والد "سارة" السادس مكرر بالثانوية الأزهرية: متعاطف مع موقف شيخ الأزهر وربنا يفك كرب أهلنا بغزة    "حماة الوطن" يعقد مؤتمرًا جماهيريًا بالجيزة لدعم مرشحيه في انتخابات الشيوخ 2025    وزير الأوقاف: مواجهة الفكر المتطرف وكل تحديات شعب مصر هو مهمتنا الكبرى    الطائفة الإنجيلية: دور مصر تاريخى وراسخ في دعم القضية الفلسطينية    شاهد اجتماع الرئيس السيسي ووزير الداخلية (فيديو)    محافظ أسوان يتفقد نسب الإنجاز بمشروعات المياه والصرف ميدانيًا (صور)    مصلحة الضرائب تحدد موعد إصدار ايصالات ضريبية إلكترونية على بيئة التشغيل    أسوان تواصل توريد القمح بزيادة 82% عن العام الماضي (صور)    بعد فشل مفاوضات الدوحة..الإرهابى ترامب والمجرم نتنياهو يعلنان الحرب ضد الفلسطينيين    نائب الرئيس الإيراني: الهجوم في زاهدان بدعم مباشر من الأعداء بهدف زعزعة استقرار البلاد    الأونروا تحذّر: الإنزال الجوي للمساعدات قد يقتل المجوّعين بغزة    تايلاند وكمبوديا تتبادلان الاتهامات بشأن الهجمات الحدودية    ترامب وفون دير لاين يلتقيان قبل أيام من موعد فرض الرسوم الجمركية    بحضور وزير الرياضة.. اتحاد الجمباز يكرم أبطال العالم للفني والإيقاعي    هل اقترب انضمام محمد إسماعيل للزمالك؟.. مصدر يوضح    الحاصلة على المركز السادس بالثانوية الأزهرية تلغي الاحتفال بتفوقها بسبب وفاة أحد جيرانها    السيطرة على حريق مفاجئ في محول كهرباء بإحدى قرى بني سويف    إصابة سيدة في انهيار منزل قديم بقرية قرقارص في أسيوط    11 ألف متردد خلال 5 سنوات.. انطلاق فعاليات حفل تخريج 100 متعافٍ من «الإدمان» بمطروح    "خطر صامت".. الجيزة تحظر سير "الإسكوتر الكهربائي" لحماية الأطفال والمارة    لا تذبحوا مها الصغير إنها فعلت مثلما يفعل الآلاف منا؟!    الصحة تدعم البحيرة بأحدث تقنيات القسطرة القلبية ب46 مليون جنيه    ماذا تأكل صباحًا عند الاستيقاظ منتفخًا البطن؟    تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء.. تحرير 154 مخالفة عدم الالتزام بغلق المحلات في مواعيدها    إنتر ميامي يضم صديق ميسي    خالد الغندور: الزمالك يستعد للإعلان عن صفقة جديدة    مفاجأة مالية في صفقة انتقال وسام أبو علي إلى كولومبوس كرو الأمريكي    رسميًا إعلان نتيجة الثانوية الأزهرية 2025 بنسبة 53.99% (رابط بوابة الأزهر الإلكترونية)    ارتفاع جديد للطن.. سعر الحديد اليوم السبت 26 يوليو 2025 أرض المصنع    التموين خفض أسعار الدواجن المجمدة بالمجمعات الاستهلاكية من 125 جنيهًا ل 110 جنيهات    مقتل 4 أشخاص في روسيا وأوكرانيا مع استمرار الهجمات الجوية بين الدولتين    مصر تنفذ مشروعًا مائيًا لحل مشكلة انسداد مخرج بحيرة كيوجا في أوغندا ب«ورد النيل»    النيابة تقرر إعادة استجواب الطاقم الطبي لأطفال دلجا بالمنيا    ودعت أبنائها ورحلت.. مشهد وداع تحول إلى مأساة على رصيف محطة إسنا بالأقصر    فلكيا.. موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 في مصر    عرض أفلام تسجيلية وندوة ثقافية بنادي سينما أوبرا دمنهور ضمن فعاليات "تراثك ميراثك"    في ذكرى رحيله.. توفيق الحكيم رائد المسرح الذهني ومؤسس الأدب المسرحي الحديث في مصر    حتى الآن.. ريستارت ل تامر حسني، يحقق يقترب من 93 مليون جنيه بما يعادل 717 ألف تذكرة    تقارير: إيفرتون يقترب من الانضمام إلى بيراميدز    كريم فؤاد يرد على شائعات إصابته بالرباط الصليبي: "اتقِ الله يا أخي"    المعز علي: مونديال الناشئين 2025 حافز قوي لصناعة جيل جديد من النجوم    مصر تستعرض تجربتها في مبادرة «العناية بصحة الأم والجنين» خلال مؤتمر إفريقي    كم مرة يجب تغيير «ملاية السرير»؟.. عادة بسيطة تنقذك من مشكلات صحية خطيرة    وزير الثقافة ناعيًا الفنان اللبناني زياد الرحباني: رحيل قامة فنية أثرت الوجدان العربي    الاتحاد الإفريقي يرحب بإعلان ماكرون نيته الاعتراف بدولة فلسطين    جيش الظلم يعلن مسئوليته عن هجوم المحكمة في إيران.. و5 قتلى كحصيلة أولية    يوم الخالات والعمات.. أبراج تقدم الدعم والحب غير المشروط لأبناء أشقائها    إعلام فلسطينى: الاحتلال يستهدف منزلا غرب مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة    30 يوليو.. انطلاق الملتقى العلمي الأول لمعهد بحوث الصناعات الغذائية    أسامة قابيل: من يُحلل الحشيش يُخادع الناس.. فهل يرضى أن يشربه أولاده وأحفاده؟    