«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شاي الساعة الخامسة
نشر في شموس يوم 11 - 07 - 2014

حينما افترقنا ذلك اليوم علي وعد بلقاء علي شاي الساعة الخامسة كنا نفهم الوعد جيدا ، وإن أساء الآخرون تفسيره .. لم نكن نتواعد علي لقاء سيتم قبل عشرين عاما لاحقة علي الأقل .. لكن مدة زمنية أكبر من ذلك كانت تقبع في الطريق أمامنا لتفرق بيننا .. لكننا فعلناها في النهاية علي أية حال .. التقينا علي الشاي في تمام الساعة الخامسة بالضبط .. وإن كنا قد صرنا جد مختلفين ، لا زلنا صديقين حميمين .. لكن أحدنا حي .. والآخر مشكوك في أمره !
.................................
سأرحل إلي المستعمرات يا تيدي !
تلك كانت الجملة العابرة التي بدأت بها القصة كلها .. عبارة قصيرة مقتضبة لكنها كانت غريبة كذلك .. من كان يفكر بإمكانية حدوث شيء كهذا ؟!
صعب أن أصدق أنه ينوي أن يهجر الوطن .. لكنه أكد لي عزمه هذا بطريقة عملية للغاية .. في صباح يوم وجدته أمام بابي ومعه حقائب كثيرة مكدسة حتى أعنتها بالأمتعة ، ومغلقة بطريقة سحرية يجعلها تقبل أن تقفل وهي بهذا الشكل المنبعج الذي يشبه الكرش البشري .. كان مرتديا لثيابه الكاملة والسيجار يتدلي من فمه :
" " برادلي " .. إنني ذاهب إلي الميناء ! "
فركت عيني غير مصدق :
" ماذا ؟! "
كرر وهو ينزع السيجار من فمه :
" إنني ذاهب إلي الميناء .. هل ترغب في توديعي ؟! "
" لماذا ؟! لماذا تذهب إلي الميناء ؟! "
رد وهو يضحك بطريقته الهادئة :
" لأنني سأستقل سفينة صاحب الجلالة جورج الثالث المتجهة إلي الهند ! "
" آوه .. ألكسندر لا يمكنك .. "
لم يعطني الفرصة لإكمال اعتراضي المنطقي :
" هل أنت راغب في توديعي ؟! ثمة من ينتظرون حضوري في كيرالا * لنبدأ العمل .. ليس هناك عمل لي في إنجلترا بعد ذلك .. أنتهي ! "
تنفست بعمق واستسلام .. طلبت منه الدخول فتردد لأنه كان يخشي علي حقائبه المكدسة :
" أين خادمك ؟! "
سألته فأجاب قائلا :
" ينتظر في العربة "
" حسنا جدا .. "
ناديت خادمي ليحفظ حقائب السيد ليطمئن باله وليقبل بالدخول ..
وبعد أن أطمئن إلي أن حقائبه في الحفظ دخل خلفي إلي البيت :
" أقعد ! "
قلت ففتح سترته المزررة وجلس علي الفور :
" ما معني هذا ؟! "
سألته فضحك وأجاب :
" هذا يعني أنني سأغادر إلي الهند اليوم ! "
نفخت بضيق :
" لكن فكر جيدا بأمرك ولا تتسرع .. إن هذا يعني أننا لن نلتقي مرة أخري ! "
ضحك وقال باستهانة :
" لماذا ؟! إنني ذاهب إلي الهند وليس إلي القمر ! "
" لكن فكر .. الهند هذه بعيدة جدا .. كيف بوسعنا أن نري بعضنا بعد ذلك ؟! "
فكر قليلا ثم قال بثقة :
" لا شيء بوسعه أن يمنع لقاء صديقين عزيزين ! "
كان يتحدث بإخلاص وثقة ، لكنه بدا لي طفل غرير يتكلم ببراءة عن أمر لا يعرفه :
" فكر جيدا إنها الهند ! "
تنهد وبدا لي أنه حري بقليل من الضغط أن يتراجع عن موقفه لكنني كنت مخطأ فيما يبدو فقد بدأ في اللحظة التالية يعرض أغرب فكرة سمعت عنها بحياتي :
