أصابهُ الخدر فقد أعيتهُ المسافة التي أعتادَ أسفلتها على صخب عُكازيهِ ، أقتربَ من مصطبتهِ التي أصبحتْ صحن شهيتهِ المفضل ، جلسَ في منتصفها يتوسط بين العمودين المعدنين اللذين حملا شللَ ذاكرتهِ وقدميهِ وهو يهمسُ ل يمينهِ "كنتُ أتمنى أن تحملَني ب طريقة أخرى" وعادَ الى يسارهِ وفمه عطش جداً " ليتكَ تملكُ سرتَها " . { "حديقة واسعة رسمَها في رأسهِ شَكَلَها ب طريقة العنب في تراصهِ حينَ تنامُ الحبة جنبَ الحبة ب حميمية مطلقة ، لم يكفْ عصبُ الفرشاة في دماغهِ عن التلوين رغمَ ليلهِ الذي تشعلهُ النيران ورغمَ خوذتهِ الثقيلة ب أحلام العودة" ، كانوا جالسين يستمعون الى أبيهم وهو يقصُ لهم حكاية جديدة ، في عشاء شهري حينَ يجتمعون على مائدة واحدة ، فمشهد أحفاد "أبو شاكر" وهم يتقافزون على العشب كانت أوكسجينهُ حين كانَ الخندق يحصرُ رئتيهِ برائحةِ البارودِ وعطر رسائل الجنود التي يتركوها على بدلاتهم المثقوبة بطمأنينة وعد الشهادة . كانتْ الرياح تنقلُ بسمة المواقد الى وجوهِ الجيران وهم يسمعون ضحكة الصحون وألفة الملاعق ، أخرُ أولادهِ كانَ كمال ، له عينين يتراقصُ سحر الماء الأخضر فيها ويتناغمُ لون موهبتهِ مع أفكار أبيهِ ، فقد صمَمَ الولد حديقة المنزل بهيئة خارطة تَمرُها المياه في جدولين وتُحيطُها أشجار الزيتون الفتية بأغصان حبلى لموسم قادم وبعض فسائل النخيل ، عَكَسَ رؤية والده بطريقة تُشبهُ دمعَ الوطن . جاءتْ الأم وبناتها وزوجات أولادها بتلك الأطعمة التي يفوحُ منها زمن الخير ، عاكسَها الأب بصرخة حنونة "تزوجتُ أرضاً خصبة منحتني من الثمار أشهاها" ، في حين كانت عينا كمال الخضراوان تلمعُ بجملة أبيهِ ، وقعَ الكأسُ من يدِ زوجتهِ ارتعاشاً من خواءِ بطنها وخيبة بسمتهِ الضعيفة ، غادرَ المنزل بكيس كبير أصرَتْ الأم على دَسهِ في يديهِ ، ثم همستْ في أذنيه "لا تحزن ، سيكون لكَ عكازٌ ذاتَ يوم". هاجرَ تلكَ القصص خجلاً من السؤال وحرصاً على حشرجة الصوت في حنجرة شريكتهِ ، كان هاتفهُ يرنُ ب حبِ أخوتهِ ويَثملُ بتخمة الرسائل التي لا يردُ عليها ولا يمسحُها فقد كانت سلوتهُ كلما أشتاقَ لهم . ذاتَ غروب دخلتْ زوجتهُ البيت وهي تحملُ بيديها أوراقاً أسرفتْ فيها قوتها ونقودهِ ، تحاشتْ النظر أليهِ وهي تكافحُ ذلك الصراخ الذي يحاولُ كسرَ سجنهِ في فمها الصابر، تابعها وهي تدخلُ غرفة النوم وتتجهُ نحو دولابها لتخرجَ ذلك الفستان الذي عاقها ، ارتمتْ روحها وهي تضعهُ ك قلادة على صدرهِ ، خرجَ صوتها ك ناي مجروح وهي تقول له : "خذهُ ... و جدْ لكَ أرضاً خصبة" ، ثم هرعتْ الى حمامها الذي يشاركُها انكسار المراجيح في أحشاءها ، سمعَ نغمة هاتفها التي تعلنُ عن بعضِ كلمات في رسالة مفادُها : "قولي له أن يراجعَ مختصاً ، كفاكِ خوفاً فأبواب الأمل بيضاء كما بشرة فحوصاتكِ" . وقفَ أمامَ عنادهِ قلقاً ، طَرقَهُ رعب شديد وهو يخطو لفتح باب المنزل ، أخافهُ لهاث أخيه وهو يمسكُ كتفهُ ويقول "أنها النوبة الثالثة التي ستنهي أنفاس حكاياه" ، أوجعهُ سقوط أبيه وعطشِ زوجته ، انتبهتْ لوقع أقدامه السريعة وهو يُحدثُها من خلفِ نحيبها بصوت مبلل ك