طقس الإسكندرية يشهد رياح مفاجئة وبرق ورعد وأمطار غزيرة.. صور    ماكرون يهدد إسرائيل بإجراءات صارمة ويمهلها "ساعات وأياما" للاستجابة للوضع الإنساني في غزة    "بعد معلول".. أحمد شوبير يلمح إلى اقتراب رحيل نجم آخر عن الأهلي    تعطيل الامتحانات بجامعة الإسكندرية اليوم بسبب سوء الأحوال الجوية    أمطار رعدية وثلوج وعواصف تشبه الإعصار.. ماذا يحدث في الإسكندرية؟- فيديو وصو    فلسطين.. قوات الاحتلال تقتحم مخيم عسكر الجديد شرق نابلس    ترامب يقر زيادة جديدة على رسوم الصلب لحماية السوق الأمريكية    علي معلول يعلن رسميًا نهاية مشواره مع الأهلي: «أنا راحل.. لكن الحب باقٍ»    موعد صلاة عيد الأضحى 2025 في جميع محافظات مصر    اليوم.. أولى جلسات محاكمة مدربة أسود سيرك طنطا في واقعة النمر    العفريت الذي أرعب الفنانين| «الفوتوغرافيا».. رحلة النور والظلال في 200 سنة    6 طرق للحفاظ على صحة العمود الفقري وتقوية الظهر    ب62 جنيه شهريًا.. أسعار الغاز الطبيعي اليوم وتكلفة توصيله للمنازل (تفاصيل)    «ليس وداعا وسنلتقي قريبا».. تعليق مفاجئ من شوبير بعد إعلان معلول الرحيل عن الأهلي    ثروت سويلم يعلن نظام الدوري المصري في الموسم الجديد وموعد نهايته    «سأصنع التاريخ في باريس».. تصريحات مثيرة من إنريكي قبل نهائي دوري الأبطال    جراديشار: شاركت في مباراة بيراميدز ولم أكن أعرف أسماء لاعبي الأهلي    مهاجم بيراميدز: التركيز سلاحنا لحسم اللقب الأفريقي    جدل بين أولياء الأمور حول «البوكليت التعليمى»    «تنسيق الجامعات 2025»: 12 جامعة أهلية جديدة تنتظر قبول الدفعة الأولى    هبوط جديد في عيار 21 الآن.. أسعار الذهب والسبائك اليوم السبت 31 مايو 2025 بالصاغة    اليوم.. انطلاق امتحانات الشهادة الإعدادية في جميع المحافظات    سوهاج.. خلاف مالي بين شقيقين ينتهي بطعنة نافذة    ماس كهربائي يتسبب في نشوب حريق بمنزلين في سوهاج    اليوم.. 58 ألف و841 طالبًا يؤدون امتحان اللغة العربية للشهادة الإعدادية بقنا    وزير الدفاع الإسرائيلي: لن نمنح الحصانة لأحد وسنرد على أي تهديد    ترامب يكشف موعد الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة    أحمد حلمي ومنى زكي وعمرو يوسف وكندة علوش في زفاف أمينة خليل.. صور جديدة    «متقوليش هاردلك».. عمرو أديب يوجه رسائل خاصة ل أحمد شوبير    «القاهرة للسينما الفرانكوفونية» يختتم فعاليات دورته الخامسة    أفضل دعاء في العشر الأوائل من ذي الحجة.. ردده الآن للزوج والأبناء وللمتوفي ولزيادة الرزق    النائب أحمد السجيني يحذر من سيناريوهين للإيجار القديم: المادة 7 قد تكون الحل السحري    رئيس «النحّالين العرب»: قطاع تربية النحل يتعرض لهجمات «شرسة» سنويًا لتشويه المنتج المحلى    محافظة قنا: الالتزام بالإجراءات الوقائية في التعامل مع حالة ولادة لمصابة بالإيدز    لا تتركها برا الثلاجة.. استشاري تغذية يحذر من مخاطر إعادة تجميد اللحوم    شروط ورابط الحصول على دعم المشروعات اليحثية بهيئة تمويل العلوم    موعد أذان فجر السبت 4 من ذي الحجة 2025.. ودعاء في جوف الليل    باسم مرسي: لاعبو الزمالك قادرين على مصالحة الجماهير بالفوز بكأس مصر    5 فلاتر يجب تغييرها دوريًا للحفاظ على أداء سيارتك    سعر الموز والخوخ والفاكهة بالأسواق اليوم السبت 31 مايو 2025    لا تضيع فضلها.. أهم 7 أعمال خلال العشرة الأوائل من ذي الحجة    الجماع بين الزوجين في العشر الأوائل من ذي الحجة .. هل يجوز؟ الإفتاء تحسم الجدل    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 31-5-2025 في محافظة قنا    «قنا» تتجاوز المستهدف من توريد القمح عن الموسم السابق ب 227990 طنًا    عاجل|أردوغان يجدد التزام تركيا بالسلام: جهود متواصلة لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    مدير «جي إس إم» للدراسات: فرص نجاح جولة المباحثات الروسية الأوكرانية المقبلة صفرية    تغييرات مفاجئة تعكر صفو توازنك.. حظ برج الدلو اليوم 31 مايو    «المصري اليوم» تكشف القصة الكاملة للأزمة: زيادة الصادرات وراء محاولات التأثير على صناعة عسل النحل    شريف عبد الفضيل يحكى قصة فيلا الرحاب وانتقاله من الإسماعيلي للأهلى    بدء تصوير "دافنينه سوا" ل محمد ممدوح وطه الدسوقي في هذا الموعد    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. ترامب: سنعلن تفاصيل اتفاق غزة اليوم أو غدا.. إحباط هجوم إرهابى فى روسيا.. وصول مليون و330 ألف حاج للسعودية.. سقوط قتلى فى فيضانات تضرب نيجيريا    مشرف بعثة الحج السياحي: إلغاء ترخيص الشركات السياحية المخالفة للضوابط المنظمة    وزير التعليم يبحث مع «جوجل» تعزيز دمج التكنولوجيا في تطوير المنظومة التعليمية    تطرق أبواب السياسة بثقة :عصر ذهبى لتمكين المرأة فى مصر.. والدولة تفتح أبواب القيادة أمام النساء    وفد من مسئولي برامج الحماية الاجتماعية يتفقد المشروعات المنفذة بحياة كريمة في الدقهلية    الأحد.. مجلس الشيوخ يناقش الأثر التشريعي لقانون التأمين الصحي والضريبة على العقارات المبنية    «أوقاف الدقهلية» تفتتح مسجدين وتنظم مقارئ ولقاءات دعوية للنشء    الأعلى للجامعات: فتح باب القبول بالدراسات العليا لضباط القوات المسلحة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليلة المرتفعات ج1
نشر في شموس يوم 29 - 03 - 2014

كنت وما أزال مغرماً برواية ( مرتفعات وذرينج ) .. تلك الرواية الرائعة التي كتبتها الكاتبة الحزينة " أميلي برونتي " !
كنت وما أزال مولعاًً بالرواية وما زلت أستمتع بقراءتها مرة بعد مرة .. ولكن تجربة فريدة أضافت إلى هذا الوله طعم آخر .. طعم مخيف مقلق .. وكان السبب الرئيسي في هذه التجربة هو جنوني وثرائي المبالغ فيه !
في الحادي عشر من شهر يوليو عام 1967 اقترحت على أمي أن نذهب لقضاء عيد الميلاد في لندن .. لندن بعيداً عن القاهرة وعن جوها الخانق بعد النكسة المهلكة التي حاقت بمصر .. الحقيقة لا أدعي أن النكسة كان لها أثر شخصي على .. فأنا مدلل طول عمري ولا أتحرك خطوة واحدة أبعد من ذاتي .. ولكن أصدقائي ومعارفي وحتى أصدقائي في الجامعة كانوا في حالة غليان والمرارة على كل الوجوه .. لذلك فضلت أن أخذ أمي وثرائي ؛ الذي يسبب للبعض غيرة وحقد مريرين كنت ألمحهما وراء النظرات المجاملة الرقيقة ؛ وأذهب لألهو وأعربد قليلاً في ( لندن ) العتيقة .. ولهذا السبب غيرت رأيي الأول واخترت فترة عيد الميلاد بالذات حيث تكون المدينة الغارقة في الضباب في أبهج حللها ويكون سكانها الإنجليز الباردين كحد السكين الأستنلس أكثر حرارة وأكثر استعدادا للتواصل معهم !
************
وصلنا ؛ أنا وأمي ؛ إلى لندن في الحادي والعشرين من ديسمبر .. كان من المفترض أن نصل مبكرين أكثر ولكن ترتيبات الرحلة وظروف البلد المتدهورة في كل النواحي أعاقتنا عشرة أيام بأكملها ..
وبمجرد أن نزلنا في مطار ( هيثرو ) حتى ركبنا أول سيارة تاكسي صادفناها في طريقنا أقلتنا إلى فندق الملك جيمس العتيق الفاخر .. ألفي جنيه إسترليني لليلة الواحدة ؟!
ولما لا .. فما أكثر النقود عندنا .. ولكنني في الحقيقة لم تكن لندن هي هدفي .. بل مقاطعة ( يوركشير ) !
