مر منذ يومين الذكرى 121 لميلاد العقاد ولم يذكره احد رحمه الله علينا قبل أن يكون عليه. ولد عباس محمود العقاد بأسوان يوم 28 يونيو عام 1889 – بدأ الكتابة فى سن التاسعة من عمره وكانت أول قصيدة نظمها فى حياته فى مدح العلوم. ويذكر العقاد فى كتابه "أنا" أن سر اسم العقاد أن جده لابيه كان من أبناء دمياط وكان يشتغل بصناعة الحرير ثم انتقل إلى المحلة حتى يتخذها مقرا لنشاطه ومن هنا اطلق الناس عليه اسم "العقاد" أى الذى يعقد الحرير والتصقت من هنا به الكلمة واصبحت علما. كان نهما للقراءة منذ طفولته فقرأ فى بادئ الامر من مكتبة والده إن جاز التعبير بعض كتب التاريخ والسيرة النبوية وتراجم الأولياء الصالحين ومجموعة كبيرة من اعداد صحيفة "الأستاذ" لعبد الله النديم و"الطائف" ايضا وصحيفة "العروة الوثقى" لجمال الدين الأفغانى ومحمد عبده ووصل به النهم فى القراءة إلى أنه كان يدخر مصروفه حتى نهاية الإسبوع ثم يذهب ليعطى هذه القروش القليلة لصاحب المكتبة كجزء من ثمن الكتاب حتى يكتمل الثمن ويشترى الكتاب وبهذه الطريقة استطاع قراة العقد الفريد، ثمرات الأوراق، المستطرف والكشكول والمخلاة ومقامات الحريرى وبعض الدواوين ولم تكلفه هذه المكتبة إلا ما يزيد عن نصف الجنية بقليل. ويذكر بالفضل كل من كان له ولو أضعف الأثر فى نشأته الثقافية وفى تأثيره عليه سواء بالسلب أو بالإيجاب وسواء قابل هؤلاء الأشخاص وعرفهم عن قرب أو حتى قرأ لهم أو عنهم, حتى أنه ليذكر عندما كان تلميذا وزار مدرسته آنذاك الشيخ محمد عبده وتنبأ له بأنه سيكون يوما كاتبا عندما قرأ له موضوعات الإنشاء فى كراسته وقال كلمته " ما اجدر هذا أن يكون كاتبا بعد.." وكان ذلك تشجيعا له وحافزا على المضى قدما فى هذا الطريق. ويذكر العقاد فى نفس الكتاب "انا" أن ثلاثة اشياء هى التى جعلت منه كاتبا ألا وهى التشجيع أولا لما له من اثر فى المضى قدما وهو على يقين من النجاح وخاصة إن كان هذا التشجيع من أهل الرأى والمشورة وثانيا الظروف وما تتيح وتمهد من أسباب النجاح وثالثا الرغبة ,وإن جاز تعبيرى لا تكون إلا بالإرادة والعزيمة القوية ولا تكون إلا بالإجتهاد والتذرع بالوسيلة الناجعة. يؤمن العقاد بهذا الثالوث مجتمع فلا غنى لأحدهم عن الآخر فى أى مجال، وعرف العقاد ما يريده وهو فى سن العاشرة، حيث عرف عشقه للكتابة ورغبته فى أن تكون له عملا مدى الحياة وقد كان له ما يريد. تدرج العقاد فى عدة وظائف حكومية ولكن لا يطيل البقاء فى وظيفة إلا ويستقيل وهكذا دواليك حتى استقال نهائيا من الوظائف الحكومية بغير ندم أو أسف فى وقت اعتبر فيه هذا العمل من قبيل الغرابة والاستنكار، حيث يقال أن الاستقالة كانت أندر من حوادث الإنتحار ، كما أنه كان شائعا وقتها " إن فاتك الميرى........" ولو كان حيا بيننا الآن لوجده أكثر شيوعا، ومن كلماته فى أمر الوظيفة "ليس فى الوظيفة الحكومية لذاتها معابة على أحد، بل هى واجب يؤديه من يستطيع، ولكنها إذا كانت باب المستقبل الوحيد أمام الشباب المتعلم فهذه هى المعابة على المجتمع بأسره، وتزداد هذه المعابة حين تكون الوظيفة – كما كانت يومئذ عملا آليا لا نصيب للموظف الصغير والكبير غير الطاعة...". فما بالنا باليوم لو رأى العقاد أنه حتى هذا الباب لم يعد متاحا لا للشباب ولا لغيرهم وبالطبع مثل هذه القوالب الجامدة للوظائف – لم يكن ليصمد فيها إنسان عملاق كالعقاد ثار على الجمود والركود وعدم إعمال العقل حتى فيما يؤديه من أعمال فهو يستحق لقب فيلسوف قبل كل شئ. ولم يكن العقاد يهوى القراءة ليكتب بل ليزداد عمرا فى تقدير الحساب ولأن لديه حياة واحدة لا تكفيه لتحريك كل البواعث و الكوامن بداخله ولكنها تزيد بالقراءة من ناحية العمق، فعندما تتقابل الأفكار والشعور والخيالات تمنح الأنسان قوة من العمق والفكر والأمتداد. قرأ العقاد فى فلسفة الدين، التاريخ الطبيعى، تراجم العظماء، كتب الشعر.... أى نستطيع أن نصفه بالمثقف الموسوعى إن جاز وصفنا له، ويشكر العقاد أوقات الفراغ فلولاها ولولا أنه استثمرها كما يجب لما قدر له النجاح فيقول إن الذى يعرف قيمه وقته يعرف قيمه حياته ويستحق أن يحيا وأن يملك هذه الثروة التى لا تساويها ثروة الذهب. ويصف الوقت الذى يضيع سدى دون جدوى أو فائدة بأنه عدم خارج الزمان، خارج من الحياة. فماذا لو راى حالنا هذة الأيام؟!.... ونظرا لولعه وشغفه بالقراءة ان توفيق الحيم تخيله فى بعض كتبه وقد دخل الجنة وذهب العقاد يطوف بأرجائها فإذا به لم يجد مكتبة ولا كتب فضجر منها وطفق يقول " ما هذا... جنة بغير كتب؟!.." رغم أن الحكيم كان يمزح إلا أنه يدلل على اهمية القراءة بالنسبة للعقاد وكيف أنها كانت ملمحا أساسيا من ملامحه وجزء لا يتجزأ من كيان الإنسان. وللعقاد صولات وجولات فى عالم الصحافة والأدب وخصومات لم تكن شخصية بقدر ماهى خلاف فى الرأى أو الفكر، حيث أنه كان معتزا برأيه وثقافته وقوة حجته مما دعى البعض لتسميته بالمغرور ولكن لماذا ننكر على شخص مثله أن يعتز بنفسه ولماذا نعتبر أعتزاز الانسان بنفسه وكرامته غرورا وهذا الاعتزاز لم يتأتى من فراغ. دل العقاد السجن تسعة أشهر من 13 أكتوبر1930 حتى 8 يوليو وذلك بحجة العيب فى الذات الملكية، حيث أنه خطب فى إحدى جلسات البرلمان - والذى كان أحد أعضائه- وقال "بأن الأمة على استعداد لسحق أكبر رأس فى البلد يخون الأمة ويعتدى على الدستور" فما كان إلا أن تم حل البرلمان وجاءت حكومة اسماعيل صدقى بعد حكومة مصطفى النحاس ودبرت هذه القضية وتم سجنه. اوجز العقاد فلسفته فى الحياة فى الكلمات التالية: غناك فى نفسك وقيمتك فى عملك، وبواعثك أحرى بالعناية من غاياتك، ولا تنتظر من الناس كثيرا.... وفلسفته فى العمل تتلخص كما قال فى ثلاثة أصول هى: قيمهة العمل فيه، وقيمة العمل فى بواعثه لا فى غاياته، واساس العمل كله نظام. أما سر انطواء العقاد فيرى أنه هناك فارق كبيرا بين السكوت خشية الكلام والسكوت لأنك لا ترى حاجة إلى الكلام، فما حاجته بعد كل هذا فعلا إلى الكلام – ألم تكن مؤلفاته تغنى عن أى كلام يرى أنه لغو ولا طائل من وراءه هذا سر عزلته وصمته. ماذا يمكن أن يقال عن مثل هذا الرجل الذى قال عن نفسه" لقد تعبت كثيرا فى تحصيل الادب والثقافة، ولكننى اعترف بعد هذا التعب كله بقصورى عن الغاية التى رسمتها أمامى فى مقتبل صباى. فلم أبلغ بعد غاية الطريق ولا قريبا من غايتهن وإذا قدرت ما صبوت إليه بمائة فى المائة، فالذى بلغته لا يتجاوز العشرين أو الثلاثين- هل هذا انسان يوصف بالغرور على كل ما قدمه للمكتبة العربية فى شتى المعارف ويصف نفسه بهذا فليحيا دقيقة ليرى أقزام هذا الزمان. ماذا أقول وعن من اتكلم العقاد الشاعر أم السياسى أم اللغوى أم الصحفى أم العالم أم الإنسان أم الفنان أم الفيلسوف...ألخ فقد كان ذا ثقافة موسوعية اتاحت له الكتابة فى جميع المجالات بنفس القدرمن الكفاءة والنبوغ، فإن اخترنا شيئا مما سبق فأفضل شئ هو أن نطلق عليه العقاد الفيلسوف فهذا اشمل وأعم وأدل أيضا على شخصية العقاد فكما كانت ثقافته موسوعية كانت كذلك مؤلفاته وحياته. اين لنا الآن بمثل هذا الفيلسوف الذى وصل إلى السبعين وهو على نفس الدرجة من الرقى والتقدم حتى أنه قال " ولئن تمنيت شيئا بعد السبعين، لتمنين أن أعيش فلا أعيش عبثا ولا فضولا وأن أعيش كما عشت بحمد الله على الدوام، أحقابا وأحقابا إلى الأمام، فأقول للناس اليوم ما كنت أقوله قبل عشرات الأعوام، فذلك هو العمر الذى أحتسبه سلفا وأعيشه قبل حينه، فلا يكلفنى إنتظاره إلى الختام.