" أسمع أنا أقول لك أنه ما من شيء يقدر علي التفريق بين صديقين عزيزين .. وسأثبت لك ذلك عمليا ! ما رأيك لو ضربنا موعدنا نلتقي فيه .. "
قاطعته بحيرة :
" موعد ؟ ماذا تقصد ؟! "
بفرحة كفرحة طفل بقطعة حلوي قال :
" أعني أننا سنتفق علي ميعاد نلتقي فيه .. ما رأيك في موعد علي الشاي الساعة الخامسة ؟! "
" لا أفهم .. ما الذي تتحدث عنه بالضبط .. إنك ذاهب إلي الهند ؟! "
" نعم .. لكننا سنلتقي رغم ذلك ! سنتقابل علي مائدة الشاي وفي الساعة الخامسة تماما .. ما رأيك ؟! "
" متى ؟! متى وكيف سنلتقي وأنت ستستقل سفينتك بعد قليل ؟! "
" ولكننا سنلتقي رغم ذلك .. بعد عشرين عاما من الآن ! "
أحسست بلسعة حرارة في جوفي فنهضت واقفا :
" ماذا ؟! بعد كم ؟! "
ابتسم ونهض بدوره :
" بعد عشرين عاما من الآن بالضبط ! "
وكأنه يتكلم إلي مجنون ألقي جملته السخيفة ومد إلي يده مصافحا وقال بينما هو يهز يدي بحرارة وأنا مستسلم ومذهول :
" اتفقنا إذن ؟! عشرون عاما بالدقيقة .. ولن يتغير موعدنا إلا في حالة واحدة ! "
ترك يدي ثم أرتدي قبعته وهم بالانصراف فسألته وأنا أتبعه إلي الباب :
" لماذا لم تترك حقائبك في العربة ؟! "
أجاب دون أن يستدير نحوي :
" لأن خادمي لص قديم وأنا أعرف ذلك وأتجاهله .. المهم أننا اتفقنا ! "
تبعته حتى أصبحنا أمام الباب مباشرة فمد يديه ليفتحه ثم استدار نحوي قائلا :
" بالمناسبة .. لم تسألني ما هي الحالة الوحيدة التي سيتغير فيها موعدنا المحدد ! "
لم أكن قد فكرت في تلك النقطة بالفعل فأنا أعتبر الأمر كله هراء وعبثا :
" ماذا ؟! "
ابتسم بغرابة وهتف وعيناه تلمعان :
" الموت ؟! "
سألته وقد فاجأني جوابه المخيف :
" ماذا ؟! "
" الموت ! سنلتقي بعد عشرون عاما إذا بقي كلانا علي قيد الحياة .. أما إذا أنتقل أحدنا إلي العالم الآخر فسيتغير موعدنا ! "
لم أكن قد فهمته تماما فقلت بلا وعي :
" طبعا طبعا .. ستكون بخير ! "
" لا أنت لم تفهمني جيدا بعد .. موعدنا لن يلغي أبدا تحت أي ظرف من الظروف .. لكن في حالة الموت فسيتحتم علي من يموت أولا أن يأتي للقاء صديقه قبل أن يذهب نهائيا ! "
أصابني الرعب وجف حلقي :
" ماذا تقول .. أنت تهذي يا عزيزي ! "
بثقة رد :
" لا .. إنني بخير حال .. هاك هو اتفاقنا للمرة الأخيرة حتى لا تنساه .. سنلتقي بعد عشرين عاما أحياء كنا أم أمواتا .. لكن يجب أن نحدد مسبقا عندك أم عندي ؟! "
أجفلت وتصبب العرق مني فحاولت السيطرة علي نفسي أما هو فقد سألني ثانية :
" عندك أم عندي ؟! "
فهمت ما يقصد فقلت متلعثما :
" عندك .. لا أقصد عندي عندي ! "
ابتسم وصافحني وقبل خدي برقة :
" إلي اللقاء يا صديقي .. حتى يجمعنا الموت أو تفرقنا الحياة ! "
ذهب بعد أن حمل له خدمي الحقائب وأوصلوه حتى عربته .. غادر إنجلترا بعد ذلك بساعات ولم أعد أسمع شيء عن أخباره ..
