جلس إبليس على عرشه ذات يوم و قد أحاط به عدد هائل من الجنود و الأتباع..كان يدير اجتماعا ما..يدير جلسة سرية يخطط فيها لمصيبة جديدة و مكيدة كبيرة, بينما هم في اجتماعهم و كان المكان يتقد نيرانا و شرارات و ألسنة اللهب تتطاير كأنها المفرقعات... إذ هبت نسمة باردة في أرجاء القصر و اقتحمت المكان...فزع الجميع و ارتسمت في أعينهم نظرات غريبة قال إبليس : " ما هذه النسمات ؟ " صمت الجميع و قد بدأت فرائصهم ترتعد..فصرخ فيهم ثانية : " ما هذه النسمات ؟ " و التفت إلى كبير مستشاريه فأجابه و قد غصت الكلمات في حلقه : " إنها نسمات الحرية يا سيدي" ارتسم الحنق على وجه إبليس و قد قام من متكئه و ضرب طاولة كانت أمامه بيديه فقسمها نصفين من شدة قوته و جبروته و صاح في الملأ : " من أخلى سبيلها ؟ من الذي تجرأ على تحريرها؟ ائتوني بها حالا و قيدوها" انتشر الجنود بلمح البصر و طاروا في كل مكان و جابوا البلاد و المدائن و حلقوا فوق الجبال و نزلوا الوديان و اقتحموا الكهوف و جحور الأفاعي بحثا عن الحرية , فلم يعثروا عليها. جن جنون إبليس و قال : " من يأتني بها أزوجه إياها".. و يا لها من عروس كانت الحرية امرأة جميلة في مقتبل العمر, كانت أشبه بملاك سماوي أو مخلوق من نور أو لعلها كانت أجمل من ذلك كله هي ابنة آلهة الجمال و الوريثة الشرعية للسلام..و هي حارس عالم البشر. جمالها الآسر الخلاب كان حديث العالم كله...كانت عيون بني البشر تتوق للنظر إليها عبر العصور, ليشعروا بذلك الشعور الجميل الغريب و كأن يد الله تأخذك و تقودك نحو مدائن الخلد و العوالم الفاضلة و الجنان الأبدية. لأجلها مات من مات وسجن من سجن و عذب من عذب لأجلها دفعت الأثمان الباهظة لأنها تستحق العناء..لأن مهر العروس الجميلة لا بد أن يكون من أغلى ما يكون... فشرف المناضلين لها يرخس و كبرياء الصناديد يحنو أمام سموها وغطرسة الجبابرة تذوب في حضرتها كما يذوب الملح في حضرة المحيط. بينما كان إبليس و زبانيته يجوبون القرى و المدائن و يتجسسون على خلق الله لعله يصلهم نبأ ما أو خبر عن مكان تواجدها كانت صاحبتنا متخفية في ثوبها الطويل و تتنقل من بلاد إلى أخرى و تتجول مع نسمات الصباح و خيوط النور..كانت تلبس الليل رداء و تلتحف النهار ثوبا و تشرب من عين الشمس إذا أطلت كل فجر...نور الصباح, و تستحم بقطرات الندى الباردة المنعشة و تتعطر بروح الطبيعة و خلاصة أريج المروج. في رحلتها نحو غايتها المنشودة, مرت ببلدان كثيرة و رأت أحوال الشعوب المختلفة و نظرت بعين الحسرة إلى أقوام يرزحون في العبودية الصماء و أشفقت على أناس يرتشفون الجمال الممزوج بسم الأفاعي و الحيات.. و أمام أحد المدائن تسمرت عيناها فجلست على أعتابها و أخذت تتجول بأنظارها بين تلك الربوع الجميلة و تملأ رئتيها بعبير الفل و الياسمين...