كنا نتناقل أشعاره فى سنوات الجامعة سرا .. فقد كان ممنوعا من دخولها ..وكانت سنوات العمر الفتية تتحدى كل الممنوعات ..وعندما تم إعتقالى ضمن مجموعة من الطلاب الذين تمردوا على القوانين التى حجمت العمل السياسى الطلابى فى شتى جامعات مصر كانت أشعاره ضمن أناشيدنا التى كنا نرددها داخل السجن .. وكانت أشعاره معنا أيضا فى كافة المعتقلات التى دخلتها مع عدد آخر من السياسيين فيما بعد .. إنه رجل صنع له أعداء فى كل مكان بسبب صراحته التى عرت كل الوجوه على حقيقتها لذلك كان من الطبيعى أن يكون طريد الجميع ويكون أيضا ضد الجميع .. ألم يقل فى واحدة من أخطر واهم قصائدة : القدس عروس عروبتكم ؟ فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفا وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرس ؟ فما أشرفكم أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة ؟ أولاد القحبة لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم إنه الشاعر الجميل مظفر النواب .. إنه شاعر بلا وطن فقد كان يظن أن كل بلاد العرب أوطانه .. لكنه فوجئ بأن كل بلاد العرب نفته وشردته .. وساهمت فى تغريبه .. وأصبح اليوم بسبب إيمانه بعروبته ممنوعا من التداول ودخول كل الأوطان العربية .. تاريخه مجنون .. يضم عشرات الأوراق السرية مثل كل قصائده .. هو مظفر ابن عبد المجيد ابن أحمد حسين بن أحمد بن إقبال بن معتمد النواب . والنواب تسمية ربما جاءت من النيابة أى النائب من الحاكم حيث كانت العائلة تحكم إحدى الولايات فى الهند . أصل عائلة النواب من الجزيرة العربية وهاجرت العائلة إلى الهند باتجاه المقاطعات الشمالية لكنا وكشمير واستقرت هناك وأصبح أفرادها حكاما لتلك المقاطعات فترة من الزمن وحينما دخل الإنجليز الهند عارضتهم العائلة وقاومتهم وبعد هزيمة الهند عرضت عليهم الحكومة الإنجليزية النفى السياسى فاختاروا النفى فى العراق فجاؤا إلى العراق بثرواتهم وذهبهم وخصصت إنجلترا لهم رواتب نفى سياسى . وكانت بيوت عائلة النواب جميلة فخمة .. عبارة عن قصور تقع على شاطئ دجلة من جانب الكرخ وسنة 1934 ولد شاعرنا .مظفر وكانت ولادته عسرة كأنها كانت تكشف عن الأيام القادمة .. هو الإبن البكر ولم يكن والده عبد المجيد وهو من مواليد بغداد سنة 1910 يعمل بأى مهنة فهو ثرى وأرستقراطى كوالده أحمد حسن لأن العائلة ثرية وأرستقراطية وأم مظفر إسمها وجيهه بنت على من مواليد بغداد الرصافة . وكانت العائلة تقدم العطايا للمحتاجين بسخاء وتنفق أيضا بسخاء وكان البيت هادئ سعيد . ومظفر هو الأخ الأكبر لسبعة آخرين أربعة بنين وثلاثة بنات والدته درست للثانوية فى مدرسة الراهبات فى بغداد ومطلعة على اللغة الفرنسية وتجيد العزف على البيانو الذى كان فى بيت أبيها وأمه هى إبنة عم أبيه . وأبو مظفر كان يعزف على العود ويغنى فى جلساته العائلية التى يحضرها أفراد العائلة وخاله يجيد العزف على الكمان وجده يعزف على القانون وفى هذه البيئة نشأ مظفر . ولأن نفقات العائلة كانت ضخمة جدا فقد تدهور وضعها المالى وباع أبوه مالديه من قصر وأراضى وذهب ومرت أيام لم يكن لدى مظفر الطالب فى كلية الآداب ببغداد أحيانا حتى أجرة السيارة للذهاب إلى