مرت سنوات طوال وكبر أطفال وتروج بعضهم وذهب ليعيش بعيدا عني .. بينما بقي الصغير " بيتر " برفقتي .. ولم يعد هناك في البيت الكبير سوانا أنا وهو والخدم ، بعد رحيل زوجتي المبكر ، وكدت أنسي صديقي المهاجر إلي الهند .. كاد يتبخر من ذاكرتي رغم تذكري لوعده وإخلاصي لاتفاقنا ، الذي كنت لا أزال أعتقد أنه محض هراء .. لكن كل شيء تغير في ذات ليلة من ليالي الشتاء الباردة !
...
دقت الساعة معلنة الخامسة تماما فوجف قلبي وأرتعش .. كانت قد مضت عشرون عاما بالضبط علي تلك الليلة التي جاءني فيها حاملا حقائبه ومعلنا قراره بالسفر إلي الهند .. لقد انتظرته طوال تلك السنوات وظللت مخلصا لاتفاقنا وموعدنا .. ورتبت كل شيء في الموعد المحدد رغم علمي أنه لن يأتي علي وجه اليقين !
هل روادكم الظن بأنني قد تناسيت صديقي كل تلك السنوات وتركت ذكراه عالقة في ركن من عقلي وأغلقت عليها ؟!
لا تكون مخطئ في ظنك هذا .. فأنا لم أنسي " ألكسندر " للحظة واحدة .. فبعد رحيله ببضعة أشهر بدأت أتحري عنه بواسطة بعض الأصدقاء في ( كيرالا ) الهندية لكن أحدا ما لم يسمع بوصوله إلي هناك مطلقا .. أصابني الغم لكنني لم أيأس ، قررت ألا أفعل ، وبدأت أبحث عنه بالمراسلات في سائر أنحاء الهند لكن النتيجة كانت في النهاية واحدة .. لم يصل السيد الذي يحمل اسم " ألكسندر بيليم " إلي المستعمرة الهندية قط !
كانت تحرياتي في تلك الفترة منصبة علي السلامة لا الندامة وكنت معتقدا أنه ربما ، أملت في هذا ، قد وصل سالما إلي الهند فعلا لكنه أختار لإقامته مدينة أخري لا أعرفها .. ولما أعيتني الحيلة لجأت إلي وزير المستعمرات البريطانية نفسه ، وكان في إجازة قصيرة بلندن لحسن حظي ، ورجوته أن يستخدم نفوذه في الكشف عن مصير صديقي بواسطة الجهاز البيروقراطي الشديد التنظيم الذي تحت يديه .. أعطيته كافة البيانات المتعلقة بصديقي واسم السفينة التي أقلع عليها .. لكنه عندما سمع اسم السفينة التي أبحر عليها أنهي المناقشة بضربة قضت علي ما بقي لدي من أمل وثقة :
" لا أعتقد أنه وصل إلي الهند أو إلي مستعمرة أخري سواها ! "
قال اللورد " تشمبرلين " * وهو يمسح شفتيه بأناقة :
" لماذا يا سيدي ؟! "
سألته متوجسا فسكت فترة طويلة راودتني خلالها أكثر الأخيلة جنونا وإثارة للفزع :
" ربما .. لا أعرف كيف أقول لك هذا .. لكنني أعتقد أنك لم تسمع بتاتا بالأمر ويتحتم علي أحد ما أن يخبرك لينتهي ذلك الانتظار الطويل .. "
ألقي جمله الغير صريحة هذه ثم طعنني بمزيد من الصمت المؤلم .. وأخيرا تكلم قاضيا علي آمالي ومحطما جزءا مهما من قلبي :
" لقد غرقت سفينة صاحب الجلالة جورج الثالث قبل وصولها إلي الهند .. ويتحتم علي أن أقول ويؤسفني أن أجدني مضطرا للتصريح بتلك الحقيقة التي لا شك أنها مؤلمة لك : لقد غرق جميع من كانوا علي متن السفينة ولم ينجو منهم أحد ! "
ضربتني صاعقة في قلبي فأغمضت عيني منتظرا أن يزول الغيم الذي تكاثف علي بصري :
" إنني أعتذر يا سيدي إذا كنت قد سببت لك صدمة مريعة .. إنني أقدر مدي ما تحس به الآن .."
