كرقعة من المكعبات حياتي.. مكتملة, جميلة, وما طرأ عليها من جديد ليس حالة مكانية, فلست أشكو فيها فراغاً.. بل لعلّه حالة روحية.. ضوء يشرق على زاوية كانت العتمة قد لفّتها لبعض الوقت, أو تبرير أقنع به عقلي بأن ما يجري الآن منطقي. كانت البداية عادية, دقائق مرّت ثم افترقنا.. لكنني أحسست به يداً ناعمة هادئة راحت تزيح غباراً متراكماً في تلك الزاوية من روحي, فأشرق داخلي, وإذا نوافذ ذاتي المكبوتة تفتح للنور القادم. أذكرها تلك البداية. يا لتلك الدقائق كيف نمتْ مدناً! كيف تحوّلت فندقاً وددتُ لو أقضي فيه بقية عمري! في غفوة من الزحام جاءني صوته زائراً ومطرقة الإلحاح في يده, يصوغ من عمر الدقائق مفتاحاً سريّاً لقلبٍ منتشٍ بحمى الإغلاق.. وكان البدء.. فأزهرت براعم الصمت, وأورقت بساتين البوح. أخيراً وقعتِ في المصيدة يا صغيرتي.. همس عقلي ممتعضاً. -وهل أتيت إثماً؟ أحبّه.. هكذا بكل بساطة. أجبت نفسي. هزّ عقلي كتفيه ساخراً: -أنتِ تحبّين؟! لماذا؟! ولماذا هو؟! -هو.. بلى هو.. لأنه عالم لكلّ رغباتي المجنونة, لأنه فضاء لفوضى الإبداع في داخلي.. وكم تعجبني تلك الفوضى! أنت تدرك جيداً.. تعلم كم أحبّ أن أرى الأشياء دون قيد إلى المكان, لأعيد ترتيبها حسب إبداعات تلك اللحظة.. ف|إن دهمني شعور غريب آخر, أبعثرها وأعيد تشكيلها من جديد. تعلم كم أعجب ممن لا يرى في الأشياء إلا ذواتها ضمن حدودها وأشكالها التي باتت نهائيةز اتظنذه جنوناً أم رغبة في الخلق؟ صمت برهة ثم أضاف متعجباً: -ولكن أنتِ!! عرفتك دوماً متعالية تقدّسين حريتك.. تعتزين بكونك أنثى, فكيف تتنازلين بهذه السهولة؟! لم يكن عقلي مخطئاً, لكنني أحببته بشكل مختلف عن أي مألوف بين رجل وامرأة. كانت نبرات صوته آيات وحيّ تبشّر بكون جديد, ودين جديد, يحطّم كلّ أوثاني. كان صوته ساحراً يجدل الأثير بساط ريح يحملني إلى عوالم أخرى. كان سرباً من الألوان.. وهذا العنف الهادئ الساكن فيه, يحرّك فيّ زوابع شتاء لم تعصف بأشجاري ذات مرة! فإذا أغصاني تتواطأ معه, تتمايل باتجاه رياحه, لتفجّر قوة الخلق الكامنة فيها. أحبّه كما أحب لغتي, سلسلة لا متناهية من احتمالات التعبير.. أحبّه مداداً تدفق في شرايين قلمي الظامئ... أحبّه... قاطعني قائلاً: -حسنٌ.. أتعتقدين أنه حبٌّ من نوع خاص؟ حبّ أرقى؟ -إنه كذلك. منذ البداية كنتَ صامتاً راضياً. كان يعجبك. يخاطبك بكل ذكاء, أما وقد بدأ يأسر عواطفي, فقد انتفضت معترضاً! ألا تظن نفسك انانياً؟! شعرتُ بهي نزجّ داخل جمجمتي كهيولى مضغوطة, تبحث عن ثغر لتندفع خارجه.. فرحت أهدهده علّه يرتاح قليلاً. وخطر لي أن أهرب منه, لكنه يسكنني كشبح.. يحركني كشيطان يعتقل كل حركة وكل كلمة. اللعنة.. فأنا من سعى إلى جعله ناضجاً ملمّاً بالكثير, فبات رقيباً أحاول عبثاً فك قيوده عن وجودي. غلبني إحساس بالحنان نحوه, فرحت أعتني به لينقاد لي كطفل أغريه بقطع السكر, لكنّه سرعان ما يثور ويرمي في وجهي كل تفاهتي وسطحيتي.. يجلدني ويرجمني.. فكيف اتخلص منه عقلي هذاظ ومن يشتري همّاً من صاحبه؟! يخيّل إليّ أحياناً أنني أختزل في عقلي عالماً يحمل كل القيم والمبادئ والأفكار والرغبات والأحلام فأبدو خيراً جمّاً, وقد أتحوّل شراً مخنوقاً كجمر يتقد تحت الرماد, وإذا بي خليط منسجم من ذلك كلّه بنسب محددة لأكون في النهاية أنا ودون أن أشبه أحداً. هذا الطفل العابث- عقلي المتمرد- يعلم منطق الواقع لأنهم حقنوه بجرعة سامة عن الحبّ والعاطفة, فالحبّ حرام والعاطفة ضعف.. والمرأة الرزينة العاقلة لا تسمح لعواطفها بالتسلط عليها, بل تترك للعقل أن يقود خطواتها إلى شاطئ الأمان. -يا عقلي العزيز كان الأحرى بك أن تشاركني فرحتي, لأنني معه- ودون غيره- شعرت بالمخلوق المفكر في نفسي, وأنني حين أحببته لم أتعرض للهزيمة. قبله كنت مثل طائر في غرفة زجاجية, يرى العالم من وراء جدرانها, فيخال نفسه حراً, وحين يفرد أجنحته محاولاً التحليق, كان يرى في الجدران ألف إشارة حمراء تعلن غضبها.. شفافية تبدي الفضاء, لكنها ليست فضاء.. فيتعب قلبه وينكفئ على نفسه لا حول ولا قوة. معه شعرت أنني وأنه قوة الخلق اللازمة لاستمرار الكون! -أحبّه لأنذه يرى فيّ عشتار أخرى.. ولأنني أرى فيه رجل آثار ينقّب بحثاً عن مملكة ضائعة ليُنطق حجارة صمتي حضارة. لمحت ابتسامة مضيئة على ثغره فبدا أكثر ألقاً -كنت أختبر قدرتي على استفزازك.. وأرى إلى أي عمق وصل غوّاصك الساحر.