يصادف اليوم 27 يوليو/تموز ذكرى وفاة المؤرخ و المفكر ابن “الناصرة” “نقولا زيادة”، الذي توفى في عام 2006م، بعد حياة حافلة بالعمل والإنجاز بكل أبعادها الإنسانية والوطنية والعلمية، فكان رائداً ومعلماً بكل ما تحمله الكلمتان من معنى. إنه عاشق فلسطين و سورية ولبنان، وكل البلاد العربية التي عمل بها؟. نعم عشق التاريخ، والعمل والانتاج، والعطاء، تواصلت معه في سنيه الأخيرة وأدركت عن كثب أنه صاحب مسيرة عظيمة في التعليم والتعلم والبحث والتأليف لطالما زينها بالتواضع والوفاء والمرح. ولد “نقولا زيادة” في 2 من ديسمبر عام 1907م في حي “باب المصلّى” أحد أحياء منطقة “الميدان” في “دمشق”، من أبوين فلسطينيين من “الناصرة”، رغم وفاة والده ثم خاله الذي رعاه، استطاعت والدته أن تعمل وتعيله حتى تابع دراسته في مدرسة “جنين” في “فلسطين”، تخرج من دار المعلمين بعد ثلاث سنوات (وكان عمره حينئذ 16 عاما)، انتقل بعدها ليعمل مدرسا في قرية “ترشيحا” ثم في مدينة “عكا” عام 1925، ورغم ميله لتعليم الرياضيات فقد تم تكليفه بتعليم التاريخ والجغرافيا فاضطر الى دراستها والبحث في مواضيعها وكتبها هنا وهناك، وما لبث أن وجد نفسه قد تعلق بها، وسرعان ما تعرّف إلى بعض البعثات الأجنبية للتنقيب عن الآثار في “فلسطين”، فقام بدوره بزيارة الكثير من المناطق الأثرية فيها، وكان في بداية حياته يعد نفسه “مؤرخًا تحت التدريب”، وأخذ في نشر بعض المقالات، الأمر الذي عزز ثقته في السعي على هذا الطريق أكثر فأكثر. في عام 1935 اختير لبعثة دراسة التاريخ القديم في جامعة “لندن”، وجامعات أوربية أخرى، اجتازها بنجاح ثم عاد إلى “فلسطين” في صيف 1939 قبل أن تبدأ الحرب العالمية الثانية بأسابيع، وخلال السنوات الثماني التالية لعودته درّس التاريخ القديم، وتاريخ العرب في الكلية العربية (القدس)، وصدر أول كتاب له عام 1943م بعنوان “روّاد الشرق العربي في العصور الوسطى”، وحاول خلال تلك السنوات أن ينقل بعضا مما تعلمه في الغرب إلى طلابه من خلال محاضراته وكتبه. في عام 1947 سافر إلى جامعة “لندن” مرة ثانية للإعداد للدكتوراة، وكان جل اهتمامه قد انتقل من التاريخ الكلاسيكي إلى التاريخ الإسلامي، وفي هذه الفترة كتب عددا من المقالات التاريخية في كل من “المقتطف” و”الثقافة” وغيرهما. قضى “نقولا” في “لندن” عامين أعد خلالهما رسالة الدكتوراة عن “الحياة المدنية في بلاد الشام 1200-1400 م” وفي سنة 1950 ناقش الرسالة ونال شهادة الدكتوراة. عين أستاذا في دائرة التاريخ في “الجامعة الأمريكية في بيروت” ثم اصبح أستاذا، كذلك أستاذا في جامعات أخرى مثل “هارفارد”، و”زاريا”، و”عين شمس”، “الجامعة الأردنية”، “اللبنانية”، و”جامعة القديس يوسف”، وغيرها. يسجل له الحرص على جمع أعماله لتبقى متاحة للأجيال، كذلك أسهمت دور النشر في “بيروت” في تقديمها للجمهور على نطاق واسع. لقد جُمعت مؤلفاته في 23 مجلداً، وفي رد على سؤال حول أعماله قال: «لي أربعون كتاباً باللغة العربية، وستة كتب بالانكليزية، وتسعة كتب مترجمة من الانكليزية إلى العربية، وكتاب مترجم من الألمانية إلى العربية اسمه «تاريخ العرب». ولي بالانكليزية كتاب عن “السنوسية”، وكتاب عن جذور الحركة الوطنية في تونس، ولي 125 مقالاً كبيراً أو بحثاً ألقي في المؤتمرات، أما المقالات الصغيرة فكثيرة، ولي ألف وسبعمائة حديث إذاعي بالعربية كتبتها وقدمتها، وحوالى خمسمائة منها بالانكليزية». توفي عن عمر يناهز 99 عاما، قضاها في العمل والعطاء والإبداع. لقد اهتمت المراكز الجامعية والبحثية ووسائل الإعلام بأعماله وإنجازاته، وهي لاتزال تفعل ذلك، ومن يتأمل سيرته المديدة والعظيمة يجد فيها أيضا العديد من الرسائل، ما أحوجنا إليها الآن ونحن نواجه الكثير والكثير من التحديات، إنها رسائل إنسانية من طفولته وشبابه وكفاحه بفضل أمه، وهو يتحدى النكبة، رسائل في الانتماء للمجتمع العربي الذي يجمعنا، رسائل في الهوية الوطنية الجامعة التي توحدنا، رسائل في اللغة العربية التي أجادها وسخرها في علوم التاريخ والثقافة، رسائل في دور المثقف في مجتمع تسوده قيم الترف واللهو والاستهلاك، رسائل من المجتمعات العربية المتعددة التي احتضنته وبادلته حباً بحب، وعطاء بعطاء، قبل أن تسقط وتتمزق خلال السنوات الأخيرة بفعل الاحتراب والتقاتل، وقد استشرت فيها الأفكار الطائفية البغيظة، والأنانية العمياء، إنها رسائل نجاح نتجاهلها، ولانبني عليها، حقاً إن الكثير من مجتمعات العالم تنجح في الاستفادة من الفشل، بينما نفشل في الاستفادة من النجاح. “عرفتهم” زاوية ثقافية مجتمعية دورية يكتبها . د. غسان شحرور