" شكرا .. شكرا لك ! "
حملت قبعتي وانصرفت دون أن أجد الشجاعة الكافية لألقي نظرة أخري علي وجه اللورد حامل أنباء الشؤم لي !
...
عدت لمنزلي محطما مكسور النفس .. لقد مات إذن وأختفي من الوجود !
أنتهي موعدنا وألغي بضربة من ضربات القدر .. لكنني عزمت علي أن أنتظر رغم كل ذلك !
مرت سنوات طوال وعندما حان موعدنا .. انتظرته !
طلبت أدوات الشاي وفي الساعة الخامسة بالضبط كنت في الغرفة المخصصة للشاي في بيتي ، بكامل ملابسي وهندامي .. الصينية والبسكويت أمامي وعصاتي في يدي .. إنه لن يحضر ، أعرف ، لكن الوفاء هو الوفاء والموعد هو الموعد !
دخل ابني " بيتر " فوجدني علي تلك الحالة مسندا ذقني إلي عصاي وذهني سارح في أرجاء بعيدة .. بالقرب من ساحل الهند حيث غرقت السفينة منذ سنوات طويلة وغرق معها " ألكسندر " !
رآني ولدي في تلك الحالة المزرية ، وكان علي علم بكل شيء فيما يخص اتفاقي مع صديقي المرحوم منذ زمن طويل ، فأشفق علي فيما يبدو :
" أبي .. "
هتف " بيتر " وهو يلمس يدي برقة فأفقت وأجبته مطمئنا :
" نعم يا " بيتر " "
ربت طفلي علي كتفي وقال لي مواسيا برقة ، فقد كان يعرف أصل الحكاية كلها :
" لماذا تبقي هنا بمفردك .. لقد خيم المساء ! "
نظرت إليه بذعر :
" إنها الخامسة فحسب يا ولدي ؟! "
ابتسم بحنان وهتف :
" إنها الحادية عشرة مساء يا أبي .. أنت تجلس هنا منذ ست ساعات متواصلة منتظرا ! "
صمت قليلا وقال بحذر :
" واخشي أن أقول أن من تنتظره لن يأتي غالبا .. فهو ميت ! "
ضربة شديدة أصابت قلبي .. رفعت بصري إلي ساعة الحائط فوجدت أن فتاي علي حق .. كيف لم أشعر بمرور كل هذه الساعات الست الطويلة ؟!
حزمت أمري أخيرا وقررت أن أكون واقعيا وصلبا :
" حسنا .. أذهب إلي غرفتك وسأصعد بعد دقيقة لأخلد إلي النوم ! "
لم يكن " بيتر " معتادا علي مناقشتي فنفذ ما أمرته به أخيرا .. ابتسمت بمرارة وأنا أجس الشاي الذي برد تماما الآن ونهضت من مقعدي ، الذي تصلبت فوقه ، بصعوبة .. أغلقت النور وتوجهت نحو باب الغرفة .. فتحته وخرجت وأغلقته خلفي .. وليبقي الشاي حيث هو حتى يأتي الخدم ليرفعونه في الصباح !
لكنني وبينما كنت أصعد السلم معتمدا علي عصاي سمعت صوتا غريبا قادما من غرفة المعيشة !
...
من خلفي آتي صوت طقطقة وصلصلة غريبة فالتفتت متخيلا أنني تركت صينية الشاي في وضع متطرف علي حافة المنضدة وأنها قد انزلقت من فوقها وتناثرت محتوياتها علي الأرض .. لكنني عندما نظرت خلفي فوجئت بأن نور الغرفة ، التي أطفأته بنفسي ، مضاء من جديد !
نزلت الدرجات التي كنت قد صعدتها وأنا أشعر بحيرة شديدة ..اتجهت نحو باب الغرفة وفتحته ببطء ..
كان الهدوء سائدا بالداخل وكل شيء في موضعه وصينية الشاي بما تحويه تستقر في وسط المنضدة آمنة من الانزلاق أو السقوط .. لكن المقعد المواجه لذلك الذي كنت أجلس عليه يحتله شخص ما لم يكن من المفترض أن يكون هنا ، ولا في أي مكان آخر ، في تلك الساعة وذلك اليوم .. إنه " ألكسندر " !