أعرف التفاصيل .. فرص عمل بالأردن بمرتبات تصل إلى 35 ألف جنيه    ليلة أسطورية..عمرو دياب يشعل حفل الرياض بأغاني ألبومه الجديد (صور)    بعد ظهور نتيجة الثانوية 2025.. وزارة التعليم: لا يوجد تحسين مجموع للناجحين    "الحشيش حرام" الأوقاف والإفتاء تحسمان الجدل بعد موجة لغط على السوشيال ميديا    أجندة البورصة بنهاية يوليو.. عمومية ل"دايس" لسداد 135 مليون جنيه لناجى توما    دعاء الفجر.. اللهم إنا نسألك فى فجر هذا اليوم أن تيسر لنا أمورنا وتشرح صدورنا    الأوقاف تعقد 27 ندوة بعنوان "ما عال من اقتصد.. ترشيد الطاقة نموذجًا" الأحد    بعد «أزمة الحشيش».. 4 تصريحات ل سعاد صالح أثارت الجدل منها «رؤية المخطوبة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة : النهر للراحل نهاد شريف من مجموعة نداء لولي السري ... خيال علمي
نشر في شموس يوم 07 - 02 - 2014


كتب: محمد نجيب مطر
القصة المطروحة للنقاش لأعضاء قسم القصة والرواية - صالون شريف العجوز الأدبى
لو تجمع كل حنان البشر منذ بدء الخليقه الى يومنا هذا ... وتركز فى حدقتى واحد من الناس ... لما تضح فى مثل هذا العمق الذى بان فى اغوار عينيه ... ولو انطبع على وجه انسان كافة حب البشر وعواطفهم الجياشه ....لما صور شدة اللهفه التى نطقت بها قسمات وجهه الحزين ... واليائس الى اقصى الحدود ... هكذا كنت أراه طيلة الاسبوع الماضى .... وقد جلس قبالتها ...لايحيد ببصره عن وجهها الشاحب السارد فى غيبوبه كاملة ... فقط ... كنت المحه يتململ أحيانا فوق كرسيه مادا أصابعه فى عصبية وكأنه يصارع شبحا غامضا يود انتزاعها من براثنه .... وأحيانا اخرى كان فكه يتصلب ...وفمه ينكمش ...وتظل شفتاه تتمتمان بكلمات مبهمه تتخللها أنات ألم مكبوت يهرئ قلبه ويجميه ، على أن تتابع الأيام ما كان ليغير من رتاب' المنظر الذى بات يطالعنى مع بداية مرورى الصباحى من أمام حجرتها .... فيحط على نفسى الى أن تنتهى نوبة عملى فى الثالثه مساء ... فالفتاه لا تزال راقدة بداخل خيمة الأكسيجين ...فى غيبوبتها القاتل' ...وقد أحاطت بوجهها الحلو القسمات جدائل شعرها الفاحم ....تلتق فى موجات هفهافة ....حتى تستقر خصلاته أعلى نهديها الصغيرين ....فتبدو كالمغرقة فى النوم ...وذراعها تبرز من اسفل غطاء الخيمه فى انثناءة خلت من الحيوية ...لتنغرس فيها ابرة الجلوكوز تيحب الى شرايينها قطرات ضئيلة من قبس الحياة ... وفى حين ... وياللعجب ... كانت تتلألأ عبر شفتيها الورديتين اللتين لم تطفئهما الغيبوبة ابتسامة تصور ذرا السعادة والنشوة والرضا .
وحينما كان يسألنى بعض نزلاء المستشفى أو زواره عن السر وراء اهتمام الرجل وايثاره لهذه المريضه بالذات ....كنت ألوذ بالصمت ولا أجيب بحرف ...مع أننى الوحيد-فى ظنى – الذى يعرف تفاصيل القصة الدفينة وراء أشجانه ولوعته ... فقد امتدت الصلة الوثيقة بيننا الى أبعد من عامين مضيا .... ان لم تخنى ذاكرتى فان أول لقاء معه كان خلال أمسيه كئيبه لم ينقطع المطر خلالها عن الهطول غزيرا منذ الصباح الباكر ...وكان قج مر سبهة شهور على التحاقى بوظيفة مساعد أشعة فى المستشفى الحكومى بدمنهور ...حين استدعانى كبير أطباء المستشفى يومذاك الى مكتبه ... لأشاهد الرجل يقف بجواره تحت لوحة بيانية ملونة يتشاغل بتفحصها ....
