تصدر عن دار السلام للطباعة والنشر .. جدي دائماً .. إحدى قصص هناء جودة فى مجموعتها القصصية "وجوه تشبهني" هاهي ذكراه الخامسة ذلك الرجل الأسطورة، لم يتوقف الحديث عنه يوماً، ذكراه دوماً تطرز القلب بالحنين إلى بيته في حضن الحارة الضيقة، كثيراً ما لعبنا فيها، يصحبني زوجى و بناتى الصغار إلى هناك؛ لنكمل عقد العائلة الذى تتلاقى حباته فقط فى هذا اليوم، وما تلبث أن تنفرط . رائحة العطن تملأ المكان، النوافذ مغلقة، يسكنه الآن أصغر أخوالي، وتستقبلنا زوجته على مضض فى هذا اليوم، ندلف إلى غرفة الجلوس حيث وصل البعض و ننتظر الباقين، تدور عينيًّ كطفل أفلتت يده ثوب أمه في سوق مزدحم ، أفتش المكان فقد اختفت صورة جدى بعصاه المعوجة وعمامته البيضاء، واحتلت مكانها صورة أخرى. أثاث المنزل تبدلت ملامحه، فارقت الأشياء حضن أماكنها، انظر فى الوجوه، أتمنى لو نطقت بكلمة، كأن على رؤسهم الطير . يطرق الباب الشيخ ابراهيم محفظ القرآن بالقرية؛ ليبدأ مراسم الاحتفال أقصد الختمة، تضيق ابنتى بما يجري، تطلب التجوال بالبيت، كأتها تقرأ ما بداخلي، نطوف جنبات البيت، نمر إلى الوسعاية خلف البيت عبر باب صغير، ذكرى البخور تراود أنفي ، هنا كانت خلوة جدي ومحبيه من أهل الطرق الصوفية، أختلس النظر، وأفتح نوافذ السمع على مصراعيها أثناء الحضرة، حلقة الذكر، صوت جدى يطربني، يهزني. يجعلني أسبح فى ملكوت آخر: " ومَدَحْتُ بِطَيْبَة طَهَ .. ودَعَوْتُ بِطَهَ الله..." كم أحببتها يا جدي منك! كم أتمنى أن أسمعها منك الآن . تلك الحجرة مفروشة بحصير من نبات البردى، كان جدى هنا تمس عصا حكمته مشكلات العائلة، والجيران، فتحيلها برداً وسلاماً، أرهف السمع علي أسمع أصداء التراتيل و مجالس علمه. تفلت طفلتي يدها و تجرى ناحية الفرن القديم ، صار كقبر تعشش فيه الحشرات والهوام، هذا الفرن كم أطعمنا و اصحاب الحاجات: الخبز و الفطير و الطواجن العامرة باللحم و الخضر الطازجة من غيط جدى وزرع يده! كم جمعتنا مائدة جدى بعم ميخائيل وأسرته! كم عشقت أيام الجمعة والعطلات هنا! تهب على خيالي نسمة طرية تحمل رائحة الريحان كان يزرعه جدى هناك، وتظلنا أفرع اللبلاب و تكعيبة العنب؛ أجرى مع ابنتي حتى نصل حيث كان الزير المندى فى ظل شجرة التوت، لأجد جذع الشجرة حطباً يابساً ولا أثر للريحان ولا اللبلاب ولا العنب على صوت تلاوة الشيخ ابراهيم أعود حزينة، تأمرني أمى بإعداد الطعام، وتقديم القهوة مع النساء بالداخل ، أمي التي لم تأخذ ميراثها وتركته وقفا للاحتفال بذكرى جدى يوماً واحداً كل عام ها هي يعضها الندم ويضنيها أن أحس بغربة فى البيت الذى تربيت و كبرت فيه؛ فزوجة خالي وأهلها يبسطون سطوتهم على كل شيء. خرجت تسندني ابنتى وزوجى يمسحون دمعي وأنا أنوح هامسة: - لا تغادرني الآن يا جدي.