موجة حنين عاتية استغرقتني بمجرد ان التقطت عيناي خبر وجوده ضمن الخبراء المتحدثين في المؤتمر الثقافي الكبير الذي سوف ينعقد في القاعة الرئيسية للجامعة، فرصة عمري التي انتظرها لكي التقيه وجها لوجه، احب على يده والثمها، بينما عيناي تتأمل تفاصيل هذا الكيان المهيب في شغف منفلت. حالة مميزة وفريدة من المشاعر المبهجة استغرقتني، جمحت بي بعيدا عن العقل والمنطق، هذا “السيد” لم التقيه قبلا في حياتي، لكن صورته الغائمة التي كان يطل من خلال الصحيفة مع مقالاته انطبعت في ذهني ووجداني. كان يبدو شاحب الوجه، جامد الملامح، ذكرني بناظر مدرستنا القديمة حينما كان يظهر أمامنا فجأة ونحن مستغرقون في اللعب والقفز والصراح والتعارك، يظل يطالعنا من خلال زجاج نظارته الشمسية الغامقة، وملامحه الصارمة الجامدة، ولا ينبس، فترانا نتبخر من فناء المدرسة في ثوان، نظل نركض حتى يحتوينا الفصل من دون ان نجرؤ على النظر الى الخلف ومطالعة رد فعله، كنا نموت رعبا من الوقوف امام هذه الملامح التي تشي بالصرامة والقوة. صورة “سيدي” في الصحيفة في صدر المقال مفعمة بجاذبية مغناطيسية غريبة وغير مفهومة، زلزلت كياني التواق لحروفه، وجرأته. مقالاته وكتبه التي مرقت بين يدى شغلت مساحات عريضة داخل عقلي وذاكرتي منذ ايام صباي وشبابي المبكر، ودغدغت مشاعري التواقة دوما للتفرد والتميز. أفكاره كانت تطير معي في احاديث السمر المسائية مع أغبرة دخان السجائر والشيشة على المقاهى مع الاصدقاء، وفي المنتديات الثقافية، ولاحقا حلقت في سطوري الورقية والاليكترونية. دائما كنت أراه ماثلا أمام عيني، يقف بهامته المفرودة التي ارتسمت داخلي، يطالعني من خلال زجاج نظارته الطبية الملون السميك، وانفه الكبير المقوس، وابتسامة تغرق وجهه الشاحب المشرب بسمرة الطين، تكسو بشرته الخمرية ندوب سوداء غائرة اكتست بهيبة الزمان، والأيام القاسية. لم تكن بدلته التي رأيته يرتديها ذات يوم في احدى لقاءاته التلفزيونية النادرة مجرد اشارة واشية على عمق افكاره، وطريقته الفريدة في الظهور بين الناس فحسب، فقد كانت فضفاضة، كأنها تتسع لفضاء الكون كله، وتتمرغ برحابة عالم بدأ يضيق على ساكنيه، نسيجها الكتاني باللون الزيتي مشقوق طوليا بخطوط رمادية باهتة صادمة، يظهر من تحتها قميص ابيض مطفي وقد تزين برابطة عنق حمراء زاهية احكمت تلابيب الرقبة التي نفرت عروقها للخارج وكشفت عن مدى ساذج من الاناقة والزهو. كان أيضا بطئ ايقاعه في الحديث اثناء المقابلة وكذلك سرعة بديهيته، مع تدفق الأفكار والمعلومات التي يرسلها بسلاسة في اتجاه وجه المذيعة اللامع المدهوش، وقد تركت أحد فخذيها شديد البياض والجاذبية مرتاحا فوق الفخذ الآخر من دون مبالاة، مصدرا قويا لتحفيز خيال الصبية الصغار من أمثالي الذين اقترب أوان خروجهم من بوابة مراهقة الجسد المحفزة للحياة والحرية، في حينها كنا