– هذا هو حسنين لذى حدثتك عنه ....انه منخيرة العاملين المشهود لهم بتفانيهم فى عملهم . استدار الرجل ليواجهنى بوجهه الوسيم ونظراته النافذة :
- أهلا !
- أهلا بك يا سيدى !!
بينما استطرد كبير الأطباء :
- الدكتور أمين عزمى أخصائى جراحة المخ والأعصاب ... قد أفضى الى برغبته فى الحاق شخص موثوق بكفاءته ليساعده فى أبحاثه التى يجريها بمعمل خاص بمنزله ....فلم أجد سواك لأرشحه .... قلت :
- أرجو ملاحظة أنى أعمل معظم النهار بالمستشفى ........
- ان الدكتور يكتفى بعملك لديه أثناء الفترة المسائية .
وقبل الدكتور خدمتى بعد أن تفحصنى طويلا كما رحبت أنا بعرضه المجزى فحاجتى كانت ملحة لزيادة دخلى ....الا أن الانطباعة الأولى لؤيتة الدكتور أمين أشعرتنى شيئا من النفور لم أدرك كنهه حيال الرجل الذى بدا يومها باردا متعاليا ... يكاد أنفه يلامس سقف الحجرة وينقذ منه ... فهل كنت متسرعا فى حكمى عليه ؟ على أن الأيام كلما أوغلت بى فى خدمته كانت تزيدنى قربا منه وتعودا عليه .... ورويدا رويدا انجابت الصورة القاتمه التى سبق أن رسمتها له فى أعماقى .... صحيح أنه كان قليل الكلام معى غير أنه كثيرا ما أسبغ على عطفه ومودته .... كما كانت معاملته لى نموزجية ... وبمرور الأيام على عملى بمنزل الدكتور أمين كنت قد ألممت ببعض المعلومات عن حياته... فعرفت أنه مجهول الموطن مجهول الأسرة .... وعرفت أنه يعيش فى منزله – المكون من حجرتين أماميتين ومعمل كبير يمتد خلفهما – الحياة غامضة ....وأنه بطبعه يتجنب الأختلاط ولايصادق أحدا من الناس .... وأن علاقاته مع زملاءه الأطباء يشوبها التحفظ الشديد ....كذلك كان زوراه فى منزله معدودين فيما عدا مساعده الطبيب الشاب وفتاة نحيفة هى نفس الفتاة الغائبه عن وعيها بالمستشفى والتى قيل لى انها ابنة جار كان يسكن قبالته فى زمن مضى وهو يصطفيها كابنته .... غير أن الأمر الذى ام يكن يصل اليه ادراكى ويسبب لى هما كثيرا بل وكان يشكل قبالتى حلقات متداخلة من التيه والغموض انما هو أبحاثه ...تلك التى كانت تستغرق كل وقته وكل مشاعره ويظل عاكفا عليها الساعة تلو اتلساعة دون زاد وبلا أقل قسط من رحة... وكنت اذا ما خلوت وحدى فى معمله المتسع الأرجاء لأنظفه وأرتب أدواته وأطعم ما فيه من حيوانات وحشرات تبرز فى رأسى تساؤلات شتى عن كنه ما يدور هنا فى أعماق الليل حتى اذا ما عدت فى اليوم التالى راعنى ما أجده من فوضى شامله فى الاثاث والمعدات ومن روائح غريبه تعبق المكان الى محاليل مسكوبة وحيوانات ميتة .... ولما كان المعمل يطل بنافذتيه وبابه الوطىء على حديقة خلفيه للمنزل فقد كنت ألمح الدكتور عقب حضورى فى أغلب الأحيان يجوس- وذراعاه متشابكتان خلف ظهره – بينأشجار الحديقة المهملة واحواضها الخالية من النباتات وقد اعتراه تفكير عميق ... وكثيرا ما كنت أسمعه يصفر بفمه لحنا موسيقيا قديما أو يحدث نفسه فى صوت خافت لا أتبين تفاصيله ثم اذا به يهرع الى مكتبه ليخرج مجلدا ضخما أحمر الغلاف ويظل يدون فيه كلمات عجلى يملأ بها صفحات مطوله خلال دقائق يسيرة ..... وقد تجرأت ذات أمسيه وكنت قد سمعته يدندن لحنا لسيد درويش فدلفت الى الحديقة واقتربت أوجه اليه سؤالا عابرا :
- يا دكتور !
وبدا كمن أوقظ من حلم مخيف : - اه ...نعم !
- معذرة ....فهذا الكلب الميت وقد غرست فى عنقه بضعة أسلاك معدنية .... لا أدرى هل أواريه التربه و الأ سلاك معه أم أنزعها أولا ؟
- لا حاجة لى بها .
