«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما الذي يجلب الدب إلى كرمك! كيف تنتقم الجغرافيا وهذا الكتاب.
نشر في شموس يوم 31 - 03 - 2020

العزلة الشتوية أخرجت أعظم أعمال كلّ من: تولستوي صاحب رواية “أنا كرينا”، وميخائيل شولوخوف صاحب “الدون الهادئ”، وديستوفسكي صاحب “الجريمة والعقاب”.. ففي مواسم الشتاء الروسي الطويل، كانت البيوت تتحول إلى صويمعات للأدب الراقي، فيما المكتبات المنزلية تعمها الفوضى وقد توزعت أيقوناتها على الطاولات والأسرّة.. كتب نفيسة متفاوتة المستويات، يخالطها الصغار والكبار كأنها كائنات حية تنتمي إلى الأسرة.. والمواقد تحتفي بمجالس أهل البيت وتمنحهم طاقة الصبر والبقاء في ليالي البرد القارص. والنار فيها تعلك الحطب وتحرض العقول على السباحة في الخيال.. والقناديل بأضوائها الخافتة تحاور أشباح الظل التي تراقصها الرياح المتناوحة خارج الأبواب المُوصدة وهي تتسلل من شقوقها المسحورة.
العالم اليوم يختلف كثيراً.. فنوافذه المعرفية كثيرة.. كأنها شرفات مفتوحة على الفضاء العالمي بكل تفاصيله سواء كان ذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو الشبكة العنكبوتية واليوتيوب، ناهيك عن الفضائيات التي تنقل إليك أخبار العالم ومستجداتها مباشرة.. ورغم ذلك يبقى أجمل هذه النوافذ، كتاب تختلي به فيفضي إليك بما في بطنه من درر، وخاصة في عزلتك التي فرضها وباء الكورونا.. وفي سياق ظروف العزل البيتي بسبب انتشار وباء الكورونا، يداهمك خير جليس في هذا الزمان، دون أن يحمل إلى عزلتك العدوى القاتلة.. الكتاب الذي ما لبث رفيقي في السراء والضراء..
اليوم انتهيت من القراءة الثالثة لكتاب تصدر مكتبتي الخاصة بعنوان “انتقام الجغرافيا”
وهذا عرض وتحليل للكتاب الذي صدر عام 2015 عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب في الكويت الكتاب القيم “انتقام الجغرافيا” تأليف (روبرت د. كابلان)، ترجمة د. إيهاب عبد الرحيم علي، والذي يقع في 447 صفحة من القطع المتوسط.
(روبرت كابلان)، كاتب وصحفي بجريدة (اتلانتك) الأمريكية، كما انه كبير الخبراء (الجيوسياسيين) فى معهد (ستراتفورد) للمعلومات الدولية، ونشر نحو 14 كتابا عن السياسات الخارجية الأمريكية والعلاقات الدولية الأمر الذي أهله لخوض تجربته الميدانية عبر جغرافية القارات ليخرج إلى القراء بهذا المشروع الذي يتنافى مع رؤية العولمة في أن العالم سيتوحد في إطار قرية صغيرة، من خلال استدلال مفكريها على الشواهد المعاصرة التي أحدثتها التكنلوجيا الحديثة المتسارعة بقلب النظم القديمة في التواصل الإنساني عبر العالم الذي بات وكأنه بلا حدود. ف(كابلان) يرى غير ذلك.. متجاهلاً التاريخ ومعتمداً على ثبات التأثير الجغرافي بتنسيق شكل العالم الذي يتحدى السياسات والنزاعات والفكر (الكولونيالي) لترسيخ المعالم السياسية بما تفرضه الحقائق الجغرافية على الأجندات. وفي هذه الرؤية قد تتفق مع الكاتب أو تختلف.. لأن الجغرافيا تحولت إلى ظلِّ للفضاء الرقمي.. والعقول أصبحت مسلوبة إلى عالم افتراضي أكثر تأثيراً.. وأصبحت له محددات منطقية، تشمل: حكومات رقمية وعلاقات دولية وأسواق مفتوحة مثل “أمازون” الأمريكية و”علي بابا” الصينية، ودور نشر رقمية للكتب والصحف ناهيك عن العملات الرقمية إلكترونية، التي تم تصميمها بحيث يتم تبادلها بين الأشخاص في معاملات افتراضية مثل البيتكوين أو الإيثيروم.
