-1- يبهرني في الشاعرة الكبيرة بهيجة البقالي القاسمي ، قدرتها الجيدة على تكثيف اللحظة الشعرية ، و اختزال دلالات الحرف ، و استخلاص زبدة الشعر، في ومضات آسرة تقول كل شيء في سيل محدود من المداد. حين أقرأ الومضات الشعرية لهذه المبدعة يهزني إيقاعها الداخلي. و يلفت انتباهي عمق شاعرية عبارتها. و يثير إعجابي سفرها الشاسع في ضيق التعبير المجنح. الومضة الشعرية عسير القبض عليها. لكنها بين يدي شاعرة من طراز بهيجة البقالي القاسمي تغدو طيعة في متناول موهبتها الابداعية المضيئة. إن شاعرة طنجة الاولى بهيجة البقالي القاسمي رسخت حبرها في الومضة الشعرية. و كرست إسمها في التكثيف البديع لجمال الشعر و ألقه و غبطته. هكذا أصبحت الومضة الشعرية اليانعة تعني بهيجة. و بهيجة تعني الومضة. هذا التمييز ليس أساسه ( ضربة حظ ) . بل وراءه تجربة في مطاولة الحرف ، و مشاكسة المعنى ، إن كانت ليست غائرة في الزمن ، فإنها – بالتأكيد – غائرة في التشبع الثقافي و النهل الإبداعي . عندما تكون كل حياتي و تغيب في صمت تكون قد اخترت موتي -2- ثمة كثير من المميزات التي تتأسس عليها تجربة كتابة الومضة الشعرية عند المبدعة المتألقة بهيجة البقالي . يمكن اختزالها في ثلاثة مفاتيح: الأول: ليونة معجمها اللغوي. الشاعرة لا توظف عبارات عسيرة الفهم. بل تمتح من فيض لغوي يمزج بين الرقة و الليونة ، دون أي التباس أو استغلاق دلالي. هذا الحرص يمنح لومضات الشاعرة الجزالة الشعرية ، و القدرة على ولوج الأعماق ، و إحداث التأثير و الحصول على المتعة الأدبية. الثاني : تلقائية تدفقها الشعري. إن هذه المبدعة لا تتصنع في قول الشعر.ولا تتكلف في كتابته. إنها تضع نفسها رهن إشارة الشاعر. يأتيها فيكتب نفسه عبرها بتلقائية و تدفق و بساطة أخاذة . و يحدث أن تستغرب هي نفسها كيف يخرج منها هذا الشعر الطازج بمثل هذه السرعة و هذا الفيضان..دون أن تدري أن هذه هي طبيعة الشعر حين يسكن قلبا موهوبا مثل قلبها. الثالث : جمالية صورها. تؤثث الشاعرة ومضاتها الشعرية بمخيلة مبدعة ، تجعل إحساس القارئ قيد ما تسعى إلى تمريره. و ذلك عبر الرسم بالكلمات بحثا عن صور شعرية مرفرفة في أمداء التعبير . يتأتى لها ذلك من خلال ما أسميه " الذكاء الشعري" أو " الحدس الجمالي "، و كلاهما يحضربزخم في ومضاتها الشعرية التي نقرؤها فتظل فينا لا تنمحي بعد القراءة . لو سألتم الكحل عن سر سواده لاشتكى هو الاخر من ليله - 3- بهيجة البقالي القاسمي اختارت الومضة الشعرية – التي يتهيب منها كثير من الشعراء - عنوانا لتجربتها الإبداعية. و علامة على خصوصية كتابتها و تميزها في آن معا . و " على نوافذ صمتك " ديوانها الرائع ، عتبة رحيبة للولوج إلى صنيعها الشعري المكثف و العميق ، الذي يضعنا إزاء و مضات شعرية ثرية بما تحتويه من أحاسيس و عواطف ، و مسكونة بما يميزها عن غيرها ، و موسومة بجمال إبداعي. " على نوافذ صمتك " كُتبت ومضاته على فترات زمنية متباعدة ، لكنها محكومة بتصور شعري واحد و تقنية إبداعية واحدة ، يربطهما خيط ناظم هو قدرة الشاعرة على تنغيم الكلام و تكليم التنغيم . و مهارتها الملحوظة في استقطار رحيق الشاعرية من كرمة الكلمة و العبارة . كساعة ناطقة لا يتوقف رقص عقاربها تذكرني أني بك أحيا -4- راكمت شاعرتنا البهية البهيجة – أم فوز – تجربة لامعة في الومض الشعري ، منطلقة من طموح كبير و مشروع تتوخى من خلاله إرتقاء سلم الإبداع إلى منتهاه. و تلك صفة الشعراء الكبار الذين تستهويهم المكانة التي تدانى. و بهيجة البقالي تحرق المراحل بوثوق شديد . و تقفز قفزات مدروسة ،و عينها مركزة على مقعدها الإبداعي في علي الآفاق. و حين تلتقي الشاعرية بنوازع الطموح. و يتلاءم التطلع مع هاجس القبض على الشعر. لابد أن يكون المحصول في مستوى الإثنين ، و معززا لهما معا. من هنا ، ما مِن ريب أن شاعرتنا لابد أن تقودها خطواتها الواسعة صوب احتلال الصفوف الأولى في جغرافية الشعر هنا و هناك و هنالك . كُثُر من يرونني غير أني لا أرى سواك - 5- بهيجة البقالي تتطور مع كل تجربة جديدة . و تتجدد مع كل أفق شعري تلجه. و تلك ميزة تمنح مزيدا من القوة و الفعالية لهذه المبدعة. بعد " صراخ الصمت " ، الذي شكل ولوج بهيجة إلى مملكة الشعر من بوابة القاهرة ، يأتي " على نوافذ صمتك " ليضعها في سياق تجربة مغايرة في صنع الجمال الشعري. و في الطريق " أنثى الصمت " ، و " عناق الجنون " و هما معا توليفة شعرية تصدر عن أعماق الشاعرة و تخاطب حساسيات جمالية في مكامن القراء. عندما تعيش حروفك بدواخلك ثق أن الكل سيحسن قراءتك - 6 - يوصف الشعر بالرائع ، حين يضع نفسه في مواجهة المتغيرات في الإحساس و التعبير. و تلك صفة تنطبق على بهيجة البقالي . فشعرها إذن رائع . و توصف الشاعرة بالكبيرة ، حين يكون طموحها في خدمة شعرها ، و شعرها وقود للهيب طموحها. و هذه صفة تنطبق على بهيجة البقالي. فهي إذن شاعرة كبيرة. لكي تسمعي صمته ابحري في أعماقه