– ألا تنفعك فى تجربة مماثلة ؟
- لدى منها الكثير ... فدنوت أكثر وسألته :-
- وفيم استخدامك لأسلاك معدنية يادكتور؟
- أعنى هل التجربة كانت تدور حول شىء يختص بالكهرباء ....كهربائية المخ مثلا ؟
تطلع الى الدكتور فى امتعاض وقد بوغت من تدخلى ..... ولكنه همس فى هدوء وكأنه يوجه كلامه الى صبى جانبه السلوك القديم :
- ان ماهية التجارب التى أجريها من شأنى وحدى يا حسنين ..... غير أننى استطعت أن أفوز باجابة حاسمة على سؤالى عقب ذلك بأسبوعين .... فقد تصادف أن نسى الدكتور أمين مجلده الضخم على مكتبه دون أن يغلق عليه درجا من أدراجه المكتظة بالأوراق والأدوات ....وبلا تردد تناولته ورحت أقلب صفحاته وأنا لاهث الأنفاس .... وكانت الصفحات الأولى من المجلد تتناول تجارب تدور بالفعل حول التنبيه الكهربى للمراكز العاطفية بالمخ البشرى و ذلك ضمن دراسة متسعة عن مرض الصرع وطرق مقاومته ... وقد أفرد الدكتور أمين صفحات كاملة من الدراسة تناول فيها أجزاء المخ وفصوصه المختلفة بالتحليل والتعليق ذاكرا طرق قياس كهربائيتها بجهاز رسم المخ الكهربى والأجهزة الالكترونية الأخرى ... وبدا أنه كان يركز غالبية تجاربه المبدئيه على الحيونات فى الأجزاء الخلفية من أمخاخها والمقابلة فى المخ البشرى لما يسمى ( منطقة الثلاموس )..... وحين وصلت فى قراءاتى الى الصفحة الخامسة والثلاثين من المجلد استرعت بصرى السطور التالية وقد دونت على ما يبدو فى عصبية محمومة .... " الأربعاء 16/4/1961
تملكنى ليلة البارحة تفكير عميق أرقت معه حتى ب.وغ فجر اليوم وذلك عقب اجرائى للتجربة على مخ الأرنبة من نوع البوسكات .... فكلعادة وجريا وراء البحث الذى أعده حول الذبذبات الكهربائية بأمخاخ الحيونات فاننى قد أجريت التجربة على الأرنبة الوديعة الناعمة الفراء طيلة يومين كاملين قيدت خلالها الأرنبة بطاولة خشبية على مرأى من ذكرها الذى شمله فى هذه الاُثناء ذعر شديد لأخذنا اياها بعيدا عنه ....فكان لا يفتأ يروح ويجىء بداخل قفصه الضيق ثم يشرئب بقائميه الأماميين ليتطلع وعيناه تبرقان فى اتجاه أنثاه والأسلاك المعدنية تغطى رأسها الصغير ثم يعود فيضرب أرضية القفص بقائميه ضربات عنيفه تعبر عن غضبه ويعاود من جديد حركته الدائبة فيما وراء القضبان التى تحجزه عنها .... ومع حلول ليل ثانى أيام التجربة التى كانت قد شارفت على نهايتها طلبت من عم طلبة مساعدى العجوز أن يضع على الطاولة المجاورة أرنبا اخر من النوع البرى ومن ثم يوصل الأسلاك المعدنية بين مخى الأرنبين لاجراء مقارنة كهربائية أخيرة .... وحين دخلت حجرة المعمل أنرت لمبة السقف القوية واتخذت مكانى قبالة جهاز رسم المخ وجهاز القياس الالكترونى الموصلين بمخ الأرنبة ولكن تصادف فى هذه الاونة أن انقطع التيار الكهربائى فأظلمت حجرة المعمل كما يحدث فى بعض الليالى لانقطاع التيار بالمدينة كلها .... ولدهشتى البالغة طالعتنى من خلال الظلمة ظاهرة محيرة لم أستطع لها تفسيرا ...فعير الظلام الجاثم على حسمى الأرنبين شاهدت مايشبه ومضات مستطيلة من ضوء فيروزى باهت يخرج من مخ الأرنبة ليسير على الأسلاك بطيئا ...حانيا...فى اتجاه مخ الأرنب فيسكن فيه ...
ترى ماكنه هذا الضوء الروحانى الغريب ؟!
ولماذا يخرج من الأنثى ليسير الى الذكر وليس العكس ؟!
ولقد ظل سريان السيال من الضوء الباهت وتدفقه من مخ الأرنبة الى مخ الأرنب مستمر لمدة 16 دقيقة فاذا أضفنا اليها 20 دقيقة أخرى هى الفترة منذ وصل عم طلبة الأسلاك بين مخى الحيوانين وحتى دخول حجرة المعمل لمباشرة التجربة تكون مدة تدفق السيال الضوئى قد بلغت 35 دقيقة تقريبا .... ومع سطوع الضوء ثانيا فاننى كنت أعيش دوامة كبرى من الذهول والتخبط لم أقو معها على مواصلة المكوث فى معملى ....فانى الان بازاء ظاهرة شاذة ....لم أسمع ولم أر مثلها من قبل .. وهى دون شك فى حاجة ملحة للتأمل والبحث العميقين خاصة أنى حين نظرت فى لوحة جهاز رسم المخ الكهربى فوجئت بتوقفه تماما كأن قوى خفية أسكتته عن العمل برغمه وكذا الجهاز الالكترونى كان صامتا ...اذن فالظاهرة لا علاقة لها بالكهربائية كلية ... والذى زاد فى دهشتى بعد كل ما تقدم ذكره كان موت الأرنبة البوسكات عقب فك قيدها كذلك فقد اكتشفت أيضا أن الأرنب الاخر لم يكن سوى ذكر الأنثى البوسكات نفسه فقد نسى عم طلبة وأتى به بدلا من الأرنب البرى" .