فالعالم يتغير نحو الفضاء الرقمي الذي تتفاعل من خلاله العقول، بينما تتحول الجغرافيا في سياقه إلى ظل لوجود الإنسان الواقعي ورفاهيته. في المحصلة الجغرافيا منذ نشوء الحضارة تعتبر هدفاً استراتيجياً وظيفياً بما تحتويه من ثروات، ووسيلة دفاعية بحكم التضاريس.. ولكن الإنسان تمكن من تطويع الجغرافيا لطموحاته فقهر المسافات والجبال العالية والمهاد والبحار من خلال شبكات الطرق العملاقة والأنفاق والجسور. وخلافاً لما ذهب إليه مؤلف الكتاب فإن العالم تحول إلى قرية صغيرة تستظل تحت عالم افتراضي مفتوح.. وفي المستقبل قد تتحول الدول إلى شركات ضمن مشروع تنموي عالمي إذا ما تقدمت الصين في مشروعها النهضوي التوسعي القائم على الشراكة الإقليمية والقارية بعد تقوّض النمط الاستعماري الاحتلالي الغربي. ولو راجع المؤلف كتابه القيم في ظل تضافر الجهود العالمية لمواجهة فيروس الكورونا ربما لتوصل إلى نتيجة فحواها بأن علاقة الجغرافيا بالصراعات البينة آخذة بالأفول لصالح فرضية “الشراكة المفتوحة” مستقبلاً.. وهي مجرد تكهنات.. فماذا يقول “كابلان” في كتابه المهم “انتقام الجغرافيا”.
يتألف هذا الكتاب من ثلاثة أبواب رئيسية تعكس في مجموعها الاهتمام الثلاثي، كما قد نسميه من جانب مؤلف الكتاب:
(1) الباب الأول يحمل عنوان “أصحاب الرؤى” بمعنى الصفوة من المفكرين الذين شغفوا بالجغرافيا درسا وكتابة وبحثا وتحليلا معتمدين على تجاربهم الشخصية وترحالهم عبر الجغرافيا في أطراف العالم لقياس النتائج غير معتمدين على أمهات كتب التاريخ التي تسوق رؤيتها عبر تأثير التاريخ ومسؤوليته في تشكيل فسيفساء العالم السياسي والاجتماعي.
(2) الباب الثاني يحمل عنوان “أول خارطة لمطالع القرن الواحد والعشرين”.
(3) الباب الثالث الأخير يحمل عنوان “مصير أميركا” والذي يربطه بكندا شمالاً والمكسيك جنوباً.
الكتاب شيق في طرحة لفكرة أهمية التضاريس الجغرافية في تشكيل الوعي الجمعي باتجاه الانسجام مع الحواجز الجغرافية في كينونة المجاميع البشرية مبرهناً بالشواهد الواقعية أن تحطيم سور برلين كان استجابة لوحدة ألمانيا الجغرافية بينما عجزت السياسات عن فصل الوحدة الاجتماعية بين الباكستان وأفغانستان التي تحفظ بنيتها الجبال الشاهقة رغم الفصل بينهما سياسياً.. ولعل اليمن المليء بالحواجز الجغرافية قد جعلته كياناً غير متماسك لاعتبارات تشتته المركزي بفعل التقاطعات الجغرافية التي هيأت لنشوء عدة أقاليم غير منسجمة. وقد تبدى ذلك اليوم بسيطرة الحوثيين على البلاد دون قدرة حكومة المركز على استرداد البلاد.
في هذا الكتاب المثير يطرح المؤلف منظوراً جديداً لعرض الاضطرابات العالمية وفهم ما ينتظر القارات والبلدان في جميع أنحاء العالم في المستقبل اعتماداً عل جملة من الأفكار والآراء ولاكتشافات الجغرافية والتوصيفات الجيوسياسية الحديثة التي تتحكم بالسياسات التي تفرض حلولاً تعجيزية على الحواجز الجغرافية ذات القرار الحاسم الأخير في أي لعبة على الأرض وقد ركز في بحثه على التأثير الجغرافي في السياسات متجاهلاً دور التاريخ في ذلك.
قد تكون الجغرافيا هي التي تحدد شخصية شعب ما، وتشكل المجتمع الذي يعيش فيها؛ ولكن الجغرافيا يمكنها أيضا أن تشكل التاريخ ومصائر الشعوب. بل ويمكن بدراسة الجغرافيا أن نفهم الحروب التي ستقع في المستقبل، وكيف يمكن التصدي لها. ولكن منذ سقوط حائط برلين في نهاية الثمانينات، والذي كان يمثل العائق من صنع البشر، وبعد سيادة عقيدة العولمة وسقوط الحدود بين الدول وتصور (فوكوياما) لنهاية التاريخ حيث تسود الديمقراطية في كل مكان، نسينا العوائق الطبيعية التي لازالت تحيط بنا وتقسمنا. ونسينا أن العولمة ليست نظام يضمن السلام والأمن الدولي، بل هي مجرد مرحلة اقتصادية وثقافية للتنمية. هذا ما أراد (روبرت كابلان) أن يثبته في كتابه الأخير الذي صدر بعنوان “انتقام الجغرافيا” والذي قام فيه برحلة عبر التاريخ من الماضي البعيد ليعود إلى الحاضر ليحاول فهم المستقبل. فمن الماضي أوضح كيف كانت الجغرافيا تتحكم في التاريخ وفى العلاقات بين الدول والشعوب مشيرا إلى محاور عديدة عبر هذا التاريخ، ويشير كيف استطاع خبراء الجغرافيا توضيح ما عجزت عن فهمه العولمة. فكان يقوم بدراسة المناطق الساخنة في العالم من خلال دراسة مناخها والطبوغرافيا فيها وقربها من الأراضي التي تشهد صراعات.
مثال ذلك أن جبال العراق كانت تحد كثيراً وبفاعلية من سلطة صدام بشكل عام مؤكداً على أن الجبال تعكس قوة قديمة، تحمى بين ممراتها أحيانا ثقافات محلية في مواجهة العقائد التحديثية الشرسة التي غالبا ما كانت تغزو الأراضي المسطحة، حتى وان قامت تلك الجبال أحيانا بمنح الميليشيات الماركسية والمافيا في عصرنا الحديث المأوى من أعدائهم. وينقل (كابلان) كلمات (جيمس سكوت)، خبير علم الإنسان بجامعة (ييل)، حول شخصية “شعوب الجبال الذين قد ينظر إليهم على أنهم هاربون أو لاجئون أو على أنهم مجتمعات معزولة؛ فقد عاشت خلال ألفي عام تحاول الهروب من رجال الدولة الذين يطبقون سياساتهم في مناطق السهول”. أما في أفغانستان وباكستان، فكان للجبال دروس أخرى. تلك الجبال التي وصفها البريطانيون أولا بأنها “الحدود الشمالية الغربية” لم تكن حدودا بالمعنى المفهوم على مدى التاريخ كما قال البروفيسور (سوجاتا بوس) بجامعة (هارفارد)، “ولكنها، كما وصفها، قلب سلسلة من الجبال الهندية الفارسية، والجبال الهندية الإسلامية، وهى السبب الذي من اجله قامت كل من أفغانستان وباكستان بتشكيل كيان عضوي كامل، يساهم في تقسيمهم الى دول من خلال جغرافيا غير متجانسة”. كان للجبال قصة أخرى في أوروبا، فقد كتب المؤرخ (جولو مان) كيف إن الألمان عاشوا دائما داخل سجن كبير شكلته الجغرافيا. ثم أرادوا التحرر منه من خلال احتلالهم قلب أوروبا ما بين الشمال وبحر البلطيق وجبال الألب. ولكن بالنسبة لهم الشمال كان محدد بالجبال والجنوب بالمياه، فكان المهرب الوحيد لهم هو الاتجاه إلى الشرق والى الغرب حيث لا توجد عوائق جغرافية. أما في العراق، فيرى (كابلان) كيف أن جبال العراق قامت دوما بالحد من سلطة صدام حسين الرئيس العراقى السابق، وقد حاول صدام ان يقاوم تلك العقبة بكل الإجراءات التعسفية التي يستطيعها. يقول (كابلان) إن صدام حسين في فترة الثمانينات غضب بسبب الحرية التي منحتها تلك الجبال للأكراد عبر التاريخ والقرون، فقام صدام بهجوم شامل على الأكراد العراقيين والتي عرفت بحملة الأنفال. وبالرغم من إن صدام استطاع أن يثبت بأن الجغرافيا لا تستطيع منع الإنسان تماما من تغيير مصير البشر، إلا أن تلك الجبال كانت السبب الأساسي لتلك المأساة. وبسبب تلك الجبال ابتعدت منطقة كردستان من الدولة العراقية إلى حد بعيد. الربيع العربي والجغرافيا تمر حاليا منطقة الشرق الأوسط، من المغرب وحتى أفغانستان في أزمة فيما يتعلق بالعلاقة مع السلطة المركزية. فقد أصبحت النظم القديمة المستبدة غير مستقرة، في الوقت الذي لازال الطريق