هل أخطأ المفكر المصري جمال حمدان حينما وهب حياته وقلمه وسنوات عمره في سبيل الجغرافيا ؟ على مستوى التقييم الشخصي فإن جمال حمدان يعد ملمحاً حضارياً وثقافيا لمصر الباهرة في سنواتها النضرة ، ومن قبله كان أيضاً الجغرافي الموسوعي الدكتور محمد عوض الذي على حد اليقين لا يعرفه الطلاب المتخصصون في الجغرافيا اللهم من ألهمه الله بصيرة في التقاط اسم المؤلف على صدر كتابه . ونتيجة التغافل الإعلامي بصحفه وقنواته الفراغية وشبكات التواصل الاجتماعي التي لا تخلو من صفحات عن الحب والغرام والنكات السخيفة وطبق اليوم لم يعد طالب الجامعة ولا المواطن يفطن من علم الجغرافيا سوى العبارة الاستثنائية في مسرحية العبقري فؤاد المهندس والمشهد الذي جمعه والفنان الملتزم جمال إسماعيل حينما أخطأ في نطق كلمة الجغرافيا ب " فنوغرافيا " ، ومع ذلك استمرأ الإعلام ومؤسسات الثقافة بالجغرافيا وكأن ثمة عوامل تتضافر بشراهة واشتهاء عجيب في إعلان الموت الإكلينيكي للجغرافيا وفروعها . ولأن الجغرافيا هو أول دروس الهوية والوطنية التي تعلمناها منذ الصغر في المرحلة الابتدائية ، فإنه من الأحرى تنبيه الجغرافيين المصريين بطروحاتهم التنظيرية المكرورة بحقيقة قد تكون غير طيبة أخبارها ، وهي أن ثمة تحديات تزلزل عرش الجغرافيا المصرية لاسيما منذ السقوط الثقافي الذي أعقبه سقوط أخلاقي عقب الانتفاضة الشعبية في يناير 2011 أي منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير حينما تفرغ الشباب والشيوخ إلى تحليل المشهد السياسي وإسقاط كل ما بداخلنا من مركبات وعقد نفسية صوب الحراك السياسي الذي استمر حتى عزل الرئيس المعزول بإرادة شعبية وطنية في الثلاثين من يونيو 2013. هذا السقوط الثقافي الجغرافي تمثل في تقاعس الجغرافيين المصريين في تكريس وتعزيز الهوية الوطنية لدى الشباب عن طريق توجيه ولفت انتباههم نحو الأماكن التاريخية والجغرافية الساحرة في مصر المحروسة ، وكان ينبغي على أولئك المهتمين بعلم الجغرافيا والآثار والتاريخ أن يتبنوا مبادرة وطنية خالصة لوجه الله والوطن في تنمية الوعي الوطني وتعزيز الانتماء لمصر المحروسة وحضارتها الضاربة في عمق التاريخ .وماذا كان سيضرهم في الماضي أو في الأيام المقبلة لو أن أساتذة الجغرافيا بجامعاتنا المصرية قاموا بتدشين مبادرة عنوانها اعرف بلدك لتكتشف انتماءك ، تقوم هذه المبادرة قبل أن تسقط الجغرافيا سقوطها الأخير بغير قيام في الترويج للأماكن التاريخية كالمتاحف والمعابد والقرى التاريخية الساحرة المنتشرة في كافة ربوع مصر ، والمحميات الطبيعية التي تزيد وتعمق من إيماننا بقدرة الخالق سبحانه وتعالى والإيمان بإبداعه لأنه بحق البديع . وربما مصطلح " وفاة الجغرافيا " لم يكن جديداً على المشهد الثقافي ، فلقد تنبأ البعض بهذه الوفاة الاضطرارية ، تحديداً حينما زعم توفلر في سنة 1970 في كتابه " صدمة المستقبل " حيث قال إن تطور تكنولوجيا النقل والمواصلات ونمو الميديا المعرفية وتدفق الأشخاص المكثف أدى إلى نتيجة وهي أن المكان لم يعد مصدراً رئيساً وأساسياً للتنوع ، وهو ما يهدم المزية التاريخية لعلم الجغرافيا وهي المكان ، فالجغرافيا هي إنسانية المكان . وبفضل الثورة المعلوماتية والتطور التكنولوجي والتثوير الاقتصادي الذي عرف بعد ذلك بمصطلح العولمة والاقتصاد الحر تم اعتبار الجغرافيا حقلاً معرفياً وتنظيرياً فقط ، بل إن الجغرافيين اليوم وتحديداً منذ نكسة يونيو 1967 فشلوا في تحديد دور إيجابي لهم يربطهم بالمكان والحجم والموقع لأنهم باختصار أجهدوا أنفسهم في تحليلات وطروحات فكرية وصاروا رهن ما تنبئهم به الخريطة التي لم تعد كما كانت . وبعدما كانت الجغرافيا خريطة سهلة واضحة المعالم أصبحت اليوم بفضل التدفق البشري والتغيير الثقافي المرتبط بالسلع والمنتجات جغرافيات جديدة ومعقدة يصعب فهمها وتحليلها . ويبدو أن جغرافي مصر قد اغرورقوا حتى الثمالة في جغرافيتهم السياسية التي لم يتعد لها مكان اليوم لأنهم باختصار أعني وأقصد كتاباتهم وليس شخصهم الكريم فقدوا السيطرة على ترويض غول العولمة الذي استطاع بكفاءة أن يسقط الخريطة ويودي بحياتها اللهم سوى وجودها على استحياء في كتب الدراسات الاجتماعية بالمرحلة الابتدائية ، وجعلوا اهتمامهم داخل المحاضرات إن اهتموا بالذكر أو من خلال كتاباتهم الصحافية بمناهضة العولمة ، والأخيرة دوما في صراع ضد العقل الذي لا يعترف بالقوميات أو بالهويات الوطنية بقدر ما يسمح بالتعدد والتنوع الثقافي المرتبط بالناحية الاقتصادية فحسب . وتجئ هذه السطور بسبب زيارة أعدها تاريخية على المستوى الشخصي لأنها أعادت اكتشاف إنسانيتي لكافة المناطق السياحية والأثرية التاريخية بمحافظات قنا والأقصر وأسوان بمشاركة طلاب من جميع الجامعات المصرية ، واكتشفت والطلاب هذا الأثير الطاغي الذي تخلل أنسجتنا الوطنية ونحن نتفقد حضارتنا المصرية الساحرة والقاهرة والشاهدة على أن وطنا كمصر يستطيع أن يتغلب على جميع مشكلاته المعاصرة ،وليس بمقدور كيان صغير أو دويلات فقيرة التاريخ والأصل والنسب أن تتغلب على مصر وطنا وشعب عن طريق حملات دعائية مستخدمة فيها الإعلام المشبوه والمشوه . وقررنا جميعا عندما نعود أن يستغل كل منا هذه الطاقة الإيجابية التي اكتسبناها من خلال زيارة متحف النوبة ومعبد دندرة وفيلة والكرنك والبر الغربي وحتشبسوت وغيرها من المناطق الرائدة في الترويج لمصر وتعميق الرؤية الوطنية لدى شبابنا ، فإذا كانت الجغرافيا في طريقها إلى الوفاة الإكلينيكية إلا إذا استفاقت لدورها وتاريخها ،فنحن بحاجة إلى علم جغرافي شعبي جديد يمكننا من مناهضة فتور الانتماء الوطنيوفقر الوعي الحضاري لمكانة مصر العظيمة عن طريق توجيه مستمر لأهمية هذه المزارات وتاريخها وأن وجود الشباب في هذه البقعة الجغرافية الساحرة المسماة بمصر كفيل بأن يستطيعوا الوصول إلى عنان التقدم وارتياد منصات التتويج الثقافي والحضاري. والملمح الأكثر حضورا ونحن ننعي حال الجغرافيا في تكريس وتعزيز الانتماء الوطني والوعي القومي هو أن جهات بعينها داخلية وخارجية تسعى إلى تقويض الهوية المصرية، وتسعى في الخريطة فساداً وخراباً لطمس ملامحها الأزلية تحديداً تلك الملامح التي تتعلق بحقناالأصيلفي الحصوصل على ترتيب الأول حضاريا وثقافيا لما نمتلكه من مظاهر وأماكن وصفات استثنائية . وبحق ، فإن الجغرافيا ستموت إذا ما انصرف الجغرافيون عنها واهتموا بالدراسات الاجتماعية أو السيسيولوجية واعتمدوا على الدراسات الاجتماعية الاقتصادية وغفلوا عن مجالهم الصحيح والحيوي هذه الأيام وهو تدعيم الانتماء الوطني لدى الشباب . ويكفيك أن تهتم على عجلٍ بتصفح كتاب Geographies of Globalization للأكاديمي النيوزلندي ورويك موراي المنشور في نسخته العربية في العام(2013) والذي تناول العلاقة بين الجغرافيا والعولمة ، وهذا الكتاب صال وجال للبحث عن إجابة حصرية وحاسمة لسؤال : هل ماتت الجغرافيا ؟ ، وفي هذا الكتاب رصد حالة انخفاص الصلة بين علم الجغرافيا الأكاديمي والمحبوس في الكتب التنظيرية الجافة والأبحاث والدراسات الكاذبة التي لا تمت للواقع بصلة وبين العولمة التي تتصاعد حدتها ويتعالى نشاطها الاقتصادي والتنويري والاقتصادي ، ومدى انحسار وفتور الوعي الوطني لدى الأمم نتيجة استغراق معظم الشباب في اللهاث وراء كل غريب ووافد وأجنبي. ولا شك أن الكتاب انتهى بنتائج غير سارة بالنسبة للجغرافية ومستقبلها المعاصر . واليوم وفي ظل المحاولات والمساجلات المحمومة والمريضة الموجهة صوب مصر من أجل إبعادها عن دورها الريادي في المنطقة والعالم فإن الجغرافيا دورها اليوم بات ضروريا وملحاً ، وعلى الجغرافيين اليوم أن يجتمعوا على هدف واحد ومهمة وطنية محددة وهي تنمية الوعي الحضاري وتعزيز الانتماء الوطني لدى شباب هذه الأمة . وحينما قال السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي عبارته الشهيرة بإن مصر هي أم الدنيا وستصبح بحجم الدنيا فعلى الجغرافيين والشباب المصري أن ينتبهوا إلى أن العبارة تتطلب جهودا مخلصة ونهايات محمودة ، على الجغرافيين أن يكتبوا ويرسموا خارطة طريق للوطنية وتعزيز الهوية وتجديد الخطاب الجغرافي المعاصر تماما كما ننادي بتطوير وتجديد الخطاب الديني ، وعلى الشباب المصري الذي رأيته وجلست معه وناقشته وتعلمت منه أكثر مما عَلَّمت أن يقرأ ويتجول ويشاهد ويعي ويتأمل مصر كيف كانت وأصبحت ولابد أن تصعد مجددا صوب منصة التتويج . المشهد.. لا سقف للحرية المشهد.. لا سقف للحرية