لا مناص من الاعتراف بأن المثقف القومي العربي كان حتى اندلاع الثورة الديمقراطية العربية مباشرة مستعدا لأن يقبل –على مضض- الاستبداد وقمع الحريات من بعض النظم العربية "القومية" في مقابل دعاواى المقاومة والتحرير التي ترفعها. تجلى ذلك واضحا في موقف المثقف القومي العربي من نظام حزب البعث العراقي السابق، حتى كان هذا المثقف يحترق مع كل قنبلة وصاروخ تسقط على أرض العراق وشعبه خوفا على الشعب وكذلك النظام، غاضا الطرف عن استبداد النظام العراقي السابق وقمعه لشعبه. وتبدا ذلك جليا أيضا في توريث السلطة في سوريا، حيث أخفى الجميع حسرتهم من تحويل الجمهورية إلى ملكية وراثية تحت قناع الرضا بخطاب بشار الأسد المقاوم لإسرائيل والغرب. لكن الوضع العربي اختلف تماما عما كان عليه قبل اندلاع الثورة الديمقراطية العربية. فقد كنا قبل الثورة نتعامل مع وجود النظم العربية الحاكمة باعتباره من قضاء السماء، حيث كان الموت وحده هو الكفيل بتغيير رأس هذا النظام أو ذاك، أو من فعل القوى الغربية، التي تدخلت في حالة العراق مثلا لتغيير النظام. وإذا كان الموت يغير رأس النظام لا غير، بل ويأتي غالبا بنجل الرئيس السابق كما حدث في سوريا، وكما كان مخططا له أن يحدث في مصر واليمن وليبيا، وإذا كنا لا نقبل بالتدخل الأجنبي، حتى وإن كان لتغيير النظام، على الطريقة العراقية خاصة، فلم يكن أمام المثقف القومي العربي، بل والشعب العربي إجمالا، إلا أن يفاضل بين مستبد عميل للغرب وللقوى المعادية للعرب، ومستبد آخر يرفع خطاب المقاومة والرفض. وعلى ذلك انقسم النظام العربي حتى لحظة انطلاق شرارة الثورة العربية إلى محور الاعتدال الذي يسير في ركب الولاياتالمتحدة والغرب ومحور المقاومة الذي كانت سوريا تقف على رأسه، أو ربما تقف فيه وحيدة كدولة. لكن الشعب العربي اليوم يفترض أنه أفلت من رحى هذه المقايضة التي طالما سحقت ضميره بين المقاومة وتقبل الاستبداد. فالخيار الجديد الذي أتاحته لنا الثورة يخيرنا بين نظم ديمقراطية حرة تعبر عن تطلعات وآمال شعوبها ونظم مستبدة لا هم لها إلا استمرار بقائها في السلطة بتوظيف خطاب مقاومة أجوف خالي من أي مضمون. فقد أثبتت الثورة الديمقراطية العربية، حتى في هذه اللحظة المبكرة جدا من عمرها، أن الاستبداد هو العدو الأول للقضايا القومية العربية وتطلعات الشعب العربي. فالمستبدون، حتى المقاومون منهم، ضعفاء في مجتمع دولي ديمقراطي لا يحترم إلا القادة المنتخبين والدول الديمقراطية. لذلك لا بد أن يتوقف المثقف القومي العربي عن تلمس الأعذار والحجج للنظم المستبدة التي تتشدق بخطاب المقاومة، وعلى رأسها النظام الحاكم في سوريا. ولا بد أن يعلن هذا المثقف القطيعة النهائية مع هذا النظام الذي يقتل شعبه وينكل به في الشوارع وأمام كاميرات الإعلام. ولا خوف على المقاومة عن القضايا العربية صغيرها وكبيرها. فقد أثبتت الأيام الأخيرة، كما كنا نقول دائما، أن الديمقراطية هي الضمانة الحقيقية للدفاع عن الحقوق العربية في نظام دولي يعتمد الديمقراطية باعتبارها المعيار الأول للدول الحديثة التي تُحتَرم ويمكن التحاور والتفاوض معها. والأهم من ذلك أن عدم القطيعة مع النظام السوري الوحشي يعتبر خيانة للشعب السوري العزيز الذي يقتله هذا النظام وينكل به في الشوارع. ولا شيئ إطلاقا يمكن أن يُقبل كتعويض عن هذا القتل وذلك التنكيل المتواصل حتى من قبل اندلاع ثورة الشعب السوري في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، حتى وإن كان خطاب مقاومة لم يتحول أبدا إلى فعل مقاوم.