كل من قرأ رواية ( مرتفعات وذرينج ) يعرف أن أحداثها تقع في منطقة ( هيوارث ) المنعزلة الموحشة بمقاطعة ( يوركشير ) ..
هل منزل ( مرتفعات وذرينج ) حقيقي .. أم من محض خيال " أميلي برونتي " ؟!
سألت هذا السؤال لأستاذي الإنجليزي مستر " ستانلي " في أحد دروس الأدب الإنجليزي التي كان يقوم بإعطائها لي مقابل مبالغ سخية .. وكان رد فعله متوقعاً من رجل صارم ( تنح ) مثله .. تململ قليلاً ثم أنزل نظارته السميكة على أنفه الذي يشبه حد الموسى لينظر لي نظرة سخرية جارحة وقال لي بنبراته الشكسبيرية الفخمة:
" مرتفعات وذرينج مجرد قصة خيالية .. ولا أسمح لنفسي بأن أقول أكثر من ذلك .. لنعد إلى درسنا "
وعدنا .. أو على الأصح عاد مستر " ستانلي " وحده لدرسه الممل عن الشاعر " كيبلنج " واخذ يقرأ ويقرأ ويعلق لنفسه غالباً .. لأنني كنت سارحاً في ملكوتي الخاص مفكراً في طريقة أحصل بها على جواب لسؤالي :
" هل منزل مرتفعات وذرينج حقيقة أم خيال ؟! "
************
توقعت كل شيء يمكن أن يحدث في الوجود .. إلا أن أحصل على إجابة لسؤالي بمحض الصدفة وليس أي جواب .. الجواب الذي كنت أتوقعه وأتمناه .. الجواب الذي أريده بالضبط !
عندما كنت في السنة الثالثة بقسم اللغة الإنجليزية بكلية آداب القاهرة كنت قد صرت مشهوراً في الجامعة بلقب ( مجنون أميلي برونتي ) وكان هذا طبيعياً بالنسبة لثرثار مثلي لا يحتفظ بكلمة أو سر في جوفه أكثر من ثلاث دقائق .. وفي ذات يوم فوجئت وأنا أسير في فناء الجامعة برفقة زميلتي " مني " بشاب غريب يحاذيني فجأة أثناء سيري ويكاد يلتصق بي .. فوجئت بظهوره وتوقفت لأمعن النظر فيه .. كان طويلاً للغاية نحيلاً نحيلاً وكان من الواضح أنه أجنبي .. قد كانت التلامة الإنجليزية تصرخ بأعلى صوتها فوق ملامحه السائحة المائعة .. لم يعطيني الفرصة للتحدث أو محاولة التعرف به بل أقترب من أذني وهمس في أذني بعبارة واحدة .. عبارة واحدة ولكنها زلزلتني وشلت كياني إلى حد أعجزني حتى عن التحرك من مكاني .. فيبدو أنه قد آن الأوان أخيراً لتحقيق حلمي !
************
في اليوم التالي كنا أنا و " بيتر " ؛ الشاب الإنجليزي الغريب ؛ ننتحي ركناً قصياً من كافتيريا خارج الجامعة ونتبادل حديثاً هامساً .. قال لي " بيتر " بلهجة إنجليزية هادئة :
" أنت تبحث عن منزل مرتفعات وذرينج .. أعني منزل عائلة " ايرنشو " .. أليس كذلك ؟! "
فسألته بلهفة :
" هل قرأت الرواية ؟!"
