يوم صيفي يتصبب باللظى ويتلفح بخمار القيظ.. والسحب فيه قد عبّت عبابها وفسحت مساحاتها لوطأة الشمس بلهيبها المتقد شررا" مستطيرا"..كأن الغضب قد أصلدها بتجهم يجول ويصول في حناياها ويدب في الساجي والمائر.. في الجماد والانسان.. شقّ أذنيه وهو هائم في شرود هتاف الباعة يتبارزون لجذب الأنظار إلى ما يكدسونه في عرباتهم.. مشغوفون بلَغط وصخب..حتى يبثوا روح الإثارة في زبائنهم فيقبلون على الشراء بطيبة خاطر.. ها هي ذكرياته تُذريه كغصن هشيم يابس عافه الزمن بعد أن تعتعه بنِعمٍ صوّرت له أنه ظفر كالفالج بكل ما هو نفيس.. لكنه لم يدر أنه زائل في قبضة الأعاصير التي تنتظره في منعطف الحساب..وأنه لا محال فانٍ مودعا تاريخه القذر في حاسوب القدر وترتيبات الدهر.. حساب؟....أظن نفسه يوما" أنه قد يفلت من غير حساب بما جناه في شبابه وما صبت إليه نفسه وأن شَمْلَة الضيم والبلاء لن تطاله أبدا"..؟؟؟ كيف ادّعى الإيمان وتذرّع بالدين والصلاة وقراءة القرآن أمام قومه عندما كان ضالا" في نفسه..مجحفاً في حق غيره..ظالماً حاقداً لا يلوي إلا على فنون الشرور دون أن يتلفت إلى نوائب الصروف التي قد تتحتم عليه؟؟ صاخ بذهنه لصوت يأتيه من أعماق الضمير من زمان أدبر واندثر وآذن بالرحيل شأنه كشأن كل شيء يزول ويتبدد..فكل من عليها فان... صوت امرأة لطالما أراق دموعها وانهال عليها بجام غضبه تنكيلاً وساواها بالطين طوعا" حتى يمعن في إذلالها.. كانت تلك المرأة زوجته ..تردد وهو ينشب بخاطره في ذاكرته المتلفة..نعم زوجته الأولى... وأطل بعينيه على محياها الذي يفتقد للجمال.. لطالما سخر من دمامته وصلابته..ولطالما قهقه مع أصدقائه سخرية منها كأن قبحها خطب فادح حتى نشأت عندها عقدة الدونوية جراّء تعسفه اللاذع.. لقد تزوجها لنهب مصالحها ولتوسيع علاقاته من خلال عملها كمسؤولة في إحدى الدوائر الحكومية..مما جلب له الخير الكثير في عمله.. وعندما اشتدت أواصر حالته المادية والاجتماعية تخلّى عنها ضاناًّ عليها بما تجبره عليه أصول العشرة من حسن المعاملة حتى في الفراق.. خانها بكل أنانية وجهر ولامبالاة.. وجعلها ترى خيانته بأم عينيه لاجماَ لسانها عن الدفاع عن حقها كامرأة بتهديدها بأن يقيلها من عملها..بعد أن صنعته..!! عاث الصمت من حوله بعد أن أشرف على بيته الكائن في منطقة هادئة يسودها السكون المطبق الحالك..وهو يمضي في ماضيه مُسْتَنكَف من لججه التي يخوض فيها بندم لا ينفعه.. ولاح له وجه زوجته الثانية منيراً كالبدر ساطعاً كالقمر في جوانح صدره.. تذكر كيف سرق مصاغها واتهمها بالجنون وأوحى به لكل من حولها حتى التفوا حوله مساندين مؤازرين.. وقد أدّى دوره يومها على أتم وأكمل وجه.... لم يلق بالاً لما قد يلحق بها من صروف الدهر بعد أن جرّدها من مالها وسمعتها وحتى..عقلها..ورماها لوعثاء الطريق الذي يحف بالشوك..لكنها رغما عنه سطعت وأشرقت كالنجم السني...وتذكر كيف كان سخطه عليها كبيراً بعد أن نجحت وتألقت رغماً عنه.. وازدهرت رغم أنف جبروته... ثم تكاثفت ذكرياته كأنها غياهب غمام ينقشع كلما هبّت عليه عاصفة الترحال في الماضي البعيد..يُرتجُّ عليها سور العار..العار مما جنت يداه.... وتذكر زوجته الثالثة...والتي تكبره في السن وطمعه بما تمكله من المال الجزيل الوافر الذي يضمه لثروته..تذكر ذكاءها الحاد بعد أن جعلته يتصبب طمعاً بمالها فكان كرحال البادية يرقب الساقية بنهم لوِردِها والارتواء منها ..ليكتشف فيما بعد أنه وهم صوّرته له البادية.... لم تدعه يغرف من مالها كما اشتهى بل أخذت منه وسرقت من جيب سرواله ورأتها الخادمة ذات يوم وكتمت مخافة الطرد.. وتركته يتخبط في حماقته وغبائه.. حتى انكشف المستور و فقد أعصابه وطلّقها.. عاش وحيداً بعد زيجاته الثلاث مع مرض في قلبه..دون أن يبوء بآثام ماضيه لأحد..حتى لا تتزعزع الصورة المشرقة الزائفة التي رسمها لشخصه..... حتى أولاده تنكروا له بعد أن شهدوا ما ألحق بأمهاتهم من الغدر ومضض الألم .. لأول مرة أحس أنه يريد أن يقرأ في كتاب الله لا ادعاء للإيمان والعفة أمام مرأى الناس كما اعتاد أن يفعل.. بل ندماً وألماً مجترعاً كأس المنون..وقد أرهقه الجزع من زجرة الضمير والاتيان بالحق.... ولأول مرة يشعر أن كل حياته كانت تصب في الترحال.. وكان هو رحالاً سعيداً في وهم البادية الذي شيده له الطمع وزينها له الشر..