كان جالسا علي المقعد مرتخيا ومسندا ظهره إلي مقعده المرتفع .. كان يجلس بهدوء وبين يديه قدح شاي يتصاعد منه البخار :
" في موعدنا بالضبط .. أليس كذلك ؟! "
قال مؤكدا مفتخرا وليس متسائلا .. أخذت أتجه نحوه ببطء وقد تجمد الدم في عروقي وأحاطت برودة شديدة بي :
" ستغفر لي فارق الساعات هذه يا صديقي العزيز .. أليس كذلك ! "
مرة أخري كان واثقا من نفسه ولا حاجة به للسؤال :
" ألكسندر كيف أمكنك .. "
لم أستطع أن أكمل سؤالي لأن شغفي بتأمله وملاحظة ما طرأ عليه من تغييرات شغلني عن تبادل الحديث .. ماذا أقول ؟!
لم تتغير منه شعره واحدة منذ تلك الليلة التي زارني فيها مودعا .. كان السيد " بيليم " بكامل هندامه القديم وأناقته وحتى لون شعره لم تتخلله شعرة بيضاء واحدة !
" ألكسندر " .. "
ابتلعت ريقي محاولا العثور علي كلمة مناسبة لأقولها :
" ماذا ألن ترحب بي في منزلك بعد كل تلك السنوات ؟! "
كان يحادثني بلهجة عادية وكأن كل شيء عادي .. وكأنه هو نفسه إنسان عادي مثلي .. مثلنا !
" " ألكسندر " .. كيف دخلت إلي هنا ؟! "
تماسكت وجلست أمامه الغريب أنه كان يرشف الشاي من قدح يتصاعد منه البخار الساخن بينما هذا الشاي يقبع هنا منذ ساعات وقد كاد يتجمد في إنائه :
" شاي جميل .. لديك خدم مطبخ ممتازون ! إنك لم ترحب بي بعد لو كنت قد لاحظت .. "
هززت رأسي بيأس .. ماذا أقول له وكيف أقوله ؟!
" ألكسندر .. هل أنت .. هل أنت بخير ؟! "
ترددت طويلا لم أدري ماذا أقول له .. تنهد بعمق وقال مجيبا بهدوء :
" نعم .. ألا تري أنني بخير حال ؟! "
لم أصدق حرفا نظرت فوجدت حافة باب الغرفة مرئية لي من مكاني بشكل جيد .. بينما يفترض ألا أراها لأن " ألكسندر " يجلس بيني وبينها :
" ألكسندر هل أنت .. "
ترددت ثم استجمعت شجاعتي :
" هل أنت حي ؟! "
هنا أخذ يضحك .. أمسك قدح الشاي بيديه بإحكام وألقي رأسه إلي الوراء وتعالت أصوات ضحكاته المرحة .. ضحك لمدة دقيقة ثم أستعاد منظره الجاد :
" ماذا دهاك يا صديقي ؟ بالطبع أنا حي ! "
رد بثقة لكنني لم أصدقه فلن يكذب اللورد " تشمبرلين " علي مهما كانت الأحوال :
" لقد علمت .. أعني أن الجميع يقولون أن سفينتك ، السفينة التي كنت تركبها قد غرقت قبل وصولها إلي سواحل الهند ! "
كنت أساله راجيا أن أجد عنده جوابا يشفي غليل صدري ويريحني من عذابي :
" نعم حدث ذلك بالفعل .. لقد غرقت السفينة في بحر العرب وهلك معظم من كانوا علي متنها لكنني نجوت .. تعلقت بقطعة خشب طافية من مخلفات الملك جورج الثالث * وطفوت بها فوق المياه الثائرة حتى وصلت إلي الساحل .. كانت السفينة قد جنحت أميالا بعيدا عن خط سيرها .. وهكذا وجدت نفسي في منطقة بعيدة تماما عما كنت أخطط لكي رحالي فيه .. لكنني بقيت هناك علي أية حال وصنعت ثروتي ! "
ابتلعت ريقي ولم أصدق حرفا :
" ألكسندر .. ألكسندر .. كيف دخلت هنا ؟! "