" طبعاً .. لا يوجد إنجليزي مثقف لم يقرأ مرتفعات وذرينج .. " هندلي ايرنشو " و" هيثكليف " و" كاترين " و" ادجار لنتون " و" ايزابيلا " والخادمة " نيللي " .. إنهم أعلام في الثقافة الإنجليزية .. من يستطيع أن يقاوم كل هذا السحر ؟! "
سرني كلامه للغاية وسعدت بعثوري على رفيق يشاركني ولعي بهذا العمل الأدبي شديد الرقي .. ولكنه ما لبث أن فاجأني بكلام لم أتوقعه أبداً :
" ولكنني يا عزيزي قرأت الرواية لظروف مختلفة تماماً عن الظروف التي قرأتها أنت أو أي أحد آخر فيها .. لم تكن " مرتفعات وذرينج " جزء من ثقافتي .. بل كانت جزء من تاريخ أسرتي .. أو من تاريخ منزل أسرتي بعبارة أدق ! "
دق قلبي عند سماعي لهذه الكلمات وتوقعت كل شيء في الدنيا ألا أن أسمع منه الكلمات التالية .. فقد كانت أجمل من كل أحلامي وتخيلاتي :
" ربما لم أحسن تقديم نفسي لك يا عزيزي .. ولكن دعنا نتدارك الأمر .. فأنا " بيتر فرانسيستين " طالب من إنجلترا .. مقاطعة " يوركشير " ومنطقة " هيوارث " بالتحديد .. "
تركني قليلاً حتى أنضج على مهل ثم واصل كلامه ملقياً قنبلة هائلة فوق رأسي :
" وأقيم في منزل عتيق حوله مزرعة كبيرة وهذا المنزل بني منذ نحو خمسمائة عام.. منزلنا هذا يحمل اسم " إكليل الغار " .. ولكنه ومنذ أكثر من ثلاثمائة وخمسين عاماً كان يحمل اسم مختلف .. اسم " مرتفعات وذرينج " ! "
************
لم أكن على استعداد أن أصبر يوماً واحداً بعد ذلك .. وانتابتني حمي ورغبة مجنونة في أن أقفز في أول طائرة متوجهة إلى لندن وأذهب مباشرة إلى " يوركشير " لأقضي الليل في منزل ( مرتفعات وذرينج ) .. ولكننا كنا في شهر مايو والامتحانات على وشك البدء .. وكان يجب أن أركز وأذاكر وأمتحن وأنجح .. وإلا فلا ذهاب إلى لندن أو حتى إلى عين الصيرة .. هكذا هددتني والدتي إذا لم أجتز امتحاناتي وبتفوق .. وهكذا أجبرت نفسي على الجلوس كل يوم ست ساعات تحت يد مستر " ستانلي " البارزة العظام لكي يساعدني في استذكار دروسي ومراجعتها .. والحقيقة لا أعرف كيف مرت على فترة الامتحانات السخيفة هذه .. ولكنني وفي اليوم السادس من يونيو وجدت نفسي في لجنة امتحان مادة ( الدراما ) وهي آخر مادة في جدول الامتحانات الخاص بقسم اللغة الإنجليزية .. وحاولت إقناع والدتي بالسفر إلى لندن فوراً ، ولكنها أصرت على انتظار النتيجة لتحدد هل ستسمح لي بالسفر أم لا .. وكان يمكن ألا يتأخر الأمر إلى شهر ديسمبر ولكن من سوء حظي أنه ؛ وفي اليوم التالي مباشرة ؛ حدثت النكسة وضربت مصر وسوريا وأصبحت البلد كلها ( على كف عفريت ) كما يقولون .. وحتى بعد ظهور نتيجتي ونجاحي بمجموع معقول فقد توجب علينا الانتظار أسبوع وراء أسبوع وشهر وراء شهر .. حتى أعيدت حركة الملاحة الجوية إلى طبيعتها وتمكنا أخيراً من السفر إلى إنجلترا ..
طبعاً يمكنكم تصور حالتي في هذه الأيام الكئيبة .. كنت أتحرق شوقاً للسفر ورؤية منزل ( مرتفعات وذرينج ) على الطبيعة .. والحقيقة فإنه لولا وجود " بيتر " الدائم معي ومناقشاتنا المستمرة حول الرواية والمنزل لأصابني الجنون حتماً .. في أحدي هذه المناقشات سألته سؤالاً كان يحيرني منذ أن تقابلنا لأول مرة :
" أنت قلت أن منزلكم هو نفسه المنزل الذي حدثت فيه وقائع قصة مرتفعات وذرينج .. أليست هذه رواية خيالية والمفروض أن كل تفاصيلها من أشخاص وأماكن من نسج الخيال ولا وجود لها في الحقيقة ؟! "
فرد على بسرعة وثقة :
" معذور يا صديقي في سؤالك .. فأنت ممن خدعوا في الأمر مثل ملايين القراء في العالم كله ! "
فسألته بدهشة :
" ماذا تقصد ؟! عن أي خدعة تتحدث ؟! "
تحدبت أذنا " بيتر " ومط شفتيه بازدراء وأجابني قائلاً :
