الليالي تمر بين يديه في تشابه عجيب، لا اختلاف بينها سوى تلك الملامح في الوجوه الباهته التي يراها كل ليلة . وجه ضاحك وآخر باكٍ ، هذا يعاتب وآخر يصطنع الدلال. وآخرون كلٌ حسب حالته، وهو- بردائه الفضفاض- يجلس في نفس المكان، وذلك الصبي يلازمه أينما كان. لا مفر من تلك الوجوه، فكأنما كتبت عليه، ولا مجال للمراوغة، يمر عليه الشتاء ثقيلا، يخفف عنه عناء الصيف، ويزيل عنه بعض الهموم التي تراكمت بداخله . اعتاد أن يراهم جماعات تتدفق اليه لقضاء أوقات سعيدة يختلسونها من يوم شاق، يلقي ببصره إليهم مغمغما: " لا زال بداخلهم طاقة للضحك والتفريج عن الهموم" يستدير بوجهه ليرى طريقه، بعد أن وجد لكل واحد منهم أسلوبه في التعبير عن سعادته، والبعض يفضل الصمت.. وترك ابتسامة على الشفاه لا يعلم إن كانت مصطنعة أم هي من القلب؟ تظل عيناه زائغتين، وكأنهما تبحثان عن جديد، ربما يحاول أحدهم أن يلقي بنفسه في الأعماق، أو يظهر من بينهم مجنون يطلق صيحاتٍ أو ضحكاتٍ أوحركات هيستيرية فيدب الفزع داخل الجميع ويتبدل الحال . مسح بيده على جبينه طابعا ابتسامة خفيفة، متعجبا من الأفكار التي دارت في رأسه، بينما صوت الموسيقى الصاخبة تملأ المكان وعلى أنغامها يرقص بعض الشباب رقصات شعبية .. والضحك مرسوم على شفاه الحاضرين إلا امرأة.. صافية الوجه، خمرية البشرة، قصيرة القامة معتدلة في ثيابها مرتدية (إيشارب) داكنا، تجلس على الجانب الأيسر منه مائلة تحاول أن تلمس بيدها سطح المياه الهادئة.. تعجز .. فتعود كما كانت مكتفية بالنظر إلى تلك المياه غير عابئة بما يدور حولها. تتركز نظراته عليها.. يجدها وحيدة لا صحبة لها سوى أحزانها التي باتت واضحة في نظرة عينيها، تتجه ببصرها إليه بابتسامة باهتة في محاولة منها لملامسة المياه التي امتلأت بذلك الضوء الأبيض.. المنبعث من تلك السماء الصافيه.. التي زادت الطبيعة جمالا وروعة .. أخذ يراقب محاولاتها المستمرة ثم قال ضاحكا " فلتكتفي أن تلامسي بإصبع واحد ولا داعى لأن تملأي يدك بها " أجابته وقد بدا الحزن والتوتر واضحا عليها ويدها تكاد أن تلامس المياه " لن يجدي اصبع واحد" وعندما وجد أن جميع محاولاتها باءت بالفشل، أمسك يدها قبل أن تقوم بالمحاولة الأخيرة قائلا بصوت هادىء: " ألا بذكر الله تطمئن القلوب" وعندها ألقت ببصرها إلى السماء- متمتمة بكلمات لم يستطع التقاطها- ثم عاودت المحاولة ثانية، فاتجه ببصره إلى الآخرين وهم لا يزالون يرقصون، يضحكون، يتسامرون، ولا زال ذلك الضوء الأبيض ينشر أشعته على باقي الأضواء مختلفة الألوان المنبعثة من مصادر مختلفة داخل ذلك المكان