مولعين بالتحدث كثيرا، وبالحواديت التي تحرر الخيال والجمال وتقاوم جميع السلطات الأبوية القامعة المستبدة. كنا في هذا الوقت متقدين بالحماس والكلام المحموم عن الحب والحرية والعدل والمستقبل، ونفتش عن خبايا الأمور داخل الصحف والمجلات والكتب التي يجلبها والدي الى المنزل ليقرأ فيها مثل عادته. كنت اجد متعة كبيرة في الجلوس مع أبي واصدقائه، انصت بدهشة واستغراب لحكاياته عن الناس، والاحوال بينما يتزعم القعدة والمكانة في تلك الغرفة المهملة من منزلنا، والتي كان يسكنها صالون قديم تم ترميمه أكثر من مرة بواسطة نجار عجوز ثرثار صديق للعائلة وقتئذ، و كان هذا الصالون “القديم” مكتوبا في قائمة الزواج التي وقعها والدي ليلة زفافه من والدتي، في هذه الغرفة احتفظ والدي بكميات هائلة من الكتب والمجلات كان يشتريها ويمضي اوقات طويلة في قراءتها محتميا من الضوضاء والشقاوة التي كنت وأخوتي نمارسها دائما. باب الغرفة العجوز كان موصد دائما، ولا يستطيع أحد منا الاقتراب، عندما ينتهي من خلوته يفتح الباب فيصدر صريرا هائلا يتبنه له جميع الكائنات داخل البيت، كان للغرفة مدخل خاص على الشارع، ولا يضطر الضيف القادم المرور عبر مدخل البيت الرئيسي، وكان بابها لاينفتح سوى للزوار والضيوف من اصدقاء ومعارف ابي وأمي في جلساتهم داخل منزلنا في امسيات الصيف البعيدة، تلك أيام الهدوء والنسمات الرقيقة التي كانت تنسل داخل الناس فتحدث داخلهم حالة فريدة من التصالح والمواءمة مع واقع صعب شديد المراس، وتظل نافذة غرفة المجلس مشرعة ضلفتيها، يملأها اكسجين الصيف البارد المتجدد المنعش لجناحي رئات اولئك الذين أذبلهم غبار السجائر الذي يتدفق بوحشية وسراشة داخلهم، كما يتمكن ضوء المصباح النيون شديد الوهج من النفاذ الى الخارج، وتنفذ معه انفاس الحاضرين، واصواتهم المتداخلة الصاخبة والهادئة في هدوء. شبح الحنين الجارف تملكني للقاء الرجل في قاعة المؤتمر، كأنني كنت مهيئأ للحظة غريبة مدهشة، شعرت بانفلات كامل عن السيطرة على ادراكاتي وربما حركاتي الطوعية، الوعي لدي يتراقص، خيالات الصورة المطبوعة داخل ذهني تمتزج بمقولات وعبارات قرأتها له وعنه، ينشط معها الحماس والحمية والحنين للقاء شخصية عظيمة مقدسة مصنوعة محليا في مصنع افكاري وخيالاتي ووجداني، ما زلت اتسمع بوضوع لايقاعات ضربات قلبي وهو يتراقص كلما مضى المزيد من الوقت على حتمية اللقاء. “سيدي” عبارة عن شخصية عظيمة تمكنت من الهيمنة بمنتهى الجبروت، ونصبت من نفسها اله في داخلي ينبغي ان اقترب منه أكثر فأكثر، وان امارس معه طقوس الامتنان والعرفان والخضوع. كأن هذه الخيالات، وطول رحلة البحث والتنقيب والعراك واللهفة الثائرة دوما للاختلاف كل ذلك انسجم مع لهفتي المزمنة ورغبتي في تغيير العالم، والقواعد، وتأسيس عالم جديد متطور وقابل للملائمة في احلامي وخيالاتي، وغير مهدد بالارتداد