الجامعة فكان يذهب مشيا على الأقدام من الكاظمية إلى باب المعظم حيث تقع الكلية وهى مسافة تستغرق نصف ساعة بالسيارة . ********** أثناء الجامعة إنضم للحزب الشيوعى العراقى وبعد تخرجه عينوه مدرسا فى مدرسة متوسطة فى قضاء المسيب وفصل من عمله بعد شهور من تعيينه لأسباب سياسية بسبب إنضمامه للحزب فساءت أوضاع العائلة المادية أكثر لأنها كانت تعلق عليه الآمال وبقى عاطلا عن العمل منذ عام 1955 وحتى إنهيار النظام الملكى وقيام النظام الجمهورى فى 1958 وخلال ذلك وبالتحديد سنة 1956 كتب قصيدته العامية الشهيرة " للريل وأحمد " وهى أول قصائده وقد نشرت فى مجلة المثقف وأحدثت ضجة كبيرة وقد إستوحاها من موقف حدث له حيث كان يستقل القطار فى طريقة من بغداد إلى البصرة وكان فى المقعد المقابل فتاة ريفية جميلة على وجهها وشم جذاب مسافرة للبصرة . حزينة وعندما حادثها . حدثته عن المأساة فهى من قرية أم الشامات أحبت إبن عمها وإسمه أحمد وعرف بهذا الحب كل أهل القرية فرفض أهلها زواجه منها وتحول الأمر إلى مايشبه الفضيحة حيث كانا على علاقة قبل الزواج فهربت هى إلى بغداد خوفا من القتل وهناك مارست الدعارة رغما عنها وعندما مر القطار بقريتها ثارت ذكرياتها فتلقف النواب الخيط وعلى صوت القطار والآلام كتب قصتها بالعامية . ********** بعد سنة 1958 أى بعد إنهيار النظام الملكى تم تعيينه مفتشا فى مديرية التفتيش الفنى بوزارة التربية فى بغداد وسنة 1963 هرب من العراق بعد إشتداد الصراع السياسى بين القوميين والشيوعيين وهما القوتان السياسيتان الرئيسيتان فى العراق فى ذلك الوقت وبعد تعرض الشيوعيين لمزيد من الضغط والمحاكمات من قبل السلطة وهرب لايران عن طريق البصرة عبر بساتين النخيل المتاخمة للحدود مع إيران وإحتضنه الفلاحون فى قرى الأهواز العربية وأخفوه وعالجوه وساعدوه فى التوجه إلى طهران فى طريقه إلى روسيا لكنه فشل فى عبور الحدود الإيرانية الروسية فألقى القبض عليه فى قرية قريبة من الحدود إسمها ستارا وأعيد إلى طهران وهناك أخضع للتعذيب الجسدى والنفسى الشديد على أيدى جهاز الأمن الإيرانى " السافاك " وهو يشير إلى تعذيبه فى إحدى قصائده قائلا : فى طهران وقفت أمام الغول تناوبنى بالسوط وبالأحذية الضخمة عشرة جلادين وكان كبير الجلادين له عينان كبيتى نمل أبيض مطفأتين وشعر خنازير ينبت من منخاريه وفى شفتيه مخاط من كلمات كان يقطرها فى أذنى ويسألنى من أنت ؟ خجلت أقول له قاومت الإستعمار فشردنى وطنى غامت عيناى من التعذيب رأيت النخلة " ذات النخلة " والنهر المتجوسق بالله على الأهواز وأصبح شط العرب الآن قريبا منى والله كذلك كان هناك . وفى 28 ديسمبر 1963 سلمته السلطات الإيرانية للعراق هو ومجموعة من العراقيين الهاربين وبعد أيام بدأت السلطات فى البصرة بتسفير الموقوفين إلى بغداد وقدم النواب للمحكمة العسكرية العرفية فطلب المدعى العام العسكرى الحكم عليه بالإعدام إلا أن مساعى أهله وأقاربه خففت عنه الحكم للسجن المؤبد اى مدى الحياة ثم حكم عليه المدعى العام العرفى والحاكم العسكرى بثلاثة سنوات إضافية بسبب قصيدتة " البراءة " الشهيرة العامية . ففى أعوام الخمسينات والستينات دأبت الحكومات العراقية المتعاقبة على