كان هذا السؤال هو الفيصل الذي سيحدد كل شيء .. ضحك ثم قال وهو يتأمل يده اليمني :
" لقد تعلمت بعض الحيل من رهبان الهنود .. لقد أردت أن أفاجئك ! "
فهمت كل شيء وأعتصر الألم قلبي :
" ألكسندر .. إنك ميت ! "
اتسعت عيناه ونظر إلي بدهشة حقيقية وهتف بذهول :
" ماذا تقول ؟! "
شددت عزمي وقلت له :
" عزيزي .. إنك ميت ! "
لمعت نظرة مخيفة في عينيه ورد بقسوة :
" لا تكن مخبولا .. إنك تراني بخير حال أمامك ! "
" لا اسمعني أنت .. إنك لا تدرك ذلك .. أين تقيم ؟! "
حدق في لدقيقة وبدا أنه لم يفهم السؤال جيدا ثم أجاب أخيرا :
" في بيت علي ساحل البنغال ! "
سألته :
" بنيته أم اشتريته ؟! "
تردد قليلا ثم هتف وقد بدأت ثقته تتزعزع :
" وجدته ! "
" ما معني إنك وجدته ؟! "
رد قائلا بصوت خفيض متوتر :
" إنها قلعة صغيرة متروكة وقد راقتني فسكنت فيها .. لم يطالب بها أحد ! "
لقد حُسم الأمر الآن وأتضح كل شيء :
" وبالطبع تقيم هناك بمفردك ! "
" نعم .. بالطبع أنت تعرف أنني متوحد ولا أحب الرفقة ! "
" تقول إنك صنعت ثروتك .. ما هي تلك الثروة التي تتحدث عنها ؟! "
" لدي الكثير من اللؤلؤ .. صرر كثيرة مليئة به في حوزتي ! "
" من أين حصلت عليه ؟! "
بدا عليه الإرهاق أخيرا لكنه رد قائلا :
" حصلت عليه من السفينة .. كان في الحطام فأخذته ! "
هنا نهضت واقفا :
" كان موعدنا بعد عشرين عاما بالضبط .. فلما تأخرت ؟! "
نهض واقفا وواجهني :
" لم أتأخر .. جئت في موعدي ! "
أشرت بطرف عصاتي إلي ما خلف ظهره :
" أنظر إلي التقويم علي الحائط ! "
نظر فتغير لونه سريعا .. قال معتذرا :
" ربما أكون قد فوت اليوم خطأ .. لكني وصلت في الساعة الخامسة بالضبط كما اتفقنا ! "
هنا رنت الساعة معلنة انتصاف الليل تماما :
" أسمع ( قلت له ) إنه منتصف الليل ! "
صمت أخيرا وأكل لسانه :
" إنك لم تحضر في اليوم ولا الساعة المحددين .. إنك لم تصل إلي الهند قط .. إنك لم تبني بيتا ولم تشتري واحدا .. إنك تشرب الشاي باردا ولا تحس .. كله هذا لأنك ميت .. ميت ! "
تغير لون عينيه بطريقة مخيفة وأقترب منه وضمني بقوة إليه :
" لا لست ميتا .. أنا حي .. إنني أعيش وأحيا ألا تراني أشرب الشاي .. بالله عليك كم ميت يشرب الشاي في تلك البلاد ! "
بحزن أبعدته عني :
" إنك لم تشرب شيئا .. أنظر إلي فنجانك ! "
ألقي ببصره داخل الفنجان وصُعق :
" إنك ميت ! "
" لا لا لا .. "
صرخ بصوت مرعب وغطي وجهه بيديه :
" أعترف بالحقيقة .. وأرقد علي رجاء القيامة مستريحا ! "
صرخ ثانية بقوة :
" لا لا .. لست ميتا ! "
" إنك لكذلك .. لم تجد أحدا يدفنك أليس كذلك ؟! لذلك همت في الخراب وأنت تعتقد أنك لا زلت حيا .. "
بدأت دموع رقيقة كحبات اللؤلؤ تتساقط من عينيه كان منظرها ساحرا وغريبا :
" لا لا .. أنظر إلي يدي .. ألمسني .. أمسك يدي .. إن لي جسدا .. ولا زلت حيا ! "
نظرت إليه بشفقة وقلت له :