" الحقيقة أن " أميلي برونتي " نجحت في خداعك كما نجحت في خداع الملايين والملايين من القراء حول العالم .. فمنذ صدور رواية ( مرتفعات وذرينج ) عام 1847 والعالم يعتقد أنها كاتبة مبدعة أتت بقصة رائعة من خيالها .. ولكن يؤسفني أن الحقيقة أقل جمالاً ! "
فقاطعته بلهفة :
" أتعني أن " أميلي " سرقت الرواية .. أعني أنها نسبت لنفسها رواية ( مرتفعات وذرينج ) دون أن تكون هي كاتبتها في الحقيقة ؟! "
فأجابني " بيتر " وهو يدني وجهه من وجهي ويخفض صوته وكأنه يفضي بسر خطير :
" مرتفعات وذرينج ليست قصة خيالية على الإطلاق .. إنها مجرد اجترار لأحداث ووقائع حقيقية حدثت في هذا المنزل ؟! "
عدت أسأله بلهفة :
" ولكن كيف عرفت " أميلي برونتي " بتفاصيل هذه القصة .. إنها لم تكن تعيش في هذا المنزل .. أليس كذلك ؟! "
" نعم ! ولكن أنسيت أن والدها كان راعي القرية .. وهذا يعني أنه كان مسموحاً له بدخول أي منزل من منازل القرية وفي أي وقت ! لقد كان والد " أميلي " على علم بتفاصيل هذه القصة المأساوية التي حدثت لأسرة كانت تقيم في منزل مرتفعات وذرينج أثناء طفولة " أميلي " ولقد كان يثرثر بكل شيء أمام زوجته وأولاده .. وهكذا فإن " أميلي " لم تكلف نفسها عناء البحث عن فكرة لقصة .. لأن القصة كانت جاهزة أمامها ولا تحتاج إلا لمن يكتبها ويضع أسمه عليها ! "
" ولكن " أميلي " كانت كاتبة مبدعة .. كانت موهوبة حقيقة .. أليس كذلك ؟! "
" يبدو إنك مثل الآخرين لم تحاول أن تسأل نفسك السؤال البسيط : لماذا لم تؤلف " أميلي " أية رواية أو قصة أخري بعد مرتفعات وذرينج ؟! لماذا عقم خيالها الخصب ونضب معينه بعد عمل واحد يتيم ! "
كان كلامه قد بدأ يقنعني وان كنت لا أزال أحاول أن أدافع بروح يائسة عن أديبتي المفضلة فسألته بقلق :
" ولكن إذا كانت " أميلي " قد أكتفت برواية قصة حقيقية ونسبتها لنفسها فلماذا لم تقم بتغيير اسم المنزل على الأقل ؟! ولا تنسي أن الرواية ؛ سواء كانت خيالية أو حقيقية ؛ تظهر قدرة " أميلي " على السرد وموهبتها الأدبية ! "
" لم تغير " أميلي " اسم المنزل هذا صحيح .. ولكن لأن المنزل كان قد تغير اسمه عشر مرات بعد وقوع أحداث هذه القصة المأساوية داخله وتقريباً كان الاسم القديم قد نُسي ولم يذكره إلا القليلون ، ولا تنكر أن الاسم جذاب رغم كل شيء لذلك فقد احتفظت به " أميلي " كما هو ولم تحاول تغييره .. أما اعتقادك بأن الرواية تكشف عن قدرة سردية وموهبة أدبية فهذا صحيح بلا ريب .. هناك قدرة وموهبة أدبية ولكنها لم تكن قدرة " أميلي " ولا موهبتها .. بل موهبة شقيقها " برانويل " الذي أملى عليها ما تكتبه قبل أن يغادر الدنيا ! "
وهنا وجدت نفسي أشهق بفزع وتذكرت أنه بالفعل فإن لأميلي شقيق أصغر هو " باتريك برانويل " الذي توفي بمرض صدري في سن صغيرة وقيل أنه كان موهوباً مثل شقيقاته :
" يا إلهي .. أتعني أن " برانويل " هو الذي قام بكتابة القصة وليس " أميلي " ؟! "
" بل أعني أن " برانويل " أملي و" أميلي " كتبت .. وجاءت وفاته المبكرة لتمنحها فرصة كاملة لتنسب القصة لنفسها دون خوف من وجود من يفضح خداعها ! "
وهكذا أقنعني " بيتر " إلى حد دفعني إلى أن أستسلم وألقى بسلاحي ولكن ليس قبل أن أسأله السؤال الذي يطن في عقلي :
" ولكن لماذا تفعل شيء كهذا .. هذه الفتاة الرقيقة الجميلة الخلوقة لماذا تقدم على شيء سيء كهذا ؟! "
" لأنها كانت وسيلتها الوحيدة للخلود .. لقد ولدت في أسرة توارثت المرض والموت المبكر .. وكانت كل شقيقاتها وأخوها الوحيد " برانويل " يتمتعون بموهبة أدبية متميزة .. وكان يجب أن تجاريهم وتكون مثلهم .. كان يجب أن يكون هناك عمل تضع اسمها عليه ويخلدها قبل أن تفارق الحياة نهائياً حتى لو لم يكن يخصها بالفعل !! "
في مساء اليوم التالي كنت أنا ووالدتي برفقة " بيتر " في مطار ( هيثرو ) !
