" يجب علينا أن نفكر كيف نعطي لأفكارنا أقصى ما يمكن من فعالية، وأن نعرف الوسائل التي يستخدمها الاستعمار لينقص ما يمكن من فعالية أفكارنا؟" تشتعل الثورة العربية يوما بعد يوم ويتصاعد لهيبها من بلد الى آخر وتتداعى تأثيرتها على المنطقة وعلى العالم رويدا رويدا. وينظر المراقبون الى القوى السياسية العربية على مستوى الأداء والحضور والابداعية في البرامج والتكتيكات، ويلاحظ بروز العديد من المفارقات، أولها هو اخفاء الرموز الحزبية أثناء الثورة والاندماج في الفعل الثوري المشترك والانخراط في العمل الجبهوي والمساهمة في قومة الشعب الموحد ولكن بعد ذلك حصلت الانتعاشة الايديولوجية وظهر مجددا الاصطفاف الحزبي وعاد منطق الاستعداء والتنازع بين المجموعات بعد اسقاط النظم الشمولية وبدأ صراع محموم على المواقع. المفارقة الثانية تتمثل في مطالبة جميع القوى السياسية بضرورة المحافظة على المد الثوري والاستعداد للتضحية من أجل صيانة قيم الثورة والتصدي الى القوى الرجعية وبقايا الأنظمة البائدة ولكن الغريب أن معظمها يبدي الكثير من المرونة تجاه السلطة الانتقالية والحكومات المؤقتة ويضع يده مع بعض القوى الملتفة على الثورة وتعلل ذلك بضرورة الخروج من الفوضى والمجهول الى النظام والاستقرار. المفارقة الثالثة أن جل الكيانات السياسية تطمح الى القطع مع الماضي والحسم مع خيارات الاستبداد والرأي الواحد وتنادي بالتعددية والديمقراطية ولكنها ترفض التقصي عن رموز الفساد والقصاص والثأر والاجتثاث من الظالمين وتجنح الى الصلح والتسامح وتنادي بالعفو والمصالحة. المفارقة الرابعة أن التيارات السياسية تتبنى خيار التوافق الائتلافي على مستوى الخطاب وتسعى الى بناء الكتلة التاريخية في الظاهر ولكنها أعادت تشكيل نفسها على أسس قديمة وأعادت انتاج نفس الخطاب الاقصائي الوثوقي وأهملت مفاهيم التاريخ والنقد والانسان والتقدم والحرية وسمحت لبعض القوى الانتهازية المهادنة الى التسلسل الى المشهد وأخذ الريادة في بث الفرقة ونشر روح التعصب الى الايديولوجيا والتيار وغض الطرف عن مطالب الشارع وطموحات الشعب وقيم الثورة. المفارقة الخامسة هي أن القوى الثورية تنتمي في معظمها الى فئات ناشئة ومقصية وقادمة من الأعماق ومن الجهات ويتصدرها فئة الشباب ولكن الذين صاروا يتكلمون باسم الثورة هم الشيوخ وبدرجة أقل الكهول وسكان المركز من الأعيان وتسندهم بعض القيادات الحزبية المقعدة عن كل فعل ثوري والتي عرفت بموالاتها للأنظمة البائدة وتبحث الآن عن الغنائم وتقوم برتق بكارتها السياسية. ان هذه المفارقات تدعونا الى المزيد من التفكير والتدبير من أجل ضبط أهداف الثورة وتوفير المناخ الملائم من أجل تحصيلها بشكل تدريجي ومرحلي واستشراف مستقبل المدينة العربية في اطار مصالحة سياسية حقيقية بين القوى الثورية المعبرة عن ارادة الشعب والحلم الشبابي الواعد. ان المطلوب هو انجاز المصالحة السياسية الشاملة على أساس مفهوم الصداقة السياسية في اطار العدالة الانتقالية من أجل فك الارتباط مع المنظومة الشمولية التي ترمز الى النمط البائد