الى الخلف، عالم ترفرف فوق تلاله وفي سمائه أعلام الحرية والحب والعدالة. كنت أرى “سيدي” هكذا دائما، وهكذا صنعت له نصب اله في وعيي وفي خيالاتي وفي احلامي ايضا، وهكذا اشتقت الى لقاءه وملامسة يديه ووجهه ونيل بركته، وهكذا كان يقول عنه والدي زمان في حضرة اصدقائه، “انه نبي هذا الزمان”، لم أفهم هذه العبارة في حينها، لكنني الآن اعتبره “اله هذا الزمان”، الذي يهتز وجداني طربا كلما اقترب زمن لقائه، واقتربت المسافة بيني وبينه. قلبي ما عاد يحتمل هذا الايقاع المتسارع من التخبيط، تحسست صدري بكف يدي الأيسر، احكمت اصابعي جيدا لكي امسك به وامنعه من القفز خارج جسدي، ضرباته القوية تصرخ لتسمع العالم. سيارتي تقترب من مصفتها داخل الجامعة بالقرب من قاعة المؤتمر، قلبي يكاد يقفز خارجي، اصابع يدي نالها الاجهاد والتوتر، حان الآن موعد لقاء الحبيب، سوف التقيه والثم يديه وانال بركته، واتمتع بالنظر الى عينيه الجميلتين مصدر كل هذه المتعة وعظمة الحياة والعالم. سوف احتضن “سيدي” الذي علمني كيف أكون انسانا مثلما أكون الآن، وعلمني أيضا كيف ان القابض على مبدأه في هذه الأيام مثل القابض على جمرة ملتهبة من النار لاترحم. انه “سيدي” الذي لم التقيه يوما ما وجها لوجه، لكني التقيته كثيرا مع كل حرف خطه، ومع كل فكرة خلقها، ومع كل لقاء اذاعي أو تلفزيوني كان طرفه. من المؤكد انني اعرفه جيدا، أحفظ كافة تفاصيل خلاياه. لدي يقين من المستحيل خلعه انه يعرفني جيدا، وينتظرني بشغف امثلما انتظره. عبرت بوابة المبنى الذي ينعقد فيه المؤتمر، فضاءها الفسيح متروس بالوجوه المألوفة وغير المألوفة، والأسمال الرسمية وغير الرسمية، والأجساد النحيلة والبدينة والعريضة، تفوح روائح التبغ والبارفانات الرخيصة التقليد والثمينة الاصلية تعطر فضاء هذا السوق البشري العجيب، اقتربت كثيرا من لقاء “سيدي” الذي صنعته، في طريقي عبر الردهة الفسيحة شددت على ايدي الكثيرين، واحتضنت الكثيرين، انفلتت مني نظرات غريزية حادة الطبع نحو امرأة تبدو اربعينية تتدثر في عباءة حمراء شفيفة فوق فستان أسود عاري الظهر والصدر، لحم جسدها الانثوي الناصع الأشهب يصرع عيون اولئك الذين تحلقوا حولها، مضيت في طريقي مثبت البصر على روابط العنق والوجوه الرجالي التي تتبدل الوانها واشكالها حولي حتى ادركته من بعيد، كان يقف على بوابة القاعة التي سيبدأ داخلها احتفالية افتتاح المؤتمر، بدت القاعة فسيحة، متسعة، ما تزال غالبية مقاعدها شاغرة، والضوء المسكوب داخلها شديد، هرعت نحوه، سبقني اليه قلبي وتلاحقت ضرباته، قبضت على كفه الأيمن الذي كان متكئا به على الجدار، احتويته في صدري، رفعت كفه وقبلتها في تلهف وخشوع، استوليت على رأسه امطرتها بقبلات عاشق ملهوف للقاء معشوقه، امطرتني عيناه وبرودة اطرافه بوابل من نظرات ومشاعر الاستغراب التردد. بدا الأمر كأنه لايعرفني، كان