(أعمال المستشرقين) تجولنا في الرسالة الماضية بين جنبات متحف الفنون الجميلة بالاسكندرية والتي خصصناها لأعمال فناني أوروبا بداية من القرن 16 وحتى القرن 20، وفي هذه الرسالة سنبحر في بحور من الإبداع الامتناهي حيث نماذج من أعمال المستشرقين الأوروبيين من مقتنيات المتحف، حيث يزخر المتحف بمجموعة رائعة من الأعمال النادرة والعظيمة لفنانين أوروبيين عاشوا في أوطاننا العربية ومصر خاصة أو توقفوا بها في ترحالهم وهو ما تعارف على تسميتهم ب "المستشرقين"، وجمال هذه الأعمال أنها تُظهر لك نظرة الآخر تجاهك وما أروعها أن تأتي من عينٍ فنية تعرف قيمة الجمال وتقدره إلى أدق تفاصيله التي قد لا نراها نحن أبناء الأرض. ومن هذه المجموعة الثرية نذكر لوحة "تمثالي أمنحوتب بالأقصر" للرسام الفرنسي الشهير جان ليون جيروم (1824 - 1904) رسم الفنان في هذه اللوحة تماثيل أمنحوتب الثاني التي ترتفع في شموخ على الضفة الغربية لنهر النيل بمدينة الأقصر، عندما وقعت عيناه على هذه إطلالتها المهيبة، بينما كان يقف متأملاً على أطراف بقايا معبد الرمسيوم الشهير في الجزء الشمالي الغربي منها )وتظهر كذلك قاعدة لأحد الأعمدة وسط هذا الركام) وتطل من اللوحة أيضاً تلك الكثبان الرمادية التي تحيط بمعبد هابو (على اليمن(، والتلال الصخرية على الجانب الشرقي من النيل وتؤكد هذه اللوحة براعة الفنان في نقل الواقع بصدق لسطح اللوحة. وهناك لوحة أخرى للفنان بروسبر ماريلات غاية في الجمال، وبالرغم من عدم إهتمام الفنان بالتفاصيل الدقيقة والهامة في هذه اللوحة، إلا أنه بمجرد مشاهدتها سرعان ما نتيقن أنها منظر للجزء الشمالي لشارع المعز لدين الله (الذي كان يُعرف سابقاً باسم القصبة) في واحد من أهم أحياء القاهرة التراثية التي بُنيت في العصور الوسطى وعلى يسار الصورة رسم الفنان مسجد السلطان الأشرف أحد حكام المماليك (1825)، ومن المُدهش أنه بالرغم من مرور أكثر من 170 عاماً على هذا العمل، وبالرغم من تلك التغييرات الهائلة التي شهدتها القاهرة في العقود الأخيرة، لم يتغير الوضع على أرض الواقع كثيراً سوى رسم هذه اللوحة قبل أن يتقاطع شارع المعز لدين الله مع شارع الموسكي بالقرب من مسجد السلطان الأشرف في منتصف القرن التاسع عشر. وفي محطتنا الأخيرة لم يكن ليفوتنا أن نذكر عمل ساحر للرسام الفرنسي بيير بيبي مارتن، وُلد عام 1869 وتوفى بالقاهرة عام 1954 بعد أن أستقر بها لأكثر من 44 عاماً منذ مجيئه إلى مصر عام 1910، عمل معلماً للفنون في مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة خلال الأربعينيات من القرن الماضي وكان يسكن في أحد المنازل بحي "درب اللبان" وهو الحي المفضل للسكن عند جموع الفنانين ومنهم المعماري الراحل والشهير حسن فتحي، والفنان محمد ناجي أحد رواد "المدرسة الحديثة" في الفن المصري، استخدم " مارتن " أسلوباً متمرداً على التقاليد والقواعد الأكاديمية، مُبدياً حساسية مفرطة عند تعامله مع اللون والضوء في دراساته الثلاث هذه لمجرى العيون التي بنيت في زمن ليس بعيد بالقاهرة، حينما كانت عاصمة مترامية الأطراف في الصحراء. وإلى لقاءٍ قريب مع رسالتنا الفنية القادمة وأعمال الرواد من الفنانين المصريين. وفى الصورة: تماثيل أمنحوتب الثانى.. لجان ليون جيروم.