تخيل أنك جندي في جيش مصر، أيا كانت رتبتك، وسواء أكنت تقضي خدمة التجنيد الإجباري أو كنت من القوات العاملة. لا شك أنك في هذه الحالة تخدم وطنك في أسمى وأرفع أشكال الخدمة الوطنية، خاصة إن كنت تخدم على الحدود. إن الجندي المرابط على الحدود يؤدي واجبه الوطني في حراسة حدود الوطن، وذلك في الأساس من خلال تنفيذ التعليمات الصادرة إليه. وفي المقابل يجب على "الوطن" أن يحمي أبنائه الذين كلفهم بحمايته. وتخيل أنك الجندي بعد أن أديت واجبك الوطني، كما تفرض عليك التعليمات، لا يتخلى عنك الوطن فحسب، بل يقتلك ويعلن أنك انتحرت ويشكك في حالتك العقلية ويشوّه ذكراك. إن كلمة "وطن" كلمة واسعة وفضفاضة ومجردة، لكنني أقصد بها في السطور السابقة "النظام الحاكم"، باعتباره وكيل الأمة والوطن، والمتصرف باسمهما. أن يُقتَل الجندي بأمر من قائده الأعلى، فقط لأنه نفذ الأوامر التي صدرت له، يعد خيانة للإنسان وللوطن. فكيف تأمرني وعندما أنفذ، كما يجب على أي عسكري، تعاقبني بالقتل والتشهير وتشويه السمعة. كان أولى بك يا "قائدي" وأنت تضعني على الحدود أن تقول لي "إن الأوامر الصادرة لك بحماية الحدود أوامر مزيفة". وكان أولى بك يا قائدي وأنت تعطيني البندقية إن تلقنني: "هذه البندقية للمنظرة وليست للاستخدام في أية حال، حتى وإن اخترق العدو أرض الوطن ودنسها". كان أولى بك أن تعرّفني أنها مسرحية، وأنني "خيال مآتة"، فخيال المآتة لا حول له ولا قوة، حتى ولو وضعوا في يده بندقية. لكن يا قائدي أن تجندني وتسلحني وتأمرني بحماية الحدود، وأن توقفني "خدمة" على السلك وتحدد لي كلمة سر الليل وتأمرني بأن أضرب النار على من يقترب ولا ينطق بها وأن أضرب النار على من يعبر السلك ويتعدى على حدود الوطن ولا ينصاع للأوامر ... ثم بعد أن أنفذ أوامر بحذافيرها، كما يجب عليّ كعسكري منضبط، تقتلني غيلة وتكذب على الميت الذي لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، وتتهمني بالانتحار وتشكك في عقلي ونفسيتي، وأن تضغط على أهلي وأصدقائي لكي يشهروا ويؤكدوا ما نسبه إلى "قائدي" من تشويه وافتراء ... فذلك منك خيانة لي، أنا الإنسان، وخيانة للوطن بكل ما في كلمة "وطن" من معاني. كنت جنديا منضبطا، أسمع وأطيع لقادتي، لأننا جميعا، كما كنت أظن قبل أن يقتلوني، نخدم الوطن. وأنا قبل ذلك كنت شابا ريفيا، لا علم له بألاعيب السياسة وقذاراتها. فلم أكن أعلم أن السياسة لا تعرف الصدق ولا الأمانة ولا الشرف، ولا حتى الوطنية ولا الخوف من الله. صدقوني، لقد كنت شابا ريفيا ساذجا آخذ الأمور على ظاهرها، وأصدق كل ما يقال، وبالطبع لا يساورني أدنى شك في قادتي. كنت أظن أن القائد يقدم روحه ودمه لحماية جندوه، لا أن يقتلهم، وللأسف لأنهم نفذوا أوامره. هل يجوز يا "قائدي" أن ترضي العدو الذي استباح أرضي ساعة الغروب بقتلي لأني تعاملت معه كما أمرتني؟ ماذا ستقول لله يوم الحساب في دمي؟ ستقول له أنك آثرت السلامة، أو أنك ضحيت بدم واحد لتحمي دماء الكثيرين؟ وما ذنبي؟ وبأي ذنب قتلت؟ ألم يكونوا هم من أعتدوا على الأرص؟ ألم يكن أولى بك أن تصمد في وجوههم وتغلظ لهم القول لكي لا يكرروها؟ لماذا قتلتني وكيف ستحاجنني أمام رب العالمين؟ ورغم ذلك، صدقوني يا من شهدتم ما حدث وسمعتم به، صدقوني يا من قيل لكم أنني مختل ومجنون، صدقوني لو أعيدت لي الحياة وتكرر الموقف بحذافيره، مع علمي المسبق بأن قائدي "محمد حسني مبارك" سيتقلني لو أديت واجبي، والله سأفعل ما فعلت ثانية وثالثة وألف، وذلك لأنني مجنون فعلا، لكن بحب الوطن. فأنا عندما قتلت الإسرائيليين الذي تعدوا على نقطة خدمتي كنت أودي واجبي تجاه وطني، وليس تجاه مبارك، كنت أحمي وطني، وليس مبارك، كنت أحافظ على شرف تراب وطني، وليس شرف مبارك. ومن يؤدي الواجب ويدافع عن الوطن وشرفه وترابه لا ينتظر تكريما، وقبل ذلك لا يفكر في رد فعل قائده. لكن من حقي، كما أديت واجبي، أن أنال حقي .. حقي في محاكمة من قتلني وشهر بي وشوّه ذِكري، حقي في أن يحميني الوطن حيا وميتا، كما حميته حيا حتى قتلت. لقد مات الشاعر المقاوم الكبير أمل دنقل قبل مقتلي، لكن لا أعلم لماذا تلح عليّ قصيدته "لا تصالح"، خاصة أبياتها التالية: لا تصالحْ، ولو حذَّرتْك النجوم ورمى لك كهَّانُها بالنبأ.. كنت أغفر لو أنني متُّ.. ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ. لم أكن غازيًا، لم أكن أتسلل قرب مضاربهم أو أحوم وراء التخوم لم أمد يدًا لثمار الكروم أرض بستانِهم لم أطأ فأنا لم أطأ أرض الصهاينة، إن كانت لهم أرض عندنا، ولم أتسلل إلى معسكرهم، إذا جاز لهم أن يبنوا معسكرا على أرضنا في فلسطين. كل فعلته أنني حميت أرضي ووطني، وونفذت تعليمات "قائدي". فلماذا أُقتَل، وعلى يد "قائدي". وبعد، لقد انتهى سليمان خاطر من عرض موقفه في القضية التي لم تحسم بعد أمام محكمة الوطن. ولا بد أن يفتح التحقيق في هذه القضية، وأن نعرف ملابساتها وأن يُعاقَب الجاني بأشد العقوبات الممكنة. فهل يعقل أن ينتحر شاب لأنه أدى واجبه؟ هل يعقل أن ينتحر جنديا لأنه حمى وطنه؟ إن قتل سليمان خاطر، لو ثبت أنه قُتِل فعلا، يمثل خيانة للإنسان والمواطن والجندي وللوطن، ولا بد أن يعاقب فاعله بعقاب من خان الوطن. لا تستبعدوا أي شيء عن نظام مبارك، أي شيء من قتل "جنوده" على الحدود مع صحراء النقب الفلسطينية، أو السكوت – فحسب وليس التآمر- عن قتل 33 قيادة عسكرية مصرية على طائرة بوينج عام 1999، أو التكتيم على قتل المصريين في البحر الأحمر، أو في القطارات، أو في أقسام الشرطة تحت التعذيب ... لا تستبعدوا عليه أي شيء. فقد كان الإنسان المصري هو أرخص شيء في نظر مبارك ونظامه. ولا غرابة إذن في أن يقتل "جنوده" لإرضاء أصدقائه وسادته في إسرائيل، ومن ورائهم آلهته في البيت الأبيض والكونجرس. لكن الحق أولى بأن يعاد لأصحابه، خاصة من فدوا الوطن بأرواحهم وسمعتهم وشرفهم. ومن حق سليمان خاطر أن نفتح تحقيق جدي يُشرِك أطراف مدنية مصرية، وإذا ثبتت براءته من الانتحار، وذلك أمر مؤكد، فلا بد أن يأخذ حقه بأن يعتبر شهيدا ويُمنَح ما يستحق من التكريم العسكري والوطني، وقبل كل ذلك أن يُعاقَب من قتلوه بتهمة الخيانة العظمى. دكتور مصطفى قاسم [email protected]