وقلبت صفحات تالية من المجلد ذى الغلاف الأحمر قرأت فيها وصفا لمحاولات قام بها الدكتور أمين لكشف سر السيال الضوئى دون جدوى حتى توقفت فى الصفحة 213 قبالة نظرية خرج بها الدكتور لتفسير الظاهرة الغريبة حيث كتب بقلمة الجاف الحبر وفى كلمات دقيقة متجاورة تشبه خط النساء : "الأحد 31/8/1961 .
هل السيال الضوئى هو الروح ؟
لقد خيل الى لبرهة مجنونة من الوقت أننى بازاء اكتشاف أجل أسرار الوجود وأكبر معج.اته المغلقة ... وذهبت بى الخيلاء الى أن الله – لسبب لا أدريه – قد اصطفانى لأطل على السر الأزلى وأعرف ماهيته ... فهل أنا على عتبة الروح حقا ؟! لقد قلت لنفسى بعد موت عدد من حيوانات التجارب عقب خروج السيال الضوئى منها انه الروح ... أو جزء من مكوناتها ... أو ان له على الأقل علاقة وثيقة بها .... ولكنى على يقين الان أن السيال الضوئى ليس بالقطع شيئا من هذا كله..فقد عاش فيما عدد اخر من الحيوانات – بعد انبثاق السيال الضوئى منها – لساعات طوال قبل أن تموت ... ومن مشاهداتى اتضح لى كذلك أن ظاهرة السيال الضوئى لا يتم حدوثها الا بين كائنين حيين متالفين يكونان من جنس مماثل شريطة مرض أو احتضار أحد هذين الكائنين فيتدفق منه السيال الى الثانى السليم ... وان كنت وبعد مرور أربعة أشهر ونصف أجدنى ما.لت لا أعرف حقيقة السيال الضوئى .. وكيفية تدفقه من كائن لاخر ...ثم لماذا يذهب من الأضعف الى الأقوى ؟! وتحول الدكتور فى الصفحات 214, 215, 216 يرثى مساعده العجوز الذى توفى بالسكتة القلبية لكبر سنه ويعدد مناقبه دون أن يذكر شيئا عن ظاهرة التى شغلته طويلا ....ثم عاد فتكلم عن تجربتين يبدو أنه قام باجرائهما وحده فأشار الى نتائجهما ببعض الأرقام والمصطلحات المبهمة ... وكذا وجدت كتابات الدكتور تنتهى بانتهاء الصفحة 260 من مجموع صفحات المجلد البالغة 300 صفحة من القطع الكبير.
* * *
مرت تسعة عشر شهرا وأنا أعمل فى خدمة الدكتور أمين استطعت خلاها أن ألم بغالبية متطلباته الماما كبيرا ...والأهم أننى أيضا أصبحت على بينة بطباعه وحدة مزاجه وهو أمر تجب معرفته اذا عمل الشخص لدى واحد من هولاء المفكرين الباحثين خاصة عندما تحتويهم صوامع بحثهم ... وقد كان أكثر ما يغيظ الدكتور ويثير غضبه أن يقطع حبل تفكيره نداء ساذج أو ضوضاء طائشه .... ولم يجر الدكتور طيلة الزمن المنصرم منذ وجودى معه سوى تجارب أربع أشركنى فى الأخيرة منه فحسب ربما لعدم تأكده من خبراتى بعد ... وقد أجريت التجارب الأربع على اربعة أزواج متالفة من ذكر وأنثاه كان زوجان منها من الفئران الجبلية وزوج من نموس الغيط وزوج من الثعالب المصرية ... غير أن التجارب الأربع على ما يبدو لم تكلل بالنجاح الذى كان يرجوه لذلك فقد انصرف الدكتور الى نوع من البحوث انصب معظمه على تفحص الصور الفوتوغرافية وصور الأشعة تحت الحمراء والأشعة البنفسجية التى التقطها للسيال الضوئى أثناء مروره عبر الأسلاك من حيوان لاخر كذلك فقد قام باجراء عدة تغييرات وتحسينات فى شبكة الأسلاك المعدنية ونوعية الأسلاك نفسها وطريقة توصيلها بفصوص المخ المختلفة سواء عن طريق غرس نماذج من الابر المعقمة أسفل الأذنين للجس الداخلى أو بوضع مجسات بالغة الحساسية للجس السطحى فى أماكن مدروسة بأعلى الأم الجافية أو بالجزء الجبهى من القشرة المخية القاعدية الحديثة ... على أن أبرز حدث وقع منذ التحقت بالخدمة لدى الدكتور أمين كان شيئا مغايرا يبعد عن مجال أبحاثه ودنيا معمله ومستشفاه كلية .... فقد تصادف عند مجيئى لمنزل الدكتور فى احدى الليالى وكانت ليلة شديدة القيظ راكدة الهواء ... وبينما أنا أدور مع ناصية الشارع المواحه لمنزله ...اذا بى أجد على غير العاجة سيارة رمادية فخمة تقف أمام البوابة الرئيسة للمنزل ...ومررت بالسيارة أتفحصها فى فضول ثم جريا على عادتى عبرت البوابة وسرت فى ممر جانبى قادنى الى الحديقة الخلفية ومنها دلفت الى داخل المعمل مباشرة ...على أننى وقد هممت باضاءة النور تناهى الى صوتا شخصين يتشاجران بحجرة الجلوس المجاورة ... وقد تطايرت الكلمات الى سمعى على الرغم منى لأعرف حقيقة الشجار الدائر بين الدكتور أمين وزائره الغامض الذى دل صوته الأجش والأخنف بعض الشىء على أنه لرجل وليس لامرأه .