************
وصلنا إلى لندن في العاشرة من صباح الحادي عشر من ديسمبر عام 1967م ونزلنا في فندق ( الملك جيمس ) الفاخر الباهظ كما أسلفت القول .. وكنت قد اتفقت مع " بيتر " على أن يصطحبني لمقاطعة ( يوركشير ) لزيارة منزل ( مرتفعات وذرينج ) وقد قررت وخططت أن أذهب بمفردي معه ، فلم أكن على استعداد لاصطحاب والدتي في هذه المغامرة لأنها ببساطة كانت سترفض ذلك وبشدة .. لذلك فقد اتفقت مع " بيتر " على أن نختلق لها عذراً يسمح لنا بالتغيب عنها بضع أيام على أن نتركها بالفندق .. حاولت أكثر من مرة فتح الموضوع مع أمي ولكنني فشلت فشلاً ذريعاً فقد كنت غير معتاد على الكذب .. ولهذا لجأت إلى " بيتر " الذي تمكن لدهشتي من تلفيق حكاية متقنة لأمي خلال أقل من دقيقتين وأقنعها بالسماح لي بمرافقته في رحلة خلوية خارج ( لندن ) كما أدعي ، ووافقت أمي بعد أن ألمح لها " بيتر " بأن الرحلة ستشارك فيها فتيات وقد يكون حضورها عائقاً أمامي عن المرح !
كانت أمي متحررة أكثر قليلاً من اللازم وتعتبر المرح والاختلاط للشبان والفتيات نوعاً من الفيتامينات المفيدة والتجارب المهمة واعتبرت مرافقتي لفتيات إنجليزيات متعلمات مثقفات خيراً من اختلاطي بالساقطات ..
وهكذا ذهبت برفقة " بيتر " إلى ( يوركشير ) وهناك ركبنا قطاراً فاخراً حملنا إلى قرية ( هيوارث ) النائية المنعزلة .. حيث الأراضي المنعزلة والبساط الفقيرة الجذابة التي قضت " أميلي برونتي " حياتها وسطها .. والأهم حيث يقبع منزل ( مرتفعات وذرينج ) الذي كانت رؤيته أعز وأغلي حلم في حياتي !
************
وأخيراً أنا أقف أمام منزل ( مرتفعات وذرينج ) شخصياً !
كدت أجن عندما قادني " بيتر " عبر سلسلة من التلال المتجمدة إلى منزل قائم أعلى تل متوسط يقع وسط سلسلة التلال التي لا نهاية لها .. وكان جانب التل الذي يقع عليه المنزل وكأنه بحر من الثلج إلى حد يُصعب معه أن تدرك الشكل أو الحجم الحقيقيين للتل .. وكان المنزل هناك ببرجيه المرتفعين في مواجهتنا .. كنا نقترب منه رويداً رويداً خائضين بحر الجليد هذا ، وكنت كلما اقتربت خطوة من منزل أحلامي يرتفع نبضي وتزداد ضربات قلبي التي صرت أسمع قرعها بوضوح في أذني .. وظللنا نخوض الجليد ثلاثة أرباع الساعة ؛ ولا أبالغ ؛ حتى وجدنا أنفسنا أخيراً أخيراً أخيراً في الساحة الخارجية للمنزل .. منزل ( مرتفعات وذرينج ) !
