اصطحبت القارئ معي في الأسبوع الماضي في المعرض الاستعادي الكبير للفنان الفرنسي جان ليون جيروم Gérôme وتعرفنا معا علي بدايات هذا الفنان الشهير، وسوف أواصل معه هذا الأسبوع التعرف علي سر غوايته بالشرق، وبالأحري علي قدرته الخارقة علي أن يبدع شرقا ظل راسخا في أذهان الفرنسيين والأوروبيين من ورائهم لأمد غير قصير. وربما كان السر في نجاح جيروم في اختراع هذا الشرق أو بالأحري «شرقنته» هو أنه جلب لرسومه عنه تلك المشهدية الاستعراضية الخلّابة التي تميزت بها مرحلته الإغريقية الجديدة. فقد كان تنامي الاهتمام بالعالم القديم، وتسارع موجة التنقيب المستمر عن آثاره في القرن التاسع عشر، والرغبة في تكريسه بطريقة أيقونية تبقيه في أذهان المشاهدين ولاوعيهمK هو السياق الذي دفع جيروم لرسمه بطريقة مترعة بالسحر والفتنة. فقد كان مولعا منذ لوحة «صراع الديكة» التي جلبت له الشهرة بتكوين مشهد مسرحي للوحته، مشهد ملئ بالحركة والتناسق التشكيلي في الألوان والأحجام. فصراع الديكة في لوحته الشهيرة يتم علي خلفية من صراع مضمر آخر، تتشكل غواياته بين الرجل شبه العاري، والمرأة شبه الكاسية وهما يشاهدان هذا الصراع، أم تراهما يشاهدان فيه تجسيدا خفيا لصراع ذواتهما الداخلية. هذه المشهدية المسرحية التي اتقنها جيروم في مرحلته الإغريقية الجديدة أخذها معه في زيارته الأولي لمصر عام 1855، بعد أكثر من نصف قرن علي تجدر الولع بمصر في الذاكرة الفرنسية منذ الحملة الفرنسية عام 1798، والتي تلتها رحلات أخري إلي دمشق والقسطنطينية وغيرها من بلاد الشرق الإسلامي في هذا الوقت. وإلي جانب دقته الكلاسيكية في أعادة تشكيل المشاهد التاريخية والتي جوّدها في رسومه الإغريقية والرومانية، حرص جيروم وهو يرسم هذا الشرق، لجمهوره الفرنسي والأوروبي بالطبع علي دقة المضاهاة وطزاجة الألوان، ونصاعة الضوء، ونقل ما شاهده من تكوينات شرقية مختلفة. وكان من دلائل هذه الدقة أنني كنت أحاول أن أقرأ النصوص التي رسمها للخط العربي الذي يزخرف المباني، فلا أستطيع برغم تكرار المحاولات. فقد نقل الخط وهو بالطبع لايعرف العربية، بدقة تكاد تقنعك بأن ما تراه في لوحاته الشرقية هي نصوص حقيقية قابلة للقراءة. فيها جماليات الخط العربي التشكيلية، وعلاقاته السيميترية، ولكن عدم معرفته باللغة العربية لم تمكنه من نقلها بالدقة التي تمكنك من قراءتها. والواقع أن دقة المضاهاة هذه كان لها أثر السحر لا علي جمهوره الفرنسي وقتها فحسب، بل إن قوة سحرها هي التي دفعتني لمحاولة قراءتها، في أكثر من لوحة. حتي تأكد لي أنني أمام حالة فريدة من قدرة الفن علي أن يقنعك بأنه حقيقي، وأن المشهد الذي تراه يوشك أن يكون صورة بالغة الدقة للأصل، حتي تحاول أن تقرأ ما هو مكتوب فوق الأقواس أو في المقرنصات فلاتسطيع. فما تراه أمامك برغم غوايته ليس حقيقيا، وإنما هو فني، استطاع بجماليات الفن وحدها أن يخلق حقيقته. وهي غير الحقيقة التي نعرفها، أي غير المشاهد الحقيقية التي يمكننا قراءة ما بها من نصوص استخدمت في زخرفة المباني. كانت هذه التجربة في محاولة قراءة النصوص التي تنطوي عليها لوحات جيروم الاستشراقية، هي التي بلورت أمامي عملية اختراع الشرق، أو «شرقنته»، وبرهنت علي أنها عملية تنطوي علي قدر كبير من الدقة والخداع معا. صحيح أن المعرض كله مركب بصورة لا تجعله ينجو بأي حال من الأحوال من مقولات إدوار سعيد الطاغية، والتي دفعت منظمية للبدء بالاعتذار كما ذكرت في الأسبوع الماضي، لكن اختبار القراءة ذاك هو الذي جسد مقولات إدوار سعيد الاستشراقية أمامي بقدر كبير من التالق والسطوع. وقد استدعت هذه الملاحظة إلي الذاكرة زيارة قديمة قبل أكثر من ثلاثين عاما إلي الأندلس، وكيف أنني وجدت صناع التذكارات الأندلسية السياحية الرخصية، وهم ينقشون علي النحاس شعار دولة الأغالبة الشهير «لاغالب إلا الله» والمنقوش علي جدران قصر الحمراء البديع، ولكنهم في محاكاتهم لخطوطه يفشلون في كتابة الشعار كل مرة، بطريقة يمكن معها قراءته. وقد أرجعت ذلك وقتها ليس فقط لجهلهم بالعربية، ولكن أيضا لأن صناع التذكارات الرخيصة لايمكن أن يتوقع أحد منهم أي قدر من الفن أو الدقة. مع أن نظائرهم في خان الخليلي مثلا يعيدون نقش النصوص بطريقة لا تخطئ العين مقروئيتها. لكن الفارق الكبير بين صناع التذكارات السياحية في الأندلس ولوحات جيروم الاستشراقية هو قدرة الفن وسطوته عنده، والتي استطاعت أن تنقل جماليات الخط العربي الباذخة، رغم عدم قدرته علي قراءة النص المنسوخ. فحس جيروم الفني الصادق مكنه من الدخول إلي جماليات عالم لايفهمه، وهو عالم كان ملفعا وقتها برؤية رومانسية وحسية جذابة له، استطاعت أن تمكنه علي الأقل من إدراك منطق هذه الجماليات وقانونها الداخلي، بالرغم من عدم قدرته علي فك شفراتها. فنحن هنا بإزاء قضية جمالية خالصة، وهي قدرة المضاهاة المخترعة علي أن تخلق عالما قادرا علي الإيهام والتأثير، رغم أنه عالم غير حقيقي. ربما تقدم لنا بعض مفاتيح أو استراتيجيات جيروم في اختراع الشرق والتي سنتعرف عليها في الأسبوع الماضي مع بعض لوحاته عنه.