أمضيت أجازة عيد الأضحي في باريس، وباريس دائما مليئة بالأعمال الثقافية الجديرة بالمشاهدة. فقد شاهدت في تلك الزيارة عملين مهمين: أولهما هو أول معرض استعادي للرسام الفرنسي الشهير جان ليون جيروم (1824 _ 1904)، بعد مضي أكثر من قرن علي وفاته، وثانيهما هو أحدث أعمال «مسرح الشمس» الشهير في ضاحية فينسان شرق باريس، وهو المسرحية الجديدة التي كتبتها هيلين سيكسو وأخرجتها آريان ميشكين. وإذا بدأت هنا بالحديث عن المعرض الاستعادي الكبير للفنان الاستشراقي الشهير، فلابد أن أذكر أنه قد انطبعت في ذهني قبل أكثر من ثلاثين عاما لوحة شهيرة لهذا الفنان الذي أولع في فترة من حياته برسم الشرق، وهي لوحة ساحر الأفاعي، زينت غلاف الطبعة الأولي لكتاب الراحل الكبير إدوار سعيد، كتابه الأشهر (الاستشراق). تصور صبيا عاريا التف حول جسده الغض ثعبان ضخم، يلاعبه علي أنغام ناي رجل عجور، أمام جمهور من الشرقيين الذين يستندون علي جدار باذخ التصميم، مزين بالزليج المغربي والخط العربي. فلما ذهبت لمشاهدة معرضه الاستعادي في متحف «أورسي» الشهير علي ضفة نهر السين، وبه قسم كبير للوحاته الاستشراقية، اكتشفت أنه بحق هو الفنان الذي اخترع الشرق، أو بالأحري «شرقنه» حسب مصطلح إدوار سعيد الشهير. ومن المثير للتأمل أن الفرنسيين يقدمون المعرض بشيء من الحياء الاعتذاري المعلن، ينطوي علي قدر من التنصل من رجعيته أو رؤيته الاستشراقية للشرق، شكرا لإضاءات إدوار سعيد اللامعة، التي جعلتهم يعتذرون عن أقامة معرض لفنان لايمكن الدفاع عما اقترفه بفنه في حق الشرق عامة، والشرق العربي خاصة. ويوشك المعرض، وقد أصبحت إقامة المعارض الاستعادية مزيجا من العلم والفن، حيث يتضافر فيه الدرس العلمي الذي يفحص تفاصيل سيرة الحياة وإنجازات الفنان، ويموضع الأعمال في سياقاتها التاريخية والاجتماعية والفنية علي السواء، كي تصبح الزيارة درسا يجمع بين الفائدة والمتعة، أن يكون بحق درسا يجمع بين سيرة حياة الفنان وملامح عصره وطبيعة مسيرته مجسدة باللوحات والاسكتشات والتماثيل. حيث يصحبك تصميم حجراته وتتابعها في رحلة تستهدف تغطية سيرة حياته ومسيرته الفنية وانجازاته المختلفة، ليس فقط في تتاتبعها التاريخي وتسلسلها الفني، وإنما أيضا في سياقاتها الفنية والتاريخية. فما أن تدلف إلي الغرفة الأولي حتي تتعرف علي سنوات تكوين هذا الفنان الشهير، وكيف تتلمذ في السادسة عشرة من عمرة في استوديو الفنان الكبير بول ديلاروش (1797 _ 1859) أو هيبوليت ديلاروش، أحد ابرز رسامي المدرسة التاريخية الكلاسيكية في الفن الفرنسي، وأحد حواري الرسام الأشهر يوجين ديلاكروا (1798- 1863). أي أن جيروم بدأ حياته الفنية بإجادة قواعد الفن الكلاسيكي التقليدي ورسم لوحات المشاهد والشخصيات التاريخية، لكننا نعرف أنه تعرف في الوقت نفسه أو بالأحري تتلمذ أيضا علي جان دومنيك إنجر (1780 _ 1867) الذي كان من مناهضي أسلوب ديلاكروا، ومبتدعي الكلاسيكية الجديدة. وأن وقوعه المبكر بين نزعتين متصارعتين، أرهف وعيه بطبيعة عمله الفني ونوعية الجماليات التي يختارها. بين هاتين النزعتين المتصارعتين والمتكاملتين معا، أمضي جيروم سبع سنوات من التكوين الفني الاحترافي، وتجويد اسلوبه ومفرداته وأدواته، حتي تبلورت موهبته في لوحاته الأولي التي رسمها وهو في أوائل عشرينياته. فالغرفة الأولي لا تدخلك في عالم لوحاته الأولي دون أن تبلور سياقاتها أمامك بطريقة مدعمة بالوثائق: مكتوبة ومرئية معا. وما أن ننتقل إلي الغرفة التالية حتي تشد بصرك لوحة «صراع الديكة» التي جلبت له الاعتراف والشهرة حينما عرضها في صالون عام 1847، وحينما أثني عليها الشاعر الفرنسي الكبير شارل بودلير (1821 _ 1867) الذي يعد أيضا، لمن لا يعرفون علاقة الأدب بالفن التشكيلي، أحد أبرز نقاد الفن التشكيلي، في تلك المرحلة المهمة من تطور التشكيل الفرنسي. فقد كانت كتاباته عن الصالون السنوي تشكل سلطة نقدية كبيرة وهو لايزال في العشرينات من عمره. ونعرف في نفس الحجرة كيف أسس جيروم في تلك المرحلة الباكرة من حياته ملامح مدرسته المعروفة باسم «الإغريقية الجديدة» والتي تميزت باهتمامها بالكشوف الأثرية الجديدة من ناحية، وولعها بتصوير المناظر المترعة بالسحر والغواية والتي ينطلق فيها الرسام من الواقع الأثري إلي الخيال الذي يزوده بما كان يعمر هذه المشاهد من حيوات باذخة. ونتعرف أيضا في هذه الغرفة علي بداية علاقة جيروم، أو بالأحري صداقته الحميمة مع جوستاف لو جراي (1820_ 1884) الذي كان يكبره بأربع سنوات، والذي جاء مثله لتعلم الرسم في استوديو ديلاروش، ثم أصبح فيما بعد أكبر مصور فوتوغرافي فرنسي في القرن التاسع عشر. ونتعرف أيضا علي أثر هذه الصداقة علي رؤاه وأفكاره، وعلي كيف تعامل شابان يتحسسان طريقهما إلي الفن مع الأسئلة المدببة التي بدأ التصوير الفوتوغرافي يطرحها علي الرسامين، ومدي جدوي المدرسة الكلاسيكية ومضاهاتها للحياة، بعد اختراع التصوير الضوئي وتقدم إمكانياته، وانفساح أفق احتمالاته. وكيف قادهما البحث معا إلي الشرق، الذي أصبح جيروم أحد أبرز رساميه، أو بالأحري أحد مخترعيه، وهو الأمر الذي سنتعرف عليه مع مواصلة رحلتنا معهما في الأسبوع القادم.