كان هناك إلى جوار المنزل صف من الشجيرات ذات الشوك تمتد جميع فروعها في اتجاه واحد .. والمنزل نفسه كان متين البنيان ذا نوافذ ضيقة غائرة وأركان مدعمة بحجارة كبيرة من الخارج .. كدت أندفع وأقتحم المنزل اقتحاما ولكن " بيتر " جذبني من ذراعي فجأة وصرخ في أذني بصوت حاول أن يجعله مسموعاً لي وسط زئير العواصف الثلجية حولنا :
" تمهل .. يجب أن نستأذن أصحاب المنزل أولاً ! "
فصرخت مجيبا إياه وقد أدهشني قوله كثيراً :
" أي أصحاب ؟! ألم تقل إن هذا منزلكم ؟! "
فأجابني بأعلى صوت ممكن :
" بلي ! كان كذلك حتى عشر سنوات مضت .. لقد باعه والدي لأسرة اسكتلندية .. أعتقد أنها ما زالت تمتلكه حتى الآن ! "
أدهشني كلام " بيتر " وكاد أملي يخيب .. إنه لم يخبرني بشيء من ذلك في القاهرة ، ولا حتى بعد أن وصلنا إلى لندن ، فقد كنت حتى الآن أعتقد أن مرتفعات وذرينج ما يزال ملكاً لأسرته .. جذبته من ذراعه ووضعت أذني بالقرب من أذنه وصرخت في ذعر :
" وماذا لو لم يسمحوا لنا بإلقاء نظرة على المنزل من داخله .. أعتقد أنني قد أفقد عقلي لو حدث ذلك ! "
ربت " بيتر " على ذراعي مطمئناً ، ثم تركني خلفه وبدأ يمشي بثقة نحو باب المنزل الضخم العتيق .. كدت ألحق به ، ولكنه أشار لي إشارة وقال لي آمراً :
" أبق هنا .. لن يستغرق الأمر إلا دقيقة واحدة ! "
وبالفعل توجه " بيتر " نحو الباب ودقه دقتين قصيرتين فُتح على إثرهما الباب .. وبرز وجه امرأة عجوز مكتنزة ذات مظهر شرير ووجه شاهق البياض ، ورأيت " بيتر " يميل على أذن المرأة ويسر إليها ببضع كلمات ، ورأيتها تجبه بكلمة واحدة وهي تشير بيدها اليسري وتبرز منها ثلاثة أصابع وكأنها تقول له : " ثلاثة "
لم أكن أفهم ما يدور أمامي بالضبط .. ولكني لم أستغرق طويلاً في التفكير فقد عاد إلى "بيتر " وعلامات خيبة الأمل مرتسمة على وجهه .. وأخبرني أن المنزل لا يوجد فيه حالياً إلا هذه المرأة وقد وافقت على إدخالنا والسماح لنا بالمبيت فيه .. ولكن لها شرط مهم لا تقبل التنازل عنه !
************
بعد ربع ساعة كنت قد تصرفت كما أشار على " بيتر " وكنت ؛ يا لسعادتي ؛ أدلف من باب منزل عائلة " إيرنشو " العتيق .. منزل مرتفعات وذرينج الحبيب !
كان على واجهة الباب حليات وزخارف حجرية غريبة يعلوها التاريخ 1500 واسم " هيرتون ايرنشو " .. توقفت متطلعاً ملياً إلى هذه الزخارف الحجرية ولكن صاحبة البيت بوجهها الطباشيري هتفت بحنق بجملة باللكنة الاسكتلندية لم أفهم منها حرفاً واحداً .. نظرت إلى " بيتر " مستفسراً فقال لي :
" إنها تريدنا أن ندخل من الباب الخلفي .. تقول أن لديها سبباً وجيهاً لذلك ! "
وهكذا درنا حول المنزل ودخلنا من الساحة الخلفية التي كانت تسبح في بحر من الثلج ، ودفع " بيتر " باباً خشبياً عتيقاً فرأينا وراءه المرأة الاسكتلندية إياها تحدجنا بنظرات صامتة غير مرحبة ، وقادتنا في صمت عبر غرفة مخصصة للغسيل ، وساحة بها مستودع للفحم ، ومضخة ، وبرج حمام .. وأخيراً وصلنا إلى غرفة استقبال ضخمة دافئة تشع بالبهجة .. خلعنا قبعاتنا وألقينا أنفسنا على المقاعد الوثيرة المريحة ولكنني فوجئت بالمرأة السمجة تصيح في وجهي ؛ وكأنها لا تري سواي أمامها :
" أرجوا أن تحاذر في تعاملك مع أثاثاتي أيها السيد .. إنها موجودة هنا من قبل أن تولد أنت ولست على استعداد لإفسادها لأجل خاطرك ! "
قالت ذلك بطريقة باردة قاسية وبلكنة يصعب فهمها ، وتعجبت أنها تعاملني أنا بالذات بهذه الطريقة ناسية أنها تسلمت منذ لحظات في يدها السمينة شيكاً بمبلغ ثلاثون ألف جنيه إسترليني عليه توقيعي !