رمشِها وقال: "ربما على الفلاح أن يَجدَ أكثر" ، ف صارَ حمامها زورقاً مجدافهُ نعومة ستمنح الدفء لزواياها الباردة . كان مشهدُ أباهم على سرير الموت في أحدى المستشفيات التي تودعُ قبر الصغار وتحتفظ بعطر الكبار يؤرقهم ، تحركَ جفنُ أبو شاكر ، ف هَمَ الأربعة حوله في كل جهة يخرُ أثنان بالصلاة ويمسكان بذراعه ، نطقَ الأب بتلاوة أية لم يسمعوا بها من قبل : "كيف أُحلقُ وأنتم تمسكون أجنحتي". دبتْ الطمأنينة في أوردتهم حين سألَهم عن أمهِم، ردوا عليه : "قالتْ : هذه النوبات تُعيدُ أباكم بذاكرة أكبر وشهية أكثر على سرد القصص". خَرجَ تاركاً أخوته حول موقد الحكايا ، كأنه يريدُ أن يشربَ سكارتهُ الأولى ، أراد أن يُخرجَ للدخان صوتاً ، فقد كان اليوم منهكاً جداً . لوحَ له رجل في التاسعة والخمسين من عمره يقفُ في طابور طويل في ممر المستشفى أمام شباك يوزعُ شرائط أوسمة لكل الرجال المائة الواقفين ، قال له : "يا بني قفْ مكاني قليلاً أودُ أراحة قدمي فأنا واقف منذ الصباح أنتظرُ هذا الشباك ليتَهُ يُدخلُ شعاعاً أضعهُ في نافذة حضني ذاتَ يوم". لم يفهمْ كمال ولم يسألْ لكنهُ لبى طلبه بصدر رحبة ثم جلسَ الرجل على مقربة خمسة أمتار وهو يراقبُ الشباك لا مكانَ بديله . ألتفتَ الشخص الواقف أمام كمال وهو يهزُ كتفيهِ ب دلال مُفترض ثم قالَ : "هنا سيُطلقُ سراح وحوشنا الصغيرة" ، أما الواقف خلفهُ حركَ شفتيهِ بطريقة هستيرية حين قالَ : "سأكتب تاريخاً جديداً للنساء" . عرفَ من ثرثرتِهم ما الذي تبعثهُ تلك النافذة المغلقة الى حين ، أدارَ رأسهُ الى الرجل الذي أستأمنهُ على مكانه وأستغربَ لرغبة الرجل في الأنجاب وهو يقاربُ الستين من عمرهِ ، عَلا صوتُ الممرضةِ وهي تهتفُ : "يا أخوان سيستقبل الطبيب الوافد عشرين حالة لهذا اليوم على أن يُعاودَ الأخرون الحضور بعد أسبوع"، أدارَ كمال عينيهِ صوب الجالسين وهتفَ كأنهُ خارجٌ في مظاهرة ، شاهدَ دموعَ الرجل وهي تتساقط كالمطر أثناء حديثه في جهازهِ المحمول وكيفَ خرجَ مسرعاً وكأنهُ يقولُ لهُ : "يا بديلي هذا المكانُ هدية .. ف تَعلمْ كيفَ تفتحُ هداياكَ" . دَفعَهُ الواقف خلفهُ : "هيا أيها القوي فنحن آخر أثنين في قائمة العشرين بهجة". بعد يومين وَقفَ العشرون حاملين أثباتَ ذكورتهم في ظروف سمراء ، شاهدَ كمال الرجلين اللذين أرادا رسمَ الحرية على فساتين نسائهم ثم قالا : "وحوشنا الصغيرة عاصية بظلام حظوظنا .. لا تاريخ .. لا تاريخ". بينما عادَ هو بموعدٍ لأجراء عملية بسيطة تُريحُ حمام منزلهِ من لوعة أنثى كانت ولا تزال حبيبتهُ التي شاطرتهُ سنوات دراسته وأعوام الجدران الصامتة . كانت الحشود تملئُ المقاهي والمحلات وفي كل مكان يحتاجُ الى هزِ الشِباك ، جلسَ كمال على الكنبة ينتظرُ مشاهدة المباراة التي أستعدَ لها كل أبناء وطنه ، وطفله ( فرات ) الذي يرتدي فانيلة المنتخب الخضراء ويمسك كرته المطاطية جالساً قربهُ لا يفهم سوى انتظار الصرخة ليرقصَ ، أما طفلته المدللة ( ورد ) ذو الكرش الذي تخرجُ سُرتهُ من كل قمصانها معلنة عن بدأ التقبيل والدغدغة ، لا تقبل سوى مكانها المعتاد بين قدميهِ . قال لزوجته : "يا أم ورد متى تجهز حلواكِ ؟ قاربتْ المباراة على البدء" حتى جاءَ صوتها من المطبخ : "دعْ الحكم ينتظرني قليلاً قبل إطلاق الصافرة" ، ثم همس للصغيرة ورد : "أذهبي وساعديها في أعداد الحلوى يا كبيرة" ، عادتْ ورد أليهِ وبطنها تهتزُ بحركتها المحببة له ، اقتربتْ منهُ وفي يديها بعض من ضفيرة مقصوصة ، لم ينتبه لها كانت عيناه تتلقفُ ذلك الشريط المتكرر في أسفل الشاشة الذي يجهضُ أعداد القتلى والمصابين في أربعاء دامٍ أو ثلاثاءٍ دامٍ آخر . خَرجَ لحن متلعثم من فتحة صغيرة بين أسنانِها "بابا .. بابا .. خُذْ هذه الحلوى صنعتُها لكَ من شَعري ، تَخيلها زهرية ك لون أسمي" ، قَبلَ كمال أصابعها المترفة ك جلدها الوردي ثم قالَ :"كيفَ سَمَحَنا بدخول القبح وبيوتنا عامرة بهذا الجمال كله" . دخلتْ أم ورد ب صحن الحلوى حينها صرخَ فرات ومعلق المباراة معاً "كووووووووووووووول " goal .} أستيقظَ على هتافِ الشباب الذين يلعبون في ساحة قريبة ( كووول ) , شَعَرَ بسخونة المصطبة ولسعة لزهد الشمس ، حينها سقطتْ ورقة خضراء كبيرة من أعلى الشجرة التي يستظلُ تحتها ، لامستْ رأسه المغيب ثم كتفهُ العاري دونَ ذلك التقافز المرح ، استقرتْ فوق فوهة بنطاله ، وكأنها تريدُ عتقَ الشجرة التي تتدلى أغصانها بالخيوط والبالونات وأكياس شعر البنات التي كان يربطهما ببعضهما ويطلقهما ظناً منه أنه يطلقهما نحو السماء . رحلَ هذه المرة وكأنَ ساقه تسابقُ عكازه تاركاً تلك اللوحة التي رسمها دون وعي منه "شجرة عملاقة عانقت لهفة طفلين حين كانَ يمران بائعا خلاصهما" . كل المارة كانوا يراقبون حرصهُ على تأدية تلك الطقوس اليومية لأكثر من عامين ، منهم من كتبَ قصيدة اعتذار ومنهم من ألفَ الروايات ومنهم من أحرقتهُ حيرةُ السؤال وهو يشتري علبة السكائر السابعة من محل رجل عجوز يعرفُ أسرار المكان مهما تغيرتْ الوجوه ، وتجرأ على سؤال صاحب المحل عن رجل العكاز ، نزعَ الرجل العجوز نظارته التي تعكسُ لهفة الواقف أمامه ، تنهدَ ثم قالَ: "سأخبركَ قصته ...في أول يوم لفصل الخريف وقبلَ عامين عادَ أبو ورد مصطحباً طفليهِ من مدرسة لرياض الأطفال حين أوقفتهُ مجموعة مسلحة باللحى المترهلة على ملامحهم التي تُخجلُ وجه الرب وهم ينبحون بأسمائهِ الطاهرة حينَ يطعنون مراياه على الأرض ، يُقالُ أنهم أطعموه لحمَ طفليهِ ودنسوا رجولته وضربوهُ ب صفار عقيدة لا تنجو منها العظام وتركوه أمام مسجدٍ مجهول لأجلِ أن يتعلمَ الناس درساً في إغاظةِ الله" . دخلَ كمال إلى بيتِ أبيهِ رمى عكازه وراحَ يستنجدُ الجدران بحثاً عن صدرٍ يحتوي عودة ذاكرته المليئة بالصور والخراب ، قادتهُ زوجتهُ وهي ترتدي بياض زفافها إلى مائدة العائلة في الحديقة ذاتها ، سارعوا أشقاءه على حملهِ ووضعوهِ على كرسيهِ المجاور ل محبة أبيهِ ، شَعرَ كمال بسلام الكف التي أطالَ عمرَها طقطقة حبات المسبحة حين دخلَ الصوت إلى أذان مساماته : "يا ولدي أرضُنا تُعاودُ وفيرها مهما عاثَ بها المفسدون". أمطرتْ الشجرةُ بالوناتها الضاحكة بأكياسِ السكر ، والناسُ يشاهدون السماء وهي تحتفلُ بغيماتٍ ملونة ب غرابةِ الهطولِ من أسفلٍ إلى أعلى .