نحو الديمقراطية غير مستقيم. في المرحلة الأولى من تلك الاضطرابات العظيمة ظهر هزيمة الجغرافيا أمام قوة تكنولوجيا الاتصالات الحديثة. فقد خلقت التكنولوجيا الحديثة المتمثلة في القنوات الفضائية والشبكات الاجتماعية ومواقع الانترنت مجتمعا واحدا من المعارضين عبر العالم العربي: وهكذا وجد نوعا من التكتل الاجتماعي ضد الأوضاع السياسية بكل من مصر واليمن وتونس والبحرين، ولكن مع استمرار التمرد، أصبح من الواضح أن كل دولة قامت بوضع تصورها هي لثورتها، والذي من ناحيته تأثر بتاريخها وجغرافيتها العميقة. فكلما تعرفنا على تاريخ وجغرافية أي من دول الشرق الأوسط، كلما قلت دهشتنا من تطور الأحداث فيها. يقول (كابلان) انه قد يكون من الصدفة جزئيا أن الثورة بدأت في تونس. فان الخرائط القديمة تظهر تمركز مستوطنات في المنطقة التي توجد فيها تونس اليوم، شيدت بجوار مساحة شاسعة خالية إلى حد ما والتي تمثل الجزائر وليبيا اليوم. وبسبب وجودها عند سواحل البحر المتوسط وبالقرب من صقلية، فان تونس أصبحت هي المأوى السكاني في منطقة شمال أفريقيا، ليس فقط خلال عصر قرطاجة والرومانيين، ولكن أيضا عبر عصور البيزنطيين والعرب والأتراك. وفى حين كانت كل من الجزائر غربا وليبيا شرقيا مجرد مساحة جغرافية ذات تعبيرات غامضة، فإن تونس كانت دوما مركزا لحضارات قديمة.
أما بالنسبة لليبيا، فقد كانت المنطقة الغربية منها والتي بها طرابلس، تتجه عبر التاريخ نحو تونس، بينما اتجهت منطقتها الشرقية، بنغازى، نحو مصر. لذلك فقد كانت المنطقة الأقرب إلى قرطاجة طوال ألفى عام، تتمتع بمستوى عال من التنمية، لان العمران بدأ في تونس قبل ألفي عام، بينما كانت الهوية البدوية التي قال عنها ابن خلدون أنها كانت تمنع الاستقرار السياسي، تضعف التنمية في المنطقة الشرقية. في عام 202 قبل الميلاد، عندما انتصر (سكيبيو) على هانيبال بالقرب من تونس، قام بحفر خندق حدد نهاية الأراضي المتحضرة. هذا الخط لازال حتى اليوم قائما في الشرق الأوسط، وهو لازال واضحا في بعض المناطق فهو يمر من طبرق على الساحل شمال غربي تونس إلى الجنوب ثم يتجه إلى الشرق نحو (صفاقس)، ميناء آخر على المتوسط. أما المناطق التي تقع خلف هذا الطريق فلم تشهد فيها آثار رومانية وهي اليوم الأكثر فقراً والأقل تطورا، وفيها أعلى نسبة من البطالة. أما مدينة (سيدى بوزيد) التي بدأ منها التمرد في تونس في ديسمبر عام 2010، فهي تقع خلف خط (سكيبيو) مباشرة.
يقول (كابلان) انه يحاول هنا أن يعطى للأحداث التي وقعت مؤخرا، في المنطقة البيئة لجغرافية والتاريخية لها: فقد بدأ التمرد العربي من اجل الديمقراطية في المجتمع الذي اعتبر تاريخيا أكثر المجتمعات العربية تقدما، وأكثرها قربا من أوروبا؛ ولكن أيضا بدأ التمرد بشكل خاص في هذا الجزء من البلاد الذي ظل منذ التاريخ القديم منسيا وعانى كثيرا من نتائج سوء التنمية. هذه المعلومات يمكنها أن تضيف عمقا على ما حدث في المناطق الأخرى: سواء كان ذلك في مصر، دولة أخرى شهدت على حضارات قديمة وتاريخ طويل عرفت فيه نظام الدولة؛ أو اليمن التي تعتبر القلب السكاني لشبة الجزيرة العربية، والتي ظلت تحاول توحيد أراضيها، ولكنها كانت دوما تصطدم بطبوغرافية جبلية ممتدة عملت على إضعاف الحكومة المركزية وبالتالي دعمت أهمية النظام القبلي والجماعات الانفصالية؛ أو سوريا التي أدى شكلها المبتور على الخريطة إلى احتواء انقسامات داخلية على أساس الهوية العرقية والطائفية. إن الجغرافيا تشهد على أن تونس ومصر يتمتعان بتماسك تدعمه الطبيعة؛ بينما تشهد الجغرافيا في كل من ليبيا واليمن وسوريا على أنهم اقل تماسكا. لذلك يمكن القول إن كل من تونس ومصر احتاجا إلى أشكال بسيطة نسبيا من النظام الاستبدادي حتى يبقيهما في وحدة متماسكة، بينما تحتاج ليبيا وسوريا إلى أشكال مختلفة عديدة من الاستبداد.