تجاهلت أسلوبها المستفز وطلبت منها أن تحضر لنا شيئاً ساخناً نشربه ، فقد كدنا نتجمد وسط الساحة ، ولكنها أجابتني ببرود وهي توليني ظهرها لتغادر :
" أيها السيد المصري أنت في إنجلترا الآن .. أخدم نفسك بنفسك ! "
وبالفعل غادرت السيدة الغرفة دون أن تبدي أدني اهتمام بي أو ب" بيتر " المسكين .. ونهضت من مكاني وتفحصت الغرفة ملياً ولاحظت بجوار المدفأة ؛ التي كانت تشتعل بها نار هائلة ؛ موقد يعلوه رف وضعت فوقه علب من الشاي والسكر والحليب وعدداً من الفناجين والملاعق وكذلك براد ضخم تعلوه طبقات كثيفة من السناج .. وتوجهت نحو الموقد لأبدأ في إعداد الشاي ولاحظت على أحد أطراف الغرفة صفوفاً متتالية من الأطباق المعدنية الضخمة ، وفوقها أواني فضية وكئوس شراب تصل إلى سقف الغرفة .. أما أعلى المدفأة فقد كانت هناك بنادق كثيرة شريرة المظهر .. ولاحظت أن أرضية الغرفة ؛ التي كان نصفها ظاهراً ونصفها الآخر مختفياً تحت بساط خشن لا لون له ؛ مصنوعة من حجر أملس أبيض .. والمقاعد التي غصنا فيها فقد كانت ذات مساند عالية خضراء اللون .. ربما لا تهمك هذه التفاصيل في شيء .. ولكن كل من قرأ رواية ( مرتفعات وذرينج ) يعرف تماماً عما أتحدث .. إن هذه الغرفة نسخة كاملة التطابق من غرفة الجلوس كما وصفتها " أميلي برونتي " بنفسها !!
فقط شيء واحد تمنيت ألا يكون موجوداً كما وصفته " أميلي " تماماً .. ولكن للأسف فقد كان هذا أيضاً مطابقاً للقصة الأصلية .. فما كدت أبدأ في التوجه نحو الموقد لأصنع الشاي حتى فوجئت أن الأركان الأربعة للغرفة تحتلها كلاب ضخمة ذات مظهر مخيف .. ففي الركن أمامي مباشرة استلقت كلبة رمادية ضخمة على جانبها مظهرة أثدائها المنتفخة وحولها يتزاحم ستة جراء ذات لون رمادي أيضاً وكانوا يرضعون بشراهة .. زمجرت الكلبة الأم عندما تحركت نحو موقعها وكشرت لي عن أنيابها كلها .. أخافني هذا وحاولت الاستنجاد ب" بيتر " الذي كان غائصاً في مقعده حتى رقبته ويغط في نوم لذيذ غير شاعر بشيء مما يحدث حوله .. وشجع هذا الكلبة الأم التي فوجئت بها تنهض من رقدتها وتهجم على ساقي .. صرخت منادياً صاحبة البيت وألقيت بالكلبة بعيداً ، ولكن عندئذ أندفع لمهاجمتي كلبين آخرين من كلاب الرعي ، ثم ما لبث أن أنضم إليهم عدد آخر من الكلاب .. وهكذا وجدت نفسي محاصراً من جميع الجهات بكلاب شرسة متحفزة .. وهكذا فقدت سيطرتي على أعصابي وصرخت بأعلى صوتي مستنجداً ، فهب " بيتر " من نومه مذعوراً واندفعت السيدة صاحبة المنزل آتية من مكان ما وبيدها مقلاة ضخمة وهاجمت الكلاب بها وأجبرتهم على التراجع .. كانت يديها عاريتين وخديها حمراوين ووجهها عابس كالعادة وهتفت في حنق :
" لابد أنك لمست شيئاً .. إنهم لا يتدخلون فيمن لا يلمس شيئاً ! "
أغاظني كلامها وكدت أسبها لولا أن " بيتر " تدخل طالباً منها إحضار بعض الطعام لنا لأننا ؛ وهذا حق ؛ نتضور جوعاً .. فأجابته المرأة السمجة :
" هناك عشاء على المائدة .. وبعد ذلك سأقودكم إلى حجرات المبيت "
فذعرت وقلت لها مستنكراً :
" مبيت ؟! نحن لم نشاهد البيت بعد ! "
فأجابتني ببرود :
" العشاء والمبيت فقط هو ما أسمح به هنا ! سأقودكم إلى غرفتين في الدور العلوي مخصصتين للضيوف وشرطي أن تبقيا فيهما حتى تغادرا في الصباح .. أنا لا أسمح لكل من هب ودب بأن يتجول في بيتي ويتطلع إلى أشيائي الخاصة يا سيدي ! "
وبهذه العبارات المستفزة قادتنا إلى حجرة مائدة بهيجة في وسطها مائدة عليها ندف من الطعام لا تسمن ولا تغني من جوع .. كان عشائنا الذي دفعنا فيه خمسة عشر ألف جنيه إسترليني لا يزيد على عينات من الطعام وكأنها مُعدة للتحليل وليس لإطعام الجوعي !
وبعد تناول ما تسميه ( عشاء ) قادتنا السيدة إلى الدور العلوي وأشارت إلى غرفتين متلاصقتين .. ثم غادرتنا وذهبت .. وهكذا دلفت إلى حجرة كئيبة لأقضي أعجب ليلة مرت بي في حياتي .. ولكن ليس قبل أن أتبادل حديثاً مهماً مع " بيتر " !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.