فرقت كلمات الزائر ذى الصوت الخشن مهددة منذرة :
- هذه كلمتى الأخيرة ...ولابد من الأخذ بها .
وجاء صوت الدكتور مرتاعا :
- ولكنه... قرار ...بالغ القسوة....
اعترض الزائر :
- انه فى صالحها على أى الحالات ...فأنا أريد لها تعليما جامعيا راقيا ....وأريد لها زيجة تليق بمركزها الاجتماعى المرموق ...
– ولكنها ابنتى يا عبد العظيم ....وأنا أنشد لها السعادة قبل الثراء والمركز والجاه وكل هذه الأشياء... قال الزائر وصوته يمزق الجدران الى حيث أقف بالعمل :
- بل هى أمام الناس ابنتى أنا ....وهى تحمل اسمى سواء شئت أو لم تشأ أم تراك ترغب أن أطلعها على حقيقة مولدها ؟
وبدا الفزع طاغيا فى نبرات الدكتور وهو يتمتم :
- لا...لاداعى ...مستحيل أن أجعلها تعلم أنها أتت الى الدنيا عن طريق غير شرعى ...مستحيل...
– اذن نفذ ما أطلبه منك ....
غمغم الدكتور فى صوت واهن :
- سأطرق كل وسيلة لأبعد الشاب عنها ....أعدك بذلك ...أعدك بذلك ....
ثم أضاف حزينا يائسا :
- مع أنها شديدة التعلق به...ومع أنه انسان ممتاز ينتظره مستقبل حافل ...
– ان أصله غير مشرف ...هل نسيت أن أباه كان يتاجر فى الملابس البالية ؟
- وبالرغم من ذلك فقد استطاع أن يصنع من ابنه شيئا عظيما .. استطاع أن يجعله طبيبا ناجحا ..ولقد أصبح الدكتور أحمد مساعدا لى فى المستشفى....
عاد الزائر ذو الصوت الخشن يتكلم فى ثورة جامحة :
- لا داعى لكل الذى تذكر ... أريد أن أنتهى .. هل ستنفذ كلامى أم لا ؟
- س..سأنفذ
- حسنا.. ولتثق تماما أننى أحب هذه الفتاة كابنتى ومتعلق بها مثلك ...واذا قسوت عليها فانما أفعل ذلك فى سبيل مصلحتها .
ولم يجب الدكتور ...لم يتفوه بكلمة واحدة ... فقط تعالى وقع خطوات ثقيلة راحت تبتعد حتى انصفق الباب خلفها ....ودوى فى أعقابها صوت محرك سيارة سرعان ما خفت بدوره حتى تلاشى ..وساد سكون ملؤه التعاسة أحسست خلاله بأن هناك فى الحجرة التى يفصلنى عنها جدار رقيق قطرات ساخنة تتساقط من عينى رجل ... وحاولت أن أبدد الجمود الذى شملنى فأنرت حجرة المعمل وبدأت أزاول عملى فى أنحائها ..ولكنى لم أعد فى أعماقى انسانا طبيعيا .. لقد أثقلنى السر الذى عرفته وملأ حناياى بالأسى حتى أصبحت لا أتبين حقيقة ما تؤديه ذراعاى من مهام وحتى أصبحت أحزان الدكتور تغطى كافة الرؤى أمام بصرى ...واتضحت حقيقة انطواء الدكتور واعنزاله الناس ونظرة اليأس التى لا تفارق وجهه ... اتضحت ورسخت فى مخيلتى ... حقا انه يعيش مأساهة عميقة الجذور .. انه يعيش مأساة فلذة كبده التى يراها تنمو وتكبر تحت سقف سواه... انه يبكى سنوات الضياع والهروب دون أن يمنحها أبوته وحنانه الصتدقين .. وتسلل الدكتور الى حجرة نومه ولم يبرحها .. ولم أجرؤ بدورى على تعكير خلوته ...فقط أعلمته بحضورى ثم بانصرافى من خلف الباب النافذ الى حجرة النوم .. وظل الدكتور أمين مريضا لعدة أيام متتالية .. صحيح أنه قابل مساعده الطيب الشاب بعدها بيومين وتجاذب معه حديثا مريرا ... وصحيح أنه أخذ يتردد على المستشفى كدأبه فى الأيام العادية .. الا أننى كنت ألمح المرض والسقام يطلان من عينيه ... وفيما يبدو كانت العلة تستقر فى نفسه غائرة عن سائر أجزاء بدنه .