ولكن الجغرافيا جعلت من الصعب دوما حكم اليمن. فان اليمن حسب قول الخبراء، تعتبر مجتمعاً “مجزءا، تتداخل في طبيعته الجبال والصحاري. لذا فهو مجتمع ظل يتأرجح ما بين المركزية والفوضى، وهو مجتمع حسب قول الخبراء، يحكمه بالضرورة نظام يقوم على “استنزاف الحياة منه”، ولأنه يعاني من “هشاشة داخلية” فهو يفشل دائما في إقامة مؤسسات تدوم. إن القبائل هنا قوية والحكومة المركزية ضعيفة بالمقارنة بهم. والصراع من اجل بناء نظم ليبرالية في مثل تلك المناطق لن ينفصل عن هذا الواقع. بينما تتابع الاضطرابات ويبدو العالم وكأنه خارج السيطرة، ومع تصاعد التساؤلات حول كيفية يمكن للولايات المتحدة وحلفائها الرد على تلك الأوضاع، فان الجغرافيا تمنح وسيلة لكي على الأقل نفهم شيئا مما حدث. فعلينا أن ننظر في الخرائط القديمة، ونقرأ تحليلات من خبراء الجغرافية وعلماءها القدماء الذين عاشوا في العصور السابقة، يمكننا أن نرى مستقبل هذا الكون في القرن الواحد والعشرين. فبالرغم من التطور التكنولوجي الذي ألغى الحدود بين الدول، إلا أن جبال الهند لازالت تمثل عائقا ضخما. لقد شهد عالمنا تغييرات جغرافية كثيرة عبر تاريخه، وشهد صعود وسقوط نظم ديكتاتورية عديدة، مما يؤكد دوما على هشاشة تلك النظم. ولكن يقول (كابلان): إن الشيء الوحيد المستقر والباقي هو وضع الشعوب على الخريطة؛ لذا ففي زمن الاضطرابات الشيء الوحيد المهم هي الخرائط. فعندما تتحرك الأرض السياسية بعنف من تحت أقدامنا، تظل الخريطة، حتى ولو لم تكن مؤكدة، هي نقطة البداية لتحديد منطق تاريخي حول ما يمكن أن يأتي به المستقبل.
ويرى بعض النقاد الأمريكيين مأخذاً في توجيه المؤلف اهتمامه الأميركي من الشمال إلى الجنوب، بمعنى من كندا شمالا إلى المكسيك جنوباً، وهو يدعو واشنطن إلى إتباع هذا النسق وذلك النهج بالطول خلال السنوات القليلة القادمة، بدلا من أن تتحرك أميركا بالعرض إلى حيث أولت اهتماماتها شرقا إلى أوروبا وآسيا ومن ضمنها بالطبع الشرق الأوسط والبحر المتوسط والقارة الأفريقية بشكل عام.
ولكن (روبرت كابلان) يتصور خلافا لناقديه أن ثمة منافسة تشهدها الفترة المقبلة بحيث تمتد من المحيط الأطلسي غربا إلى المحيط الهادئ في أقصى الشرق، فإن العالم يصبح بحاجة من ثم إلى عنصر توازن.
والمعنى هو أنه فيما قد تؤدي الجغرافيا، اتساقاً أو انتقاماً إلى كيان من نوعية “أوراسيا العضوية الموحدة” فالأمر يومئذ يقتضي كفة للتوازن تتمثل بدورها في كيان يوصف على النحو التالي: أميركا الشمالية العضوية والموحدة، بحيث تضم كلاً من كندا والولايات المتحدة، ثم المكسيك.
ويقدم الكتاب رداً متبصراً على المفكرين الذين يشيرون إلى أن العولمة ستنتصر جغرافياً؛ ومن ثم يُظهِرُ كيف يمكن للوقائع الخالدة والحقائق الطبيعية أن تساعد في منع وقوع الكوارث التي تلوح في أفق القرن الحالي.
الكتاب في غاية الأهمية.. ورغم قراءتي له فقد التجأت إلى دفئه من جديد من أجل قراءة ثالثة أكثر تأنياً.. وهي من الدروس المستفادة من العزلة التي فرضها وباء الكورونا عل العالم.
30 مارس 2020


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.