" نعم جسدا أري من خلاله ما خلفه .. إنك جبان ولا تود الاعتراف بالحقيقة ! "
بكي أخيرا بكي كطفل وشهق طويلا :
" لقد كنت أحضر حلقات الرهبان الهندوس .. كنت أعيش بينهم وكانوا يعاملونني وكأنني .. كأنني واحدا منهم .. كأنني حي .. واعتقدت أنني أخذت بعضا من قواهم الخارقة .. لذلك لم أعد بحاجة إلي الطعام والشراب والنوم .. إنني .. "
غلبه البكاء فتوقف عن الكلام .. ضممته إلي دون خوف ، دون اشمئزاز ، ودون ذعر ، وشعرت أنني أضم كتلة من الثلج إلي .. كان باردا ومبتلا كذلك :
" لن تكون وحدك طويلا .. فيومي أنا أيضا قد أقترب ! "
كنت أتحدث بثقة ، ورغم أنني لم أكن أفكر في موضوع الموت هذا من قبل ولا أتصوره ، وبالطبع لم أكن أحبه أو أنتظره .. إلا إنني فجأة أحسست أنني أنتظر الموت وربما أشتهيه كذلك .. ابتسمت وقلت له وأنا أمسك بكلتا يديه :
" سنصلح الأمر الآن .. لقد ضربنا موعدا وأخلفناه .. علي الأقل أنت فعلت .. الآن سنضرب موعدا جديدا .. وكن علي ثقة من إنني لن أخلف موعدك ! "
نظر إلي برقة وحنان ..
وابتسمنا لبعضنا وضربنا موعدا جديدا !
...
في الصباح كان الابن الأصغر لأحد السادة الإنجليز ذوي المكانة يهرع ، بناء علي استغاثة الخدم ، إلي غرفة والده ..
كان والده المسن ، ذو التسعة والستين عاما ، يجلس علي مقعد في غرفة نومه الفاخرة .. كان النبيل المحترم بكامل ثيابه ، وفراشه مكتمل الهندام .. وبدا واضحا أن السيد لم يبدل ثيابه ، ولم يرقد علي فراشه طوال الليل .. كان الأب العجوز ميتا !
لم يظهر عليه أية أعراض يفهم منها سبب موته المفاجئ .. ولم يكن يعاني من أي مرض يمكن أن يعزي إليه تلك الوفاة المفاجئة !
لكن الرجل كان ميتا رغم كل شيء .. أما الخدم الذين أصابهم الذعر فلم يفهموا سببا لما يحدث في ذلك البيت .. ففي الصباح وجدوا طاقم الشاي موضوعا بمكانه المحدد بغرفة المعيشة .. بينما الشاي ، الذي أعد منذ أكثر من اثنتي عشرة ساعة ووجب أن يكون باردا كالثلج الآن ، مصبوب في الفناجين الصغيرة .. والدخان يتصاعد منه دون توقف !
الأغرب أن الفناجين كانت مملوءة تماما .. فإذا كانت قد ملئت وقُدمت فكيف بقيت ممتلئة حتى حافاتها دون أن تؤخذ منها مجرد رشفة ؟!
لكن موت السيد المفاجئ كان هو الحدث الأكثر غرابة وإثارة للرعب ..
كان السيد جالسا علي مقعده مستويا تماما .. فارق الحياة .. وجدوه وقد غطي منديل أبيض وجهه الشاحب البارد وأقفلت عيناه !
ما الذي غطي وجهه ومن الذي أغلق له عينيه ؟!
تلك أسئلة بقيت بلا أجوبة .. لكن بين يدي أبيه وجد " بيتر " تلك الوريقة الصغيرة التي لم يكن بها سوي سطر واحد :
" صغيري " بيتر " العزيز .. كان لدي موعد وتحتم علي اللحاق به .. لكل منا موعد.. والرجل المخلص هو من يحافظ دائما علي مواعيده ! "
تمت
* كيرالا : احدي ولايات الهند


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.