الفريد . وأوّلها : ( أوصيكم عبادَ الله ونفسي بتقوى الله ولزوم طاعته ، وبتقديم العمل ، وترك الأمل ، فإنّه من فرَّط في عمله ، لم ينتفع بشيء من أمله ) . النص الوصفي : إنّ ذكاء الإمام علي بن أبي طالب النادر ، كان يستعين بذاكرة قوّية ، وقدرة هائلة على اختزان صور الناس والطبيعة ، وأخبار البشر ، وأوصاف الأشياء ، وكانت دقّة ملاحظته تجعله محيطاً إحاطة مدهشة ، بسمات الشيء الباطنة ، قبل الظاهرة . وبفعل ذلك ، كان وصفُه يتغلغل إلى عمق الظاهرة أو الصفة ، كما يتسع ليربط الظاهرة بالأخرى ، والصفة بالأخرى ، ليقدّم رؤية شاملة ، تضع الجزئي في موضعه الحقيقي ضمن العام ، وتضع البعض ضمن الكل ، وبما أنّ أبلغ وصف هو ذلك الذي ينقل الصور البليغة للأشياء ويعكسها بأجمل تعبير ، وأقوى إيحاء ، وأدق وصف ، وأجلى تعبير ، فإنّ سحر البيان الذي أوتيَهُ علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كان يجعل من عملية الانعكاس الوصفي قِطعاً فريدة من النصوص الوصفية التي تفخر بها العربية . ومثل شأن الإمام علي ( عليه السلام ) في معرفته بالعلوم اللغوية ، والفقهية ، والشرعية ، والعسكرية ، كانت الفنون الأسلوبية المميِّزة لقدرته البلاغية ، والمجسِّدة لفكره الثاقب ، تجعله مبدعاً في ميادين الأساليب المتعددة ، فهو يقدّم النص الوصفي بالقدرة الرائعة ، التي يقدم بها النص السياسي ، أو الفقهي ، أو الأخلاقي . ورغم أن وصف الأشياء يتصّل اتصالاً دقيقاً بعملية انعكاس الأشياء نفسها في الذهن ، إلاّ أنّ طبيعة النفس المرهفة ، والعقل النيّر ، تجعل من عملية الانعكاس إعادة خلق صوري للموصوف ، فيصبح الموصوف في الصورة البلاغية يشبه الحقيقة الملموسة للشيء الموصوف ، ويتجاوزه بالجمالية الممنوحة إليه من داخل كلمات النص . إنّ أمير المؤمنين علياً بن أبي طالب كان يستنطق الصفات ، واهباً إيّاها المقدرة على أن تستعرض نفسها بشفّافية أكثر . لقد تميّز بقوّة ملاحظة نادرة ، ثمّ بذاكرة واعية تخزن وتتّسع ، فتيسرت له من ذلك جميعاً عناصر قوية تغذّي فكره ، وتقوّي خياله ، فتسهل عليه محاكمة الأشياء والمقارنة بين عناصرها لإثبات أرجحها وأفضلها للبقاء والتعميم . وحديثه عن الطبيعة بمظاهرها الحيّة بما يتخلّلها من قواعد ونواميس حياتية ، وما يحكمها من إرادة خفيّة دقيقة التنظيم والصنع ، وكلامه عن السَحاب والزرع والحيوانات المختلفة المتباينة كالخفاش والطاووس والنملة ، وتحليله الأوضاع الاجتماعية والغرائز الإنسانية ، يعتبر في ذروة أنموذج التفكير العلمي المبدع المبني على دقّة الملاحظة والإدراك الواعي ، وهو بذلك كما يقول العقّاد : تلميذ ربّه جلَّ وعلا . قال في وصف النملة : ( انظروا إلى النملة في صغر جثّتها ولطافة هيئتها ، لا تكاد تُنال بلحظ البصر ، ولا بمستدقّ الفِكَر ، وكيف دبّت على أرضها وحبَت على رزقها ! تنقل الحبّة إلى حُجرها وتَعُدها في مستقرّها ، وتجمع في حرّها لبردها ، وفي ورودها لصَدَرها ، مكفولة برزقها ، مرزوقة بوِفْقها ، لا يُغفلها المنّان ، ولا يحرمها الديّان ، ولو في الصفا الحجر الجامس ، ولو فكّرتَ في مجاري أكلها ، وفي عُلوها وسُفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها وأذنها ، لقضيتَ من خَلْقها عَجباً ، ولقيت من وصفها تعباً ، ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلاّ على أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة ، لدقيق تفصيل كل شيء ، وغامض اختلاف كل حي ) . وقال يصف الخفّاش : ( ومن لطائف صنعته ، وعجائب حكمته ، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء ، ويبسطها الظلام القابض لكل حي ؛ وكيف عشِيتْ أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها ، وتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها ، ورَدَعها تلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها ، وأكنّها في مكامنها عن الذهاب في بلج ائتلاقها ؟! فهي مُسدلة الجفون في النهار عن أحداقها ، وجاعلة الليل سراجاً تستدلّ به في التماس أرزاقها ، فلا يردُّ أبصارَها إسداف ظلمته ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دُجنته ، فإذا ألقت الشمس قناعها وبدت أوضاح نهارها ، ودخل من إشراق نورها على الضِباب في وجارها ، أطبقت الأجفان على مآقيها ، وتبلّغت بما اكتسبت من فيء ظلَم لياليها ، فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً ، والنهار سكناً وقراراً ، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرجُ بها عند الحاجة إلى الطيران ، كأنّها شظايا الآذان غير ذوات ريش ولا قصب ، إلاّ أنّك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاماً لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا ، ولم يغلظا فيثقلا ؛ وولدها لاصقٌ بها لاجئ إليها ، يقع إذا وقعت ، ويرتفع إذا ارتفعت ، لا يفارقها حتّى تشتد أركانه ، ويحمله للنهوض جناحه ، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه ، فسبحان الباري لكل شيء على غير مثال خلا من غيره ) . وقال يصف الجرادة : ( وإن شئتَ قلتُ في الجرادة ، سإذ خلق الله لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين ، وجعل لها السمع الخفي ، وفتح لها الفم السوي ، وجعل لها الحس القوي ، وبابين بهما تقرِض ، ومنجلين بهما تقبض ، يرهبها الزُرّاعُ في زرعهم ، ولا يستطيعون ذبَّها ولو أجلبوا بجمْعهم ، حتّى ترد الحرثَ في نزواتها ، وتقضي منه شهواتها ، وخَلْقُها كلّه لا يكون إصبعاً مستدقة ) . وقال في وصفه للطاووس : ( يمشي مشي المَرِح المختال ، ويتصفّح ذنَبه وجناحيه ، فيقهقه ضاحكاً لجمال سِرباله وأصابيغ وِشاحه ، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا مُعْولاً ... وقد نجمت عن ظُنبوب ساقه صِيصيةٌ خفية ، وله في موضع العُرف قُنْزُعة خضراء موشاة ، ومخرج عنقه كالإبريق ، ومغْرَزُها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية ، أو كحريرة ملبَّسة مرآة ذات صقال ) . وقال ينفي زعم من يقول : إنّ الطاووس يلقح أنثاه بدمعة تذرفها عينه ، فتشربها أنثاه فتحمل : ( ولو كان كزعم من يزعم أنّه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه ، فتقف في ضفتَي جفونه ، وأنّ أنثاه تطْعم لذلك ، ثمّ تبيض لا من لقاحِ فحلٍ سوى الدمع المنبجس ، لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب ) . وقال ردّاً على زعم أنّ الأرض تدور على قرن ثور : ( وأنشأ الأرضَ فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها على غير قرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ) . وقال في تكوين الجبال : ( وجبل جلاميدها ، ونشوز متونها وأطوادها ، فأرساها في مراسيها ، وألزمها قراراتها ، فمضت رؤوسها في الهواء ، ورست أصولها في الماء ، فأنهدَ جبالها عن سهولها ، وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها ، فأشهق قلالها ، وأطال أنشازها ، وجعلها للأرض عماداً ، أرزّها فيها ( أي ثبّتها ) أوتاداً ، فسكنت على حركتها ( أي رغم حركتها ) عن أن تميد بأهلها ، أو تسيخ بحملها ، أو تزول عن مواضعها ) . خاتمة : إنّ النص النثري للإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، اكتسب فوائد عظمى من الثقافة القرآنية له ( عليه السلام ) في المضمون وفي الشكل ، وكان كثير الاستشهاد بالقرآن الكريم وبالحديث النبوي ، وكان كثير الاستشهاد بالشعر ، لأنّه كان شاعراً بطبيعته ، وفي ذلك يقول العقّاد : وعندي أنّه رضي الله عنه كان ينظم الشعر ويحسن النظر فيه ، وكان نقده للشعراء نقدَ عليم بصير ، يعرف اختلاف مذاهب القول واختلاف وجوه المقابلة والتفضيل على حسب المذاهب ، ومِن بصره بوجوه المقابلة بينهم أنّه سُئل : مَن أشعر الناس ؟ قال : إنّ القوم لم يَجْروا في حلقة تُعرف الغاية عند قَصَبتها ، فإن كان لابدّ فالملِك الضِليل . وهذا فيما نعتقد أوّل تقسيم لمقاييس الشعر على حسب المدارس والأغراض الشعرية بين العرب ، فلا تكون المقابلة إلاّ بين أشباه وأمثال ، ولا يكون التعميم بالتفضيل إلاّ على التغليب . ومن أمثلة استشهاده بالشعر ما جاء في قوله بعد خديعة التحكيم : ( وقد كنتُ أمرتكم في هذه الحكومة أمري ، ونخلْتُ لكم مخزون رأيي ، لو كان يُطاع لقصيرٍ أمر ، فأبيتم علَيّ إباء المخالفين الجفاة ، والمنابذين العُصاة ، حتّى ارتاب الناصح بنُصحه ، وضنَّ الزَّنْدُ بقدحه ، فكنتُ أنا وإيّاكم كما قال أخو هوازن: أمرتكمُ أمري بُمنعَرج اللِّوى ** فلم تستبينوا النصحَ إلاّ ضُحى الغدِ ) . وجاء في خطبته وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد ، استشهاده بقول الشاعر : لَعمرُ أبيك الخيرِ يا عمرُو إنّني ** على وَضَرٍ من ذا الإناء قليلِ وبقول أبي جندب الهذلي : هنالك لو دعوتَ أتاكَ منهم ** فوارسُ مثلُ أرميةِ الحميمِ وختم خطبته عند مسيره للقتال في البصرة بقوله : ( والله ما تنقم منّا قريش إلاّ أنّ الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حيِّزنا ، فكانوا كما قال الأوّل : أدمتَ لعمري شُربكَ المحضَ صابحاً ** وأكلكَ بالزُبْدِ المقَشَّرَةَ البُجرا ونحنُ وهبناك العلاء ولم تكن ** عليّاً وحُطْنا حولك الجرْدَ والسُمْرا ومن هذا كتابه إلى معاوية : ( أمّا بعد ، فإنّك قد ذُقت ضرّاء الحرب وأذَقْتَها ، وإنّي عارضٌ عليك ما عرضَ المخارق على بني فالج : أيا راكباً إمّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ** بني فالج حيث استقرّ قرارُها هلمّوا إلينا لا تكونوا كأنكم ** بلاقعُ أرضٍ طار عنها غبارُها سليمُ بن منصور أُناس بحرةٍ ** وأرضهمُ أرضٌ كثيرٌ وِبارُها ) . ومن استشهاداته الشعرية : شتانَ ما يومي على كورها ** ويومُ حيّانَ أخي جابرِ وتمثّله بقول امرئ القيس : ودع عنك نهباً صِيح في حُجراته ** وهاتِ حديثاً ما حديث الرواحلِ وكذلك : ( وعيَّرها الواشون أنّي أحبّها ) ** وتلك شكاةُ ظاهرٌ عنك عارُها والشطرة التي بين قوسين لم يذكرها الإمام ( عليه السلام ) وإنّما هي تتمّة البيت . وقوله : ( وكم سقتُ في آثاركم من نصيحة ) ** وقد يستفيد الظِّنةَ المُتنصِّحُ وقوله : لبّثْ قليلاً يلحقُ الهيجا حَمَلْ ** ( لا بأسَ بالموتِ إذا الموتُ نزلْ ) كذلك : قال أخو بني سليم : فإن تسأليني كيف أنتَ فإنني ** صبورٌ على ريب الزمان صليبُ يعزُّ علَيَّ أن تُرى بي كآبةٌ ** فيشمتُ عادٍ أو يُساءُ حبيبُ ومن كتاب له إلى عثمان بن حُنيف الأنصاري : وحسبُكَ داءً أن تبيتَ ببطنةٍ ** وحولَك أكبادٌ تحنّ إلى القِدِّ وقال يذكر ما قاله أخو بني أسد : مُستقبِلين رياحَ الصيف تضربهم ** بحاصب بين أغوارٍ وجُلمودِ إنّ الشعر يتخلّل خطب الإمام علي بن أبي طالب ورسائلَه وأحاديثه ، لكنّ عظمة نثره ظلّت آيةً من آيات الأدب والحكمة والمعرفة ، تفيض كنوزها بالتلقّي ، فتزدادُ ثراء وتألّقاً. وصدق إذ قال : ( وإنّا لأُمراء الكلام ، وفينا تنشّبت عروقه ، وعلينا تهدلّت غصونه ) . نقلا عن المصدر موقع سلام مكة موقع الدكتورة هيفاء عثمان عباس الفدا ( جامعة ام القرى )