لم تتمالك نفسها من شدة الفرحة فخرت على قدميها و سجدت لله سجدة طويلة و قالت :" الحمد لله الذي أرشدني هذا السبيل و جمعني بأحبتي من بعد الفراق الطويل" و مرغت رأسها في تراب هذا البلد و أمسكت قبضة منه و دموعها تتلألأ في مقلتيها كأنها الشهب المسيرة و أخذت تنشد أغنية الحياة. نزلت بأرض تونس الخضراء متخفية و جابت الربوع و القرى من شمالها إلى جنوبها... من بنزرت إلى برج الخضراء و مرت بمناطق الحوض المنجمي بجهة قفصة و استقرت فوق البناية الشاهقة المعروفة باسم " الزاوية" من مدينة الرديف و أذنت في الناس :" يا شعب قم...لا خوف بعد اليوم" فانتفض أهالي الحوض المنجمي ضد فرعون و أعوانه... و كانت الملحمة العظيمة و سقط الشهداء و الجرحى و دوت الهبة الشعبية و زعزعت أركان دولة الفساد... كانت الملحمة بطولية سيكتبها التاريخ و سيؤرخها المؤرخون في سجلات العصر الحديث بماء العيون و سيتذكرها غدا الشباب و الشيوخ و الأطفال, لأنها كانت أول مسمار يدق في نعش الغراب. انتشر مرتزقة إبليس في كل مكان و تدافع الجواسيس و الخونة و القتلة في كل مكان و صار البحث حثيثا... و قد تناقل بعض الشياطين أخبارا تفيد تحديد مكان المفتش عنها. أدركت الحرية خطورة الموقف فاختبأت مدة من الزمن في تلك الربوع المنسية... فاقتربت من الناس و انغمست فيهم و زرعت فيهم بذورا من صنع الإله, كانت ترى الظلم و الجور و الغبن و الفقر يثقل كاهل الناس, فكانت تبيت ليلها مستمعة شهقات المساكين و المحرومين و تصبح على صراخ الأطفال الجياع الطالبين لقمة العيش التي تسد جوعهم و تخفف آلامهم, لم تستطع الحرية أن تتمالك نفسها و قد أصابها الأسى لحال هؤلاء الناس الأشقياء.... و دون أن تطيل التفكير قررت أن تتحدى سلطة إبليس و أعوانه و أن تقوم بواجبها تجاه هذا الشعب. انطلقت في لحظة تاريخية فاصلة صوب قمة جبل "الشعانبي", جذبت من داخل ردائها بوقا من نور و نفخت نفخة الحياة و نادت بأعلى صوتها: -أيها الأشقياء ثوروا ثورة الغضب.. -يا سكان المنافي عودوا... -يا سكان السجون تحرروا من القيود و أقبلوا على الحياة. و يا سكان هذه الأرض الطيبة مدوا أيديكم للسلام و انعموا به. كان نداء عظيما بعث بإشارات لا يفهمها و لا يفك رموزها إلا أصحاب القلوب الحية و البصائر و الضمائر الصافية...استقبل هذا الشعب النداء و هبوا لنصرة الحق و ليفتدوا الوطن بكل غال و عزيز... و كان أول الشهداء "محمد البوعزيزي" رحمه الله, كانت ثورة على الظلم و الطغيان شارك فيها الجميع...الكبير و الصغير.. النساء و الرجال.. و كانت ضريبة النصر و الحرية أرواح الشهداء و دماء الجرحى. كانت الحرية تنتقل بين الربوع مزهوة بهذا الحدث العظيم طربة جذلانة بنصر هذا الشعب العظيم, لكنها ظلت تخشى عودة الطغيان..فراحت كعادتها تتستر تحت ردائها الطويل تراقب حال البلاد و أحوال العباد, و لم تدم فرحتها طويلا لأن هذه الثورة العظيمة, هذه الثورة الأولى في هذا القرن الجديد فرضت واقعا جديدا, بعيون الأسى و الحزن حدقت الحرية في وجوه الناس فلم تعد تعرف أصحاب هذه الوجوه فراحت تقول: " أنا لازلت غريبة في هذا البلد...فلم لا يفهمني الناس و لم لم يعرف حقيقتي أي أحد" كانت ترى النزاعات السياسية و المطالب الشعبية ترتفع, الكل يلهث وراء مصلحته و غايته...الكل انصرف إلى أولوياته و طمع في تحقيق رغباته...