لماذا نكتب، وكيف نمتلك الجراءة على فعل الكتابة والتدوين، وماذا تعني الكتابة بالنسبة لمن يمارس طقوسها، وهل تطلق سحرها في عقل ناسكها؛ فيصبح مهووسا بها.. يصاب بعشقها ولا يشفى أبدا، وهل يمكن أن تصبح مرادفا للحياة والحب عند مشتغليها، هل تصلح أن تكون ونيسا وصديقا وعشقا، ما الفائدة التي تعود علينا من ممارسة هذا الفعل الإنساني؟ اسئلة كثيرة تحتاج لكتابة في حد ذاتها لمحاولة الإجابة عليها. مثلا أنا اعتبر كتاباتي هي كل ما أمتلكه في حياتي، فيها أسجل لحظات شجوني وحزني وكآبتي الممتدة، وبعض أفراحي المحدودة، لذلك لا يمكن اعتبار الإهداءات التي أصدر بها تلك النصوص مجرد مجاملات رقيقة تجاه أشخاص أكن لهم تقديرا، أو إشارة إلى شعوري بالغضب تجاه آخرين أدفن بداخلي حنقا عليهم. فكل نص مرتبط معي بذكرى أو موقف أو شخص أثر في بالسلب أو بالإيجاب، وأدين له بتفجير فعل الكتابة بداخلي حتى لو كان تسبب لي في شعور بالألم. النصوص تعني بالنسبة لي لحظات من الحكي والبوح الإنساني المتدفق، فبالتالي يكفيني فقط أن يقرأها أصدقائي كنوع من التعويض عما فاتني من وقت في لقاءهم والاستطراد في الحكي معهم. فالمسألة لا تعني لي أكثر من تفريغ شحناتي الإنسانية في كتابة تذكرني بهذه التفاصيل والمواقف إن نسيت وتحفظها من الزوال إن لم تقو ذاكرتي على استدعائها. أشعر أثناء الكتابة بحالة من التوحد أكثر مع نفسي، أبتغيها فتنصاع لي مسالمة رقيقة كالنسيم، ألمسها كالياسمين فتطرح عبيرها فواحا في قلمي. لا يمكنك أن تكتب مخاصما إياها، فالعشق أصل الكتابة، والكتابة مصالحة مع النفس، لذلك لا تغضب نفسك وأنت تكتب، اكتب بأريحية ونفس راضية، اقنعها عن حق بأنكما في مهمة مشتركة، لا يمكنكما الوصول لنتائجها منفردين. فثمرة عملكما ستعكس نفسها بالضرورة في راحة تخلدا إليها دون أي شعور بالاغتراب. فالكتابة تحقق وبلوغ عوالم لا يمكن تخيلها خارج مساحات الحركة والفعل. هي الوصول للحقيقة أو ما شابهها، هي العالم منقوص منه ما يمنعك من التألق والشعور بنشوة أنك كائن له قيمة ومنتج وسعيد بما وصلت إليه. الكتابة داء ودواء في ذات الوقت، تماما كالحب، لا يمكنك التخلي عنه رغم آلامه، هي أقرب لسلاح ذي حدين، أحدهما يجرحك والآخر يكوي جرحك، وبالقطع لا يمكنك تفادي الجراح، فهي ما تجعلك تشعر بالحياة حلوها ومرها وبجدليتها غير المتناهية بين عناصر متوافقة أحيانا ومتباينة أخرى ومتعارضة معظم الوقت، هكذا تسير الأمور كتابات حزينة وثانية شجية وثالثة مبهجة وأخريات كثيرات معبرات عن حالات شتى. هذا ما يفسر تأثرنا بحالات مختلفة عبر القراءة، فلماذا نطير من السعادة أو نذرف دموعا أو نتأسى أو نشعر برجفة في أوصالنا أو تملؤنا الحماسة والإصرار عند التعرض لقراءة أعمال؟ هذا بالضبط ما أقصده بالداء والدواء، فالكاتب مريض بالكتابة وفعلها مصدر شفائه منها، تظل الأفكار تتفاعل بداخله، وإن لم يطلقها من محبسها بعد أن تنضج فسوف تؤرقه ليل نهار، وبعدها ستتغذى على خلاياه فيصيبه الوهن والاكتئاب لأنه لم يبح بما جال بخاطره. تماما هذا ما نصل إليه عندما نقرأ ما كتبه أي شخص.. يدمينا ويضمدنا في ذات الوقت.. يفرحنا ويبكينا.. يتحفنا ويطرح علينا تساؤلات جديدة.