ولكنى كنت ازاءه عاجزا ...مقيدا...لا أعرف كيف أمد اليه يد العون دون أن أسبب له المزيد من الالام .... ومرت أيام طويلة ...ثقيلة ..بالغة الملل ...ولكنها مرت على كل حال .. وخيل الى أن الدكتور قد استعاد فى أعقابها بعضا من روحه ...والكثير من قواه ...لدرجة أنه بات يدخل معمله...
وفى المبدأ كان يقنع بالقراءه فى عدد من المراجع ويدون بعض الملاحظات التى تعن له أو يستخلصها من معادلات حسابية ...حتى باغتنى مؤخرا بطلب اعداد المكان لتجربة وشيكة ... وبالفعل أجرى الدكتور أمين تجربة جديدة على ذكر وأنثاه من الأرانب البلدية كان كل منهما مغرما بصاحبه بصورة واضحة ...وعقب التجربة .. سجل فى مجلده ذى الغلاف الأحمر الكلمات التالية ....
السبت 14/7/1962
على الرغم من عدم حصولى على نتيجة نهائية لأبحاثى حتى هذا التاريخ الا أننى بت أرجح أن السيال الضوئى ان هو الا الصورة المرئية لشىء بالغ السمو ... انه الجوهر من العواطف المتأججة أو هو نهر السعادة الحقة ..يتضح مرئيا لأول مرة أمام بصر انسان على ظهر الأرض قاطبة خلال تدفقه الرائع ليأخذ مسيرته الى اللقاء ... فالالتحام ...بعد أن ترك الجسد الفانى – أوأوشك – ليمتزج بالروح الأبدية .. وهو ذروة ما يمنحه المحب لحبيبه...
وبمعنى أكثر وضوحا اننا فرقنا بين زوجين متالفين من الكائنات الحية مهما كان جنساهما ثم حضرت أحدهما ساعة الاحتضار فطالما وجدت الوسيلة – وليكن سلكا معدنيا – فانه يمكن نقل السيال العاطفى وهو ما يرى فى الظلمة حانيا ... باهتا .. من الكائن المحتضر الى الاخر السليم ليتلاقى الاثنان فى واحد فالأمر أشبه بوداع أبدى يترك فيه المسافر شيئا من نفسه لدى مودعه ... ولايهم أن تم النقل من الأنثى للذكر أو من الذكر للأنثى ... على أنه وكما أكدت كافة تجاربى فان هذا اللقاء لايكون بين ذكرين أو أنثيين مهما كانت درجة الالف بين الثنائى منهما حتى لو كانا توأمين ..
* * *
كان وجهه مصفرا شاحبا فى شحوب وجوه المرضى .... وكانت الرجغة تشمله من قمة رأسه الى اخمص قدميه ...وحين تنبه لوقوفى بجانبه استدار الى بنظره الغريق الذى يلوح طوق النجاة على مرمى ذراعه ولكنه عاجز عن التقاط الطوق ... فقد تحجرت الكلمات على طرف فيه المفغور فى مواجهتى ... فأشحت ببصرى بعيدا يعترينى الارتباك لمظهره المحطم ...وتشاغلت بالبحث عن السر وراء استدعائه العاجل لى لمقابلته بالمستشفى فى هذه الساعة المتأخرة من الليل وقبل أن أبرأ من الوعكة التى ألزمتنى الفراش منذ أمس الأول .
وبذل الدكتور أمين جهدا خارقا حتى استجمع شتات قواه وأمكنه فى النهاية السيطرة على مشاعره فقد أحسست أصابعه الباردة تتشبث بيدى فى تردد ...ثم تسلل الى أذنى صرير جاف يشله مفصلات صدئة ليست فيها نغمة واحدة من صوته ...
- انها ترقد هنا ... فى الحجرة المجاورة ...وهو يرقد على فراش يقابل فراشها ... ان الاثنين .. انهما فى غيبوبة كاملة يصارعان الموت منذ الظهيرة ...
- أرتج على :
- من هى ؟
- شهيرة ...
– أفلتت الصيحة برغمى –
– ابنت..
– أجل ابنتى .... وأنا أعلم أنك تعرف الكثير عنها ...
ولم أقو على الانكار :
- والاخر الدكتور أحمد ؟
- ويبدو أن وجهى كان ينطق بالدهشة بصورة فاضحة فقدسارع الدكتور بقول :
- لقد علمت بفرارهما معا ليتزوجا فجر اليوم .... ثم جاءا بجسديهما الى المستشفى ظهرا عقب حدوث الفاجعة ...لقد اصطدمت سيارتهما بسيارة نقل فى الطريق الصحراوى الذاهب للقاهرة بعد أن أمضيا ليلة فى الاسكندرية ...
سألته فى لهفة :
- وما مدى اصابة كل منهما ؟
-خرجت الكلمات بصعوبة فى أعقاب اهة حاول أن يكتمها :
- الاثنان حالتهما بالغة الخطورة ...وان كان موقف الفتى أسوأ من الفتاة ... – ومتبنى الفتاة ...ألم يبلغه النبأ ؟
- لقد علم ...لكنه أبى أن يراها ما دامت قد عصته وفرت ...
– وما فرصتهما فى النجاة ؟
- بالنسبة لها فلدى بعض الأمل ... وأما بالنسبة له ... فقد لا يطلع عليه صبح الغد على الرغم من
- اجراء كافة الاسعافات الضرورية وأولها نقل كمية من الدم اليه .
- رددت أحاول تهدئته :
- سيعيش ...
قال فى أسى :
- لا أظن ...ومن أجل هذا استدعيتك ...
– وما الذى فى مقدورى أن أقدمه لها ؟
- لن يقدم لهما انسان أكثر مما قد قدم .. والأمر قد خرج الان من أيدينا نهائيا وأصبح بين يدى الله ...
- حيرتنى كلماته :
- اذن ف ....
قاطعنى :
- لقد ألحت فى طلبك من أجلى أنل .... لتساعدنى فى تقديم هبة أخيرة ... لابنتى ..
– لا أفهم ؟
- قال وكأنه يقرر أمرا مفرغا منه :
- سأنقل سياله الضوئى اليها .
– أتعنى .. حقا .. ما تقول ؟!
- وفورا
- أمدنى الانفعال المندلع فى صدرى بالجرأه لأعارضه بقسوة :
- ولكنه الجنون بعينه .. فأنت لم تجرب أبحاثك هذه على واحد من البشر مطلقا ... أفلا تقدر مدى ما أنت مقبل عليه ... ألا تعلم أنهما قد يقضيان نحبهما جراء فعلتك ؟
- صدقنى ... لا يوجد أى تأثير مميت للمحاولة ....
– ولماذا لم تجرها على انسان حتى اللحظة ؟
- كانت هى خطوتى التالية .
– قلت فى حزم :
- ومع كل فانى لن أساعدك ... وسأمنعك أيضا ...
- غير أن الغضب لم يتملكه من سلاطة لسانى وحدتى عليه وانما أطرق برهة الى الارض قبل أن
- يهمس ضراعة :
- دعنى أمنحها شيئا يا حسنين .. دعنى أمنحها الشىء الوحيد المتبقى لدى من أجلها ..فمنذ ولدت لم تر منى الا العقوق ... والتنكر ..والسلبية .. لقد نبذتها حيث كان يجب أن أقف بجوارها بأبوتى الحقة ... انها فرصتى يا حسنين ... لأعطيها أغلى ما فى الوجود .. السعادة .. نهر السعادة ... ونزلت على ارادة الأب البائس الملتاع ... وأجريت التجربة المهولة ولا رقيب لها سوانا نحن الاثنين..وقد تم تركيب الأدوات – التى جلبها الدكتور من معمله فى حقيبة – على رأس الفتى وبعده على رأس الفتاة حيث ثبت بخبرة الجراح القدير المجسات الحساسة تحت منطقة الثلاموس فيما وراء الجمجمة والتى تحتوى النقاط القوية للعاطفة ...ثم وصل الأسلاك المعدنية الرقيقة بين الاثنين ... وحينئذ أطفأت النور بالحجرة لتبدأ التجربة المثيرة وسط أعمق سكون شعرت بوطأته فى حياتى ... ثم تدفق السيال الضوئى ...
- قويا ...باهرا ...هذه المرة ...
- ياللروعة ! ...ياللقدرة الالهية القابعة فى ثناياه !...لقد لاح بغتة ...وكأنه الرحيق ينبثق من قلب زهرة خالدة ...أو هو جدول من أطياف ملائكية ينساب عبر اللانهائية ...وليس فى الوجود ما هو أجمل وأرق من ضوئه الفيروزى الحانى الذى يشد البصر والمشاعر مع مجراه الحالم ... ولم أدر أكانت النشوة تتدفق من السيال الضوئى الى مخ الفتاة .. أم الى أغوار روحى .. واستمر تدفق السيال ساعة وخمسين دقيقة من الزمن الاأسطورى ... ثم أوقف اتصال الأسلاك .. ورفعت الأدوات جميعها ...وقرابة منتصف الليل سكنت أنفاس الطبيب الشاب نهائيا بينما بقيت رئتا الفتاة ترددان أنفاسا خافتة وهى سادرة فى غيبوبتها تتأرجح على خيط رفيع بين الحياة والموت ..وظلت على حالها طيلة الأسبوع الماضى ... وأنا أراقبها خلال مرورى من أمام حجرتها بالمستشفى تضمها خيمة الأكسيجين التى لا ترفع ... وترتسم على شفتيها نفس الابنسامة السعيدة التى لا تزول ...
- فى حين يجثم قبالتها أبوها الدكتور وقد أصبح مجرد شبح ذاو محطم يختلج صدره برجاء واحد لم يطمع فى مثله طوال حياته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.