و نسوا أن هذه البلاد لا تزال جريحة و تنتظر أن تسترد عافيتها. ماذا تريدون ؟ و عن أي حقوق تتكلمون ؟ لم تطلبون قمحا من أرض لم تضرب بها أياديكم ضربة معول ؟ و كيف تتوقعون اخضرار الأرض بلا أمطار ؟ و متى نزل الثلج في أيلول ؟ و متى حصد الشعير في آذار ؟ لا تتكلموا باسمي ... و لا تجعلوني مجرد شعار ترددونه في المحافل و في المناسبات, ترتدونه كالثياب كل صباح و تنزعونه ليلا قبل النوم, لا تتخذوني كالعلكة تمتصون حلاوتها ثم ترمونها على قارعة الطرقات إذا استهلكتم تلك الحلاوة, لا تجعلوني كجواز السفر تستعملونه لعبور الضفاف الأخرى ثم ترمونه داخل الخزائن و يصير منسيا بين زوايا الرفوف. الكل صار يتكلم عني لكن لا أحد منكم عرفني و فهمني, فأنتم لم تنظروا إلى وجهي الحقيقي و لم يطلع أي منكم على جوهري و مضموني و لم يقف أي منكم عند حدودي, فأنا لست الكمال الأبدي و الحقيقة المطلقة, أنا لست سوى امرأة جميلة متوهجة الجمال , مشرقة الإطلالة لكن جمالي هذا يخفي وراءه جنوني الدفين و تهوري السجين, و لولا إخوتي لهلك العالم في بحار الظلمات و الفوضى و الجنون, هل عرفتم من هم إخوتي الذين لولا وجودهم لما وجدت ؟ إنهم المسئولية و الالتزام و الأخلاق...فبدونهم ما كان لكم أن تعرفوني أو حتى تسمعوا بي, فكيف ترضون وجودي بينكم و لا تقبلون بهم فنحن لا نفترق و لا يعيش أي منا بمفرده, استقبلوا إخوتي و لا تكابروا...فإن الكبر خصال بنو الشيطان, إني أنا الحرية فاستنشقوا نسائمي و تمتعوا بجمالي و هذا مداي و امتدادي فسيروا فيه و هذه حدودي فلا تقربوها. -أيها الناس أيها المبدع و المثقف و الفنان...أ ليس خداعا للنفس و للضمير أن تهزأ بي ؟ أ ليس ظلما و جورا أن تتاجر باسمي ؟ إن الفن الذي تأتي به و الإبداع الذي تجيده هو في حد ذاته غير حر, لأنك مقيد بفكرة و بمرجعية و بكاتب و بسيناريو و بآليات للعمل, ثم تحاول ممارسة الحرية على حساب الجمهور و عامة الشعب . هل تمارس الإبداع لأجل الإبداع أم كي تنال رضا الآخرين ؟ إن كان شغفا لأجل الإبداع فالأولى مراعاة و احترام الفن الجميل الذي أنت بصدد القيام به... و إن كان الإبداع بالنسبة لك هدفه كسب إعجاب الآخرين فالخطوة الأولى عليك كسب احترامهم و ذلك من خلال عدم التعدي عليهم, و إن كانت غايتك الكسب المادي, فلك الحق في ذلك...لكن لا تقل إنك فنان أو مبدع لأنك حينها ستصبح تاجرا,و التجارة لا تعترف إلا بمعنيين لا ثالث لهما... إما الربح أو الخسارة . إن الفن و الإبداع أفكار و إنارة و تغيير و ليس أموالا و تجارة . - أيها المتدين أ لم تعلم أن الله تبارك و تعالى قال لرسوله الكريم :" فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر" , فكن القدوة الحسنة و المتسامح و جادل بالتي هي أحسن و ترفق بإخوانك و كن حليما و قدم دوما الانطباع الحسن و كن لينا و لا تظن أن أقدار الناس و هدايتهم بيديك, لأنك لا تهدي من تحب , لكن الله يهدي من يشاء .أيها الناس كونوا إخوانا و تحابوا و افشواالسلام بينكم و لا تقولوا ماذا قدم لنا الوطن...بل قولوا ماذا قدمنا نحن له .