يتملكني شعور جارف انه يحفظ كافة تفاصيلي، سحب كفه من حصار يديا سريعا، انصت الى صوتي الواهن وانا اقدم نفسي له على اعتبار اني من مريديه وتلامذته المخلصين، لم تتغير ملامحه وفق ما كنت اتمنى واتوقع، تكاثر الناس حولنا، انشغل في حوار مع امرأة تحدثت معه باريحية كبيرة، بدا مبهورا، مهتما وسعيدا بكلامها معه. وقفت مبهوتا لدقائق بينما انشغل يتابع محدثيه الأقرب الذين احاطوا به، يتباسط معهم في القاء النكات والغمزات والكلام التافه، كأني انمحيت تماما من محيطه على الرغم من اني مازلت اقف قبالته، قلبي ما يزال يعزف لحن العشق. طالبنا المنظمون للمؤتمر بالدخول ريثما يبدأ حفل الافتتاح، تسللت من المكان في هدوء وخيبة أمل زلزلت كياني، لم يشعر بي، ربما لم يهتم، أخذت معي الغصة، رانت في الأفق علامات الهزيمة، من موقعي في الصف قبل الأخير لمحته يتوجه نحو المنصة التي كان يتصدرها ثلاثة رجال، سيادة الوزير الذي سوف يفتتح المؤتمر، ورئيس المؤتمر، وأحد رجالات الثقافة الكبار الذي شغل جميع المناصب الرسمية، وحصل ايضا على جميع الجوائز الرسمية، تتردد اقاويل كثيرة عن مبلغ نفوذه الجبار في الوزارة حتى الآن، وعلى الجميع، يبدو فعل الزمن واضح على طقاطيع وجه المنكمشة مثل بطة عجوزة مترهلة تمضي ايامها، الشيب الذي كسى تفاصيلة تميز بوضوح في الحاجبين، شكلت كثافة الشعر الأبيض فوق عينيه الذابلتين قوسين كبيرين مميزين. افكار الرجل مشعر الحاجبين وكتاباته، والذي كان يجلس على المنصة مثل ثعلب عجوز ماكر في ثقة متحدية اثارت الجدل في توجهها المتين الداعم لكافة انظمة الحكم السياسية على مر العصور، الأمر الذي جعله يحتفظ بسلطاته ونفوذه على مدار العقود الماضية رغم تباين السياسات والتوجهات والأفراد. كنت دائما اعتقد ان مثل هذه النوعية من البشر معوقة لحركة الحياة والتطوير والتغير في المجتمع، هكذا كان “سيدي” يعتقد أيضا، هذا الأمر انعكس في دباجتة لمقالاته في الصحف، وفي كتبه الكثيرة، نفس الافكار ونفس المعتقدات. لكنه الآن على مرأى من قلبي، ومن عقلي الذي بدأ يتضعضع، طفق يحجل بسرعة حتى بلغ المنصة، قبض على يد الرجل المشعر كثيف الحاجبين، نطلق عليه في جلساتنا رجل كل العصور، الذي اعتصر الزمن جسده، لم يبق له سوى صوت مميز رخيم، الشيء الوحيد الذي يشي عن وجوده في عالم الأحياء، بمجرد ان وصل اليه عند المنصة حتى طفق يلثم يديه وخديه ورأسه في مشهد رآه غالبية الحضور في الصفوف الامامية، هذا المشهد وضع حدا لضربات قلبي، سكتت فجأة، شعرت بدوار شديد، ورغبة في التقيؤ، لكن الذي حدث قبل ان ادخل في نوبة الاغماءة الكاملة أني لمحته ينسل الى مقعده في هدوء، اسارير وجهه منبسطة، تكشفها ابتسامة عريضة مريحة، بينما صوت مقدمة الحفل الشابة الجميلة يتردد بزهو داخل القاعة يعلن عن افتتاح المؤتمر، قبل ان يحملوني خارجها لأتلقى اسعافا اوليا لعله ينعشني.