أخلى جهاز الكسب غير المشروع سبيل سوزان ثابت زوجة الرئيس المخلوع على "ذمة التحقيقات"، في مقابل تنازلها عن حوالي 22 "مليم" جنيه وفيلا كانت في الأصل ملكا للدولة. وهناك كلام عن اعتذار الرئيس المخلوع للشعب المصري وتنازله عما يقول أنها كل ما يملك في مقابل العفو عنه. هكذا وكأنه لا وجود للقانون وسيادته وحكمه أو وجود للحق العام، وكأننا في قبيلة في أدغال أفريقيا المعاصرة، إن كانت لا تزال هناك قبائل تمارس ذلك، أو كأننا في العصور الوسطى أو القديمة التي تحل فيها القضايا بالترضيات والحلول الوسط، مع الأخذ في الاعتبار مكانة طرفي القضية. وفي اليوم نفسه ألقت الشرطة الأمريكية القبض على دومينيك ستراوس كان مدير صندوق النقد الدولي ومرشح اليسار الأوفر حظا – كما كان متوقعا ومخططا - في انتخابات الرئاسة الفرنسية القادمة بتهمة التحرش الجنسي بخادمة في فندق كان يقيمه فيه في الولاياتالمتحدة. وهذا بالضبط هو الفرق بين دولة القانون وقانون الدولة، أو بين حكم القانون وقانون الحكم، أو بين سيادة القانون وقانون صاحب السيادة. في حالة دولة القانون وحكم القانون سيادة القانون، التي يطبق القانون فيها على الكبير والصغير والقوي والضعيف والحاكم والمحكوم والأجنبي والمواطن، اعتقلت الشرطة الأمريكية الرئيس المنتظر للجمهورية الفرنسية لأن "خادمة" بفندق اتهمته بالتحرش بها. بينما في ظل قانون سيادته في مصر يخطط البعض إلى تسوية مع شخص أخرّ مصر "كلها" 30 سنة واستنزفها سرقة وفسادا وتخريبا هو وشلته، وبالطبع مع "ركن القانون على الرف" إلى أن يمر "سيادته" الفساد وعصابته من اللصوص القتلة، ثم يعود ليطبق على من يسرق كوب شاي أو من يرفع عينه في سيد من أسياده، كما قال مدير أمن البحيرة "البلطجي" السابق. وعلى ذكر كوب الشاي، أتذكر أنه منذ حوالي عشر سنوات قتل مغاوير الشرطة في عهد الرئيس المبارك مبارك – على قول ياسر عرفات رحمه الله – طفل أو مراهق تحت التعذيب، في جريمة بشعة ارتكبها هذا الطفل المفسد في الأرض، وهي أنه شرب كوب شاي في مقهى بمدينة المنصورة دون أن يدفع ثمنها. إن ما يحدث من إطلاق لسوزان ثابت وتمهيد لإخلاء سبيل زوجها وإخلاء سبيل زكريا عزمي وقبله فتحي سرور يؤكد أن دولة الظلم المباركية لا تزال قائمة بيننا. إنها الدولة التي تحتفظ بصرامة القانون، أو تتعداه آلاف المرات في الصرامة، إذا تعلق الأمر بمجرم "تافه" أو بريئ يراد "تربيته" و"تأديبه"، بينما يُرفع سيف القانون من الخدمة إذا تعلق الأمر بواحد من القطط السمان. وإلا فما تفسير كل جرائم الفساد ونهب المال العام والتغذيب وفربكة تقارير الطب الشرعي التي كشفت عن نفسها فجأة بعد سقوط النظام. وما تفسير الصرامة والمحاكمة العسكرية لمن يسرق "كوتشي" والتسوية والعفو مع من سرق "دولة". إن تفسيرها أننا كنا في زمن مبارك "الأسود" نعيش في ظل قانون صاحب السيادة الذي يستخدمه سيادته - وهم كثير على رأي عبدالحليم حافظ الله يرحمه أيضا - انتقائيا متى يريد وينحيه جانبا متى يريد، وقانون الحكم الذي يطوعه أداة في تكريس حكمه وممارسة فساده وإفساده، وليس دولة القانون وسيادة القانون وحكم القانون الذي لا يملك القانون فيه عيون أو حواس تميز بين الأقوياء والضعفاء وبين الحكام والمحكومين. إن السبب الجوهري وراء الفساد بكافة أشكاله، في زمن مبارك وأي زمن وأي مبارك، هو عدم تفعيل حكم القانون وسيادته المطلقة. فعندما يطبق القانون انتقائيا في حالات دون أخرى، وعلى ناس دون ناس، يفتح ذلك الباب واسعا لمن يخرقون القانون ويجعلونه "شبكة" من كثرة الاختراق. ولذلك لا بديل عن التطبيق الكامل و"الأعمى" للقانون على الجميع، من الآن وليس بعد ساعة أو حتى دقيقة. ولا مجال لأن يقول أحدهم لنبدأ من جديد "على ميه بيضة" بعد أن نغلق ملف النظام السابق. فمن يتنازل مرة، يتنازل ألف مرة. والقانون عندما يغفو مرة، سينام مرات ومرات. وإذا كانوا يريدون منا أن نتجاوز عن فاسدين وقتلة ولصوص أطاحت بهم ثورة شعبية، فماذا سيكون الحال إذا عاد رئيس قادم أو بعض أركان حكمه إلى مثل هذا الممارسات؟ إن دولة القانون هي الحل الناجع الذي من شأنه أن ينقل مصر إلى مصاف الدول الحديثة وأن يمكّنها من إحداث قطيعة مع الماضي الاستبدادي المتخلف. إننا نريد دولة، مثل دولة عدوتنا إسرائيل، تحاكم رئيسها وتعتقل ابن رئيس وزرائها. هذه هي الدولة التي يحترمها العالم ويأخذ مواقفها ومصالحها في الحسبان، وليس دولة "الحاكم بأمره" الذي يُفصّل القانون على مزاجه ويطبقه على من يريد وحينما يريد. كان بمقدور الولاياتالمتحدة أن تتلكأ قليلا إلى أن يغادر دومينيك ستراوس كان أراضيها، خاصة أنها اعتقلته من الطائرة التي كانت ستقله إلى باريس، ولأن المجني عليها سيدة رقيقة الحال بمنطقنا نحن في "دول السادة والعبيد"، ولأن الجاني شخصية أجنبية مهمة، ولأن الجريمة ليست من العيار الثقيل. لكن دولة القانون لا تعرف أي تمييز بين البشر، جناة أو مجني عليهم، ولا تصنف انتهاكات القانون إلى صغيرة وكبيرة. فالكل أمام القانون سواء، وكل انتهاكات القانون تستوجب نفس الجدية ونفس الحزم. وأكاد أجزم أن نفس هذه الجريمة لو حدثت في مصر، وذهبت المجني عليها إلى قسم شرطة مصري "من إياهم" لسمعت في حقها ما لم تسمعه في حياتها، بل ولفعل مغاوير شرطتنا ما لم يتمكن المتحرش من فعله. "شيء مقرف! أليس كذلك؟" ولم يعد من الممكن تحمله بعد اليوم. ونحن في مصر لا مجال إلى تقدم دولتنا ونهضتها داخليا وخارجيا، ولا مجال لنا نعيش حياة كريمة داخل مصر وخارجها، إلا من خلال دولة القانون وحكم القانون وسيادة القانون، وليس قانون الدولة وقانون الحكم وقانون سيادته. إننا بإيجاز لن نقبل أن نُحكَم بقانون سيادته مرة أخرى، أيا كان هذا ال"سيادته".