الخروج على إمام المسلمين حرام بإجماع من يعتد بقوله، ولم يختلف فيه إلا أهل البدع كالخوارج والمعتزلة وغيرهم، حتى قال أبو قلابة: (ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف) رواه الآجري في الشريعة. والعلماء تطرقوا لمسألة مهمة، وهي: اذا تغلب شخص على حاكم شرعي وأزاله، هل يسمع ويطاع للمتغلب؟ أم يحاول المسلمون خلعه؟ استنبط أهل العلم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (واسمعوا وأطيعوا وان تأمر عليكم عبد حبشي) على السمع والطاعة للمتغلب المسلم، وعلى هذا وقع إجماع العلماء. وهذا الأمر قد حصل في زمن ابن الزبير، قال العلامة السفاريني الحنبلي(ت1188ه) في لوامع الأنوار في شرح بيت"ونصبه بالنص والإجماع - وقهره فحل عن الخداع": لأن عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير -رضي الله عنهما-، فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعا وكرها ودعوه إماما، ولما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين وإراقة دمائهم وذهاب أموالهم. اه. وقد حرصت أن أذكر إجماعات أهل العلم عبر العصور قبل ذكر أقوال المذاهب الأربعة، ليطمئن المستيقن ولا يرتاب، ويتعلم الغافل فيحصل له الخير في الدنيا والآخرة. وهنا مسألة: كثير من الناس يظن أن الإجماع هو قول أصحاب الأئمة الأربعة، وهذا خطأ، فالإجماع يشمل الأئمة الأربعة وغيرهم، كمذهب الظاهرية، والمجتهدين. قال شيخ الاسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10/20): وأما أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم، فليس حجة لازمة ولا إجماعًا باتفاق المسلمين. اه. الإجماعات التي ذكرها العلماء: 1) قال أبو الحسن الأشعري (ت324ه) في رسالة إلى أهل الثغر (ص296): وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وعلى أن كل من ولي شيئًا من أمورهم عن رضىً أو غلبة وامتدت طاعته من بَرٍّ وفاجر لا يلزم الخروج عليهم بالسيف جار أو عدل، وعلى أن يغزوا معهم العدو، ويُحج معهم البيت، وتدفع إليهم الصدقات إذا طلبوها ويصلى خلفهم الجمع والأعياد. 2) وقال ابن بطال (ت449ه) في شرحه على صحيح البخاري(8/10): والفقهاء مجمعون على أن الإمام المتغلب طاعته لازمة. 3) وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري(7/13): وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وان طاعته خير من الخروج عليه. 4) وقال الحجاوي الحنبلي (ت968ه) في الإقناع لطالب الانتفاع (277/4): نصب الإمام الأعظم فرض كفاية، ويثبت بإجماع المسلمين عليه كإمامة أبي بكر، من بيعة أهل الحل والعقد من العلماء، ووجوه الناس بصفة الشهود، أو بجعل الأمر شورى في عدد محصور ليتفق أهلها على أحدهم ، فاتفقوا عليه، أو بنص من قبله عليه، أو باجتهاد، أو بقهره الناس بسيفه حتى أذعنوا له، ودعوه إماما. 5) وقال الإمام محمد بن عبدالوهاب (ت1206ه) في الدرر السنية (7/239): الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء. أقوال أصحاب المذاهب الأربعة: 1) الحنفية: قال الحصكفي الحنفي (ت1088ه) في الدر المختار: وتصح سلطنة متغلب للضرورة. اه. وقال ابن عابدين الحنفي (ت1252ه) في حاشيته(450/4): الامام يصير إماما بالمبايعة أو بالاستخلاف ممن قبله. قوله: (يصير إماما بالمبايعة) وكذا باستخلاف إمام قبله، وكذا بالتغلب والقهر كما في شرح المقاصد. اه. 2) المالكية: قال ابن أبي زيد القيرواني المالكي (ت386ه) ويُلقب ب"مالك الصغير"، قال في رسالته المعروفة "مقدمة ابن أبي زيد القيرواني": فمما أجمعت عليه الأمة من أمور الديانة، ومن السنن التي خلافها بدعة وضلالة ... - ثم قال - : والسمع والطاعة لأئمة المسلمين، وكل من ولي من أمر المسلمين عن رضا أو عن غلبة، فاشتدت وطأته من بر أو فاجر، فلا يخرج عليه جار أم عدل ... - ثم قال -: وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث علىما بيناه، وكله قول الإمام مالك، فمنه منصوص من قوله ومن معلوم من مذهبه. اه. وقال الدردير المالكي (ت1201ه) في شرح الكبير (298/4): اعلم أن الإمامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلاثة؛ إما بإيصاء الخليفة الأول لمتأهل لها، وإما بالتغلب على الناس؛ لأن من اشتدت وطأته بالتغلب وجبت طاعته ولا يراعى في هذا شروط الإمامة؛ إذ المدار على درء المفاسد وارتكاب أخف الضررين. اه. 3) الشافعية: قال الامام الشافعي(ت204ه): كل من غلب على الخلافة بالسيف حتى يسمى خليفة ويجمع الناس عليه فهو خليفة. رواه البيهقي في مناقب الشافعي (449/1). وقال ابن حجر الهيتمي الشافعي (ت973ه) في "تحفة المحتاج في شرح المنهاج": المتغلب يصير كالحاكم لدفع المفاسد المتولدة بالفتن لمخالفته. اه. 4) الحنابلة: قال الإمام أحمد بن حنبل (ت: 241ه) في رسالته "أصول السنة": ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين، وقد كان الناس اجتمعوا عليه، وأقروا له بالخلافة بأيِّ وجه كان بالرضا أو بالغلبة؛ فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية. اه. وقال ابن قُدامة الحنبلي (ت621ه) في المغني (9/5): وجُملة الأمر أن من اتفق المسلمون عَلَى إمامته، وبيعته، ثبتت إمامته ووجبت معونته لِمَا ذكرنا من الحديث والإجماع، وفي معناه من ثبتت إمامته بعهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم أو بعده إمام قبله إليه فإن أبا بكر ثبتت إمامته بإجماع الصحابة عَلَى بيعته، وعمر ثبتت إمامته بعهد أبي بكر إليه، وأجمعَ الصحابة عَلَى قبوله، ولو خرج رجل عَلَى الإمام فقهره وغلب الناس بسيفه حتَّى أقروا له وأذعنوا بطاعته وتابعوه صار إمامًا يَحرم قتاله والخروج عليه، فإن عبد الملك بن مروان خرج عَلَى ابن الزبير، فقتله واستولى عَلَى البلاد وأهلها حتَّى بايعوه طوعًا وكرهًا، فصار إمامًا يَحرم الخروج عليه، وذلك لِمَا فِي الخروج عليه من شق عصا المسلمين وإراقة دمائهم وذهاب أموالِهم. اه. تنبيه: لقد حرصت على ذكر أقوال الأئمة من الكتب المعتمدة في المذهب. فربما تجد حنفيًا أو مالكيًا أو شافعيًا أو حنبليًا يقول خلاف القول المعتمد الذي ذكرته من كل مذهب، والجواب على هذا الإشكال؛ قال شيخ الاسلام ابن تيمية في "الدليل على بطلان التحليل": الأئمة قد انتسب إليهم في الفروع طوائف من أهل البدع والأهواء المخالفين لهم في الأصول مع براءة الأئمة من أولائك الأتباع، وهذا مشهور. اه. عبدالله بن خالد شمس الدين [email protected] @Ashamsalden