من الحكم والقطع معها. غير أن الاستثناء يأتينا كالعادة من فلسطين التي تلقفته جماهيرها دروس الثورة العربية وهضمت الحالة الثورية بسرعة وكانت الثمرة هي عودة الحلم الى الوجود وهو العودة الى الديار والتمسك بالأرض. لقد أعطت الثورة العربية الى القضية الفلسطينية بريقها وأعادتها الى مركز الاهتمام بعد أن كادت تطمس نقوشها من فرط الاستعمال ويلقى بها في أرشيف الذاكرة النضالية العربية ويحنطها تقديس الزعامات وأحيت الصراع مع الاستعمار والاستيطان بعد أن كانت بالمرصاد للاستبداد والشمولية والارتداد . لقد اتخذ احياء نكبة اغتصاب فلسطين سنة 1948 هذه المرة في زمن الثورة طابع الاعصار الشبابي الزاحف وقام الثائرون بطرد اليأس ونزع الخوف وشرعوا في محاصرة مدنية سلمية للمعتدين الغاصبين وكثفوا مرابطتهم الاحتجاجية على الحدود في الجولان السوري ومجدل شمس ومارون الراس في لبنان وقلنديا وبيت حانون في الضفة ورام الله في الضفة الغربية. لقد كانت المصالحة السياسية في فلسطين بين فتح وحماس خير هدية تقدم الى الشباب العربي الثائر من الطبقة السياسية الفلسطينية التي برهنت مرة أخرى على نضجها وقربها من الواقع واستعدادها للتضحية. كما وقع تفعيل مقولة تحرير فلسطين من جديد وخطاب خطاب الرفض ورفعت اللاءات الشهيرة وعدم الاعتراف بالكيان الغاصب وهناك من ذهب الى أبعد من ذلك وطالب بالشروع في الانتفاضة الثالثة والاستفادة من الثورة العربية بإطلاق شرارة الثورة الفلسطينية في الداخل والخارج من طرف الشباب والناشطين. من هذا المنطلق تدفقت الجماهير العربية الثائرة يوم احياء الذكرى63 للنكبة من كل حدب وصوب رافعة الأعلام الفلسطينية وزاحفة نحو الحدود من أجل العبور والتجاوز والدخول بعد أن قطعت المسافات والبلدات والكل يمني نفسه بتحرير الأرض المغتصبة واستكمال الفعل الثوري. ان سقوط عدد من الشهداء والجرحى الفلسطينيين الذين هم في عمر الزهور وقيام سلطات الاحتلال بضرب وأسر عدد آخر والتحرش بالصحفيين والاسراع بإطلاق التهديد والوعيد هو دليل على الاصرار على المضي قدما في الغطرسة وتصميم الشباب العربي الثائر على النضال مهما كانت درجات التوتر والتحديات وحجم التكلفة البشرية والمادية التي ستدفع. اذا كان شباب الثورة ينادي بتحرير فلسطين واذا كان الشعب العربي يريد العودة الى الأرض وتحقيق الوحدة العربية فإن بيت المقدس يجيب على التو بضرورة القدوم من أجل الحج والصلاة وان الشباب المقاوم يلبي النداء وينزل الى الميدان ويحمل لواء الكفاح ومشعل الثورة الى قلب الكيان الغاصب. فما قيمة هذا الهجوم البشري على المعابر الحدودية من الشمال والشرق والجنوب والوعد بالمسيرات العربية المليونية لنصرة القدس وفك الحصار عن عزة الأبية؟ وهل نرى فلسطين حرة بعد اندلاع الثورة العربية أم أن ذلك رهين تركيز نظام عربي ثوري؟ وكيف تكون الثورة العربية البوصلة الهادية الى استعادة الحقوق العربية الضائعة؟ ألا ينبغي أن يكون الصراع الشعبي مع الاستعمار والاستيطان هو بنفس القوة التي تدور بها الثورة على الشمولية والاستبداد؟ كاتب فلسفي