أخذ البراءات من السجناء السياسيين وبالأخص المنضمين لأحزاب سياسية معارضة فكان السجين يعلن بالجرائد المحلية تبرأه من إنتمائه لأى حزب ويعلن ولاءه للحكومة القائمة فتطلق السلطة صراحة وإعادته إلىعمله وكان هذا الأمر مرفوضا لدى السياسيين لما فيه من إذلال ومهانة متعمدة من السلطات وفى سنة 1964 وخلال وجوده فى السجن نظم هذه القصيدة العامية حيث تقول أم عجوز لإبنها المسجون لتصلب موقفه حتى لايعطى البراءة : ياعمد بيتى وكمر ليلى وربيع الغيب والعمر الجيته حبيت أهزل ياعمد بيتى لكون الدهر ضعضع عظم منك للمذله للخيانة وساومت جرحك على الخسة وجفيته يابنى خل الجرح ينطف خل يرعف خل ينزف يابنى جرح اليرفض شدادة على ثوار يرفرف ياابنى إبن الجلب يرضع من حليبى ولا إبن يشمر لى خبرة من البراءة يا ابنى ياكلنى الجرب عظم ولحم وتموت عينى ولا الدناءة يا ابنى هى أيامى يفرزنها الكحط أيام محنة يا ابنى لاتثلم شرفنا يا ابنى ياوليدى البراءة تظل مدى الأيام عفنة تدرى يا ابنى بكل براءة كل شهيد من الشعب ينعاد دفنه وخل إيدك على شيبى واحلف بطاهر حليبى كطرة كطرة وتنظر عينى العميته كلى ماينهار ركنى وانت أمى وذاك حزبى وغد أبوى المالوانى ومالويته كلى كل ما اهدم حزب بيدى بنيته وبعد صدور تلك الأحكام ضده نقل إلى سجن نقرة السلمان وهو سجن صحراوى بعيد جدا وسئ الصيت يقع فى عمق الصحراء الجنوبيةالغربية من العراق قرب الحدود السعودية وبعد فترة فيه نقل إلى سجن الحلة وهو السجن المركزى لمحافظة الحلة الواقعة جنوببغداد وسنة 1967 هرب النواب مع مجموعة من السجناء من ذوى الأحكام الثقيلة عن طريق نفق طويل مظلم تحت الأرض يمتد من السجن إلى مكان بعيد عنه منتهيا فى ساحة أحد الكراجات بواسطة سكاكين المطبخ فقط . وأحدث هروبة ضجة فى عموم البلاد واختفى فى بغداد ستة شهور ثم توجه بعد ذلك إلى الأهوار فى الجنوب حيث إنطلق الكفاح المسلح فى الريف وعاش مع الفلاحين فى مناطق الغراف والحى التابعة لريف الكوت مايقارب السنة وبعد عام 1968 صدر عفو عام عن الهاربين فرجع إلى سلك التعليم فى بغداد وعين فى حى المنصور " من الأحياء الراقية فى العاصمة " . ثم مالبثت أن حصلت موجة من الإعتقالات فى صفوف الشيوعيين بعد قيامهم بعمليات إغتيال شملت عدد من الشيوعيين الذين تعاونوا مع السلطة الحكومية فتم إعتقاله فى تلك الحملة وافرج عنه بمساعى أحد قدامى السياسيين . وسافر إلى بيروت وبقى فيها ستة شهور وذهب لزيارة دمشق وعند عودته منعوه من دخول لبنان فرجع إلى دمشق ومكث لفترة طويلة ثم سافر للقاهرة ومنها إلى أريتريا ومكث بها شهور تعايش خلالها مع ثوار أريتريا ثم سافر إلى ظفار واقام فيها ثلاثة أسابيع إطلع خلالها على واقع الثورة التىكانت مندلعة آنذاك فى مناطق ظفار وساحل عمان ثم ذهب للقاهرة ومكث فيها سنة ونصف ثم عاد لبيروت واقام فيها سنة ثم سافر لدمشق سنة 1973/1974 ومن سوريا إلى العراق سرا من المنطقة الشمالية وبقى داخلها أربعة شهور وعندما عاد إلى بيروت عن طريق دمشق وجد جميع لوحاته وأوراقه ووثائقه قد سرقت مع باقى أثاث شقته فلم يكد يستقر فى بيروت حتى سافر إلى اليونان سنة 1976 وخلال سفرياته وتجواله بدأ النواب بالميل نحو التفكير المستقل الحر والإبتعاد عن الإلتزامات الحزبية والتنظيمية وبدا الإنفكاك التدريجى عن الحزب الشيوعى معززا فى نفس الوقت أسلوبه فى النضال والممارسة الثورية . ********** وسافر النواب إلى اليونان لمدة 4 سنوات سافر خلالها إلى ليبيا بدعوة لمدة أسبوعين وبعد اليونان سافر إلى فرنسا بهدف الدراسة فانتسب إلى جامعة فانسان وسجل رسالته لنيل شهادة الماجستير حول موضوع القوى الخفية فى الإنسان واستطاع خلال وجوده فى فرنسا طبع ديوانه " المساورة أمام الباب الثانى " وديوان " وتريات ليلية " وبقى فى فرنسا ثلاث سنوات ثم حصلت الثورة فى إيران فسافر إلى طهران سنة 1982 ومنها إلى الهند الصينية وبانكوك حيث المعابد البوذية وطباع الناس وعاداتهم التى كان يحتاج للإطلاع عليها للإستفادة منها فى دراسته ومن بانكوك عاد إلى اليونان . وقد أقام أمسيات شعرية فى الجزائر تردد صداها الناجح فى كل مكان وبناءا على دعوات له حاضر والقى قصائده فى ليبيا والسودان وأمريكا اللاتينية ولم يعش فى حياته المغتربة سوى قصة حب عاطفية لم يكتب لها أن ترى النور وربما أشار لها فى قصيدته " الرحلات القصية " حيث تقول : تفتح حزن كثير غداة افترقنا ولست على أحد نادما غير قلبى فقد عاش حبا معاق من أشعاره العامية قصيدة عودتنى : عودتنى أنتظر وارسم علة الأيام موعد عودتنى العيد يعنى الناس ووياهم أعيد ردت أكلك والتهنية وفاركتنى ردت أكلك عودتنى عودتنى أترك ببيتك بطاقة عيد وموعد واكتب ببابك إذا مسافر جلمتين ولكيتك سافرت من غير رجعة وعودتنى ويقول مظفر عن الشيخ إمام الذى تعرض للسجن والمطاردة والإضطهاد على يد السلطات المصرية بسبب مواقفه الوطنية وإنحيازه إلى الفقراء من شعب مصر : ومهما السجون تضم إماما يظل على شفة الكادحين الغناء ومصر التى فى السجون مع الرفض أما التى فى البيانات فمصر البغاء وحاشا فان النيل مايغسل الدهر مهما طغى الحاكمون الجفاء ومن قصيدتة فى الحانة القديمة يقول شاعرنا : سبحانك كل الأشياء رضيت سوى الذل وأن يوضع قلبى فى قفص فى بيت السلطان وقنعت أن يكون نصيبى فى الدنيا كنصيب الطير لكن سبحانك حتى الطير لها أوطان وتعود إليها وأنا مازلت أطير فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر سجون متلاصقة سجان يمسك سجان ومن قصيدتة " كيف نبنى السفينة فى غياب المصابيح والقمر " : آه يعقوب راقب بنيك فما افترس الذئب يوسف لكنه الجب آه من الجب فى الأمة العربية آه فأنا واقف فى العراء أدونهم حطموا رقما فى الخيانة أجمعهم وأحاسبهم باسم عشرين ألف دم إن علم الشوارع علم عظيم .. .. .. مصر سيرى بالأناشيد وخلى خبز أشجانك أطفالك والأزجال فى وجه المتاريس أمام السجن فى الساحة سيناء بهذا السجن إيمانك والقرآن والوحدة والإعداد للثورة ملقاة بهذا السجن غنيهم بحر البقر الدامى بعبد المنعم رياض المدفون فى النسيان بأيام التلامذة وعم حمزة وبيت لبيت والله اكبر زغردى نارا وبركانا من الخزن الصعيدى لوجه الرجل للحظة والتاريخ والبذل لهم للفتية السمر كونى الرعد كونى الوعد هدى السجن يامصر إكتبى الأسماء آيات على وجه المساجد . من الأرشيف القديم لجريدة شباب مصر الإلكترونية إضغط هنا لقراءة أصل المقال الموجود حتى الآن على الإنترنت