المقدمة الرحيل صاخب ،ولكن هذا الرحيل صامت ، فمتى يبدأ رحيل لم نجربه من قبل ،ولابد أن نجربه يوما ما ،وكم يشغلنا عند كل رحيل ما نتزود به ،وما يهون علينا مشاق الرحلة ،فهل تزودنا لرحيلنا الصامت بما ييسر علينا رحلتنا الأخيرة إلى الاستقرار أم شغلتنا رحلات ثانوية حسبناها أساسية ، ألهتنا عن الرحلة الصامتة .... ديواني صمت الرحيل يضم مجموعة من القصائد يمتد زمانها حوالي عشر سنوات،لم أنس خلالها صمت الرحيل ،أتمنى أن تكون قصائدي قد عبرت عمّا نعانيه كثيرا في رحلاتنا الدنيوية من آلام ،وما نتعلق به من آمال ،وما بين رفض الندم ، والإصرار على أن تبقى السفينة طافية تبحر بنا حتى آخر العمر ، وعندما نهيم شوقا بالمجهول ونحِنّ إليه يأسا مما نلاقيه في عالمنا الأدنى من جحود وجمود ، نتطلع لرحيلنا الصامت ونشتاق إليه ، ولا نخشاه فبغير نهايته السعيدة لا نطمح في شيء من حطام الدنيا ، ولا نبالي بغير الروعة والجمال النقي الذي لا تلوثه أغراض دنيوية ،وكم نعانق الشعر آملين أن تكون حروفه الوفية مطية لنا تحملنا لذلك العالم المثالي.. نسعى مؤمنين بأن البقاء، والفراق قدر ، وأن عذابات الغروب قاسية ها هنا ،ومهما يثور الشعر علينا لا نجد في ثورته ما يؤذي بل نجد ما يصحح المسار ، ففي حروفة وأوزانه فصل الخطاب ، وفيه تذكير لي: إنني أنا الإنسان ،ومهما طال العتب والعتاب يُبقى لنا في صفحاتنا ما خط القلم ، وما دوّن لنا ،ويبقى الحنين والشوق لذلك اللقاء المأمول الذي تضع أيامنا - التي تمر سريعة - تضع فوق حروفة النقاط ، فتزيل الشك وتؤكد أننا سنلقى تلك الحبيبة ، فلقاؤها أمل يراودنا ،يحييه دائما في نفوسنا حسن الظن بخالق كرمنا ، نطمع في دوام كرمه وحفظه وعفوه ،وأن يجمعنا بحبيبتنا بفضله الذي لا حدود ولا مثيل له ، وبغفرانه الذي وعد به كل من وحّده وعمل صالحا ، فلا يوجد سواه نلجأ إليه ، ونلوذ به.. وكم أدين بالشكر للأديبة القديرة والشاعرة المبدعة : د.زينب أبو سنة التي أضافت قراءتها المتبحرة لديواني وتقديمها له أضافت الكثير من الجمال والبهاء... أتمنى أن تجدوا في ديواني (صمت الرحيل ) ما يستأهل القراءة والتأمل .. صالح شرف الدين يناير 2014 التقديم *ديوان صمت الرحيل ديوان من الشعر الفصيح ،وصمت الرحيل عنوان له دلالات وإيحاءات تندرج تحتها قصائد الديوان ،وهو اسم أول قصيدة فيه ،أجاد الشاعر اختيار العنوان فالحياة كلها بين ميلاد صاخب ورحيل صامت *غلاف الديوان يعبر عن العنوان بمجرد الرؤية إليه .. *يضم الديوان ثمان وعشرين قصيدة من الشعر العمودي وشعر المقطوعات وشعر التفعيلة ،وكتب الشاعر في خمسة أوزان شعرية : الرمل :قصيدة واحدة الكامل :قصيدة واحدة المتقارب :ثلاث قصائد المتدارك : ست قصائد الوافر :استولى على سبع عشرة قصيدة سواء الوافر التام أو المجزوء ،وسيطر الشاعر على موسيقاه ،ورغم أن الكثيرين من الشعراءالمعاصرين لايكتبون في الوافر كثيرا نجد هذا الكم من القصائد من بحر الوافر ... *يقول الشاعر في قصيدة الديوان صمت الرحيل : لا تقولي أيّ شيءٍ عن غناءٍ أو بكاءِ صار كلّ الهزل جداً فوق أرضي في سمائي ...................... يركز الشاعر على المفارقة بصورة مبدعة ،لن ينفع مع صمت الرحيل أي غناء أو بكاء وعندما جاء تحول الهزل لجد في كل مكان،وكرر (لا تقولي أي شيء) خمس مرات وتركنا نتساءل من تلك التي يلتمس منها الصمت ليتوافق صمتها مع صمت الرحيل.. *وفي قصيدة الشاعر أهوى يقول : ويدور زماني فأوقفه في بابك حبي أكبلهُ تملكنا اللحظة نملكها نبدع فجرا ونجمّلهُ ..................... الشاعر سيوقف زمانه ويكبل حبه ،ويملك حاضره في تناغم بين دلالات الألفاظ والمعانى يفجر فيها وفينا الطاقات الشعورية . *أما قصيدة (جنات حبك )ففيها تألقت صور الشاعرالخيالية يقول: أنت الحبيب وما لحبي آخر كم ذا أزيّن رغبتي بجهادي يا بحر حبٍ كم تفيض على الذرا والشوق يرنو للحبيب الهادي أدعوه أن يبقى وصاله مقصدي وإليه تضرع تستجير أيادي والصمت في حرم الجمال جمالٌ والبوح ساح رحبة لجيادي .............................. الحب ليس له حدود ،والجهاد استمرارية وإصرار ،فهي رغبة لايريد الشاعر أن يتنازل عنها ،والبوح ساح رحبة تصول وتجول فيها جياد الشاعر بكل ما تحمل من رمزية. *ورغم اعتزاز الشاعر بنفسه ،نجده يعبر عن التواضع القوي ففي قصيدة من أطول قصائد الديوان (أنا إنسان ) 37بيتا ،نجد الشاعر رغم الأنا فهو يعرف أنه مخلوق من طين سرّ قوته من الله وإلى الله يقول : أنا المخلوق من طينٍ ونور الله في سرّي ....................... أنا بشرٌ...أنا حرٌّ أجول بساحة العمْرِ ........................ القصيدة دعوة للأخوة الإنسانية الشاملة ،ودعوة ألّا يستعبد الإنسان أخاه الإنسان ،فالجميع سواء في الإنسانية مهما كانت الخلافات،يعبر الشاعر عن ثورته على التفرقة بكل صورها : ألا فاسمع لثائرتي: هدير السرّ والجهْرِ كلانا عبد إحسانٍ لربّ الناس والدهْرِ الثورة هنا داخلية فجرتها كلمة (هدير السر) وقبل الجهر لتشمل كل شيء وتدل على الغليان بين الإفصاح والكتمان ،وفي القصيدة روح صوفية فسر الله في الإنسان،وسنلقى الله أفرادا،ولن ينجينا إلا خير لوجه الله ،البداية من الله والنهاية إلى الله فهو من وضع سره في الطين وله المرجعية .. وتحققت الوحدة العضوية في القصيدة فقد قال في بدايتها أنه بشر وأنه حر ويختمها بقوله: فعانق طيفي الساري تقبّلْ من يدي مهري لتهواني بلا قيد فمجد الله للحرِّ ................... *الشاعر لم يصرح لنا بأنه متمكن من أدواته الشعرية ،ولكن قصائده أفصحت عن ذلك بطرقة مباشرة وغير مباشرة ففي قصيدة (أنا والشعر) يقول : ما عاد الشعرُ يطاوعني ما عاد جمالٌ يسبيني أوزان الشعر تصارعني في بحره أغرقت سنيني ....................... كيف لم يطاوعه الشعر وقد التزم في النص مالا يلزم ،فجعل فيه قافيتين واحدة للعروض وأخرى للضرب التزمهما في كل الأبيات،دون أن نشعر أنه يصنع شعرا ففي النص يثور على القبح،ويتمسك بالجمال ولا يخدعه الزيف ،وذلك في تجربة شعرية إنسانية مؤثرة.. *الشاعر يستخدم المفارقة الواعية ،وينتقي الألفاظ بدقة جاء بالبخل لأن المسألة تتعلق بالماديات ،وبكلمة (ضن) عندما كان البخل بالحواس يقول في قصيدة:(عتبوعتاب): عرفتك ما عرفت البخل دهرا فيا عجبا إذا ضنت رؤاكِ ويا ألمي إذا تمضي الثواني يغيب الفجر يُعْجِزُني لقاكِ ........................ *يشخص الشاعر المعنويات ،ويسبغ على المحسوسات ثيابا تجعلها أكثر تأثيرا يقول في قصيدة :حان الرحيل : فنجوم الكون حبيباتي أهواها الضاد لي سكنا تأخذي لساحات الحلم تسقيني من فيضها لبنا الحب هنا للضاد التي ترمزللغة العربية وللعروبة ،وقد صارت سكنا للشاعر يجد فيها ما يغنيه ،ويستغني به عن كل قرب بعده جفاء .. *الشاعر يستخدم المفردات الفصيحة بسلاسة خصوصا التراثي منها والتي لم تعد مستخدمة بكثرة في الشعر ،وهو يقصد استخدامها ،وقد تكررت في مواضع كثيرة ،ونجح في جعلنا نستسيغها فهي تعبر بدقة عما أراد ودون تكلف أو افتعال ،فهي تنسجم مع باقي عناصر تجربة الشاعر وتعطي نغما داخليا مؤثرا: (يبغي - يساورني - تسربلني- قلاك - أروم -غياهب ...) *ديوان صمت الرحيل الديوان الثالث للشاعر فقد أصدر قبله (من دفتر الثورة ) و(شموخ وشروخ) كما أصدر مجموعة قصصية بعنوان :(الحافلة والخضر) ورواية بعنوان :(سأغفر لك ) * تجربة الشاعر في ديوانه صمت الرحيل تعتمد على الرومانسية العالية التي تمتزج بواقعية ملحوظة في حقائق الحياة التي يتكيء عليها الديوان ،فللمرأة حضور طاغ في أغلب قصائد الديوان ،ويتداخل حب الشاعر للأم مع حبه لوطنه وللمرأة بصفة عامة ،ولا يستطيع القاريء المتعجل أن يدرك من حبيبة الشاعر بالضبط يقول الشاعر في آخر قصيدة في الديوان: ( حبيبتي بين الشك واليقين ) حبيبة قلبي ما عدت أهوى نجوم السماء دلال النساء ما عدت أهوى همس الصبايا تثني الحروف رقيق الرداء ما عاد قلبي يدقّ لحب جديد يناجي حنين الرواء ...................... كرر الشاعر (حبيبة قلبي) خمس مرات ،فماذا قصد بها ، وبالتأكيد على أنها حبيبة قلبه ،أحسبها المدينة الفاضلة ،الفكرة المثالية ،جنة الخلد .. ويؤكد ذلك قوله في ختام هذه القصيدة التي تعد من أطول القصائد: خذيني إليك لنبع الوصال لروض الأماني لأصل النقاء إليك خيالي يسافر عمرا يعود وكم يهوى البقاء *مع تلك الرومانسية التي تسري في الديوان لا يمكن أن نغفل تلك الروح الوطنية والقومية في حب الشاعر للضاد وفي حبه الطاغي لبلاده في قصيدته :(أحبك) يقول: أحبك حبا يفوق الحدودْ ويملأ فؤادي حبك يزيدْ فأنت الحياة وأنت الأمل وأنت المنى ونور المقلْ ................ وفي قصيدته :(حتى آخر العمر ) يقول : أيا حبي..أملهمة الأماني أنا أدعوك يا عمري أجيبي محبا أنت بلسمه أساةٌ وكم أهوى دواءك يا طبيبي ........................... *وأستطيع أن أقول:إن الشاعر صالح شرف الدين بتمسكه بقصيدة الفصحى ،وبهذا الإلمام اللغوي يثري الفصحى ويحافظ عليها لتسود علمنا الشعري أتمنى له دوام التوفيق ..... الأديبة الشاعرة د . زينب